شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الاعتياد على التعب... شخص واحد وأشباه كثُر

الاعتياد على التعب... شخص واحد وأشباه كثُر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والفئات المهمشة

السبت 23 مارس 202411:42 ص



في الحي الذي لا أسكن فيه، أرى رجلاً ذا وجه مألوف ونسخة مكرّرة، لمحة واحدة من ملامحه تكفي لمعرفة تاريخه بالكامل، وتاريخ الآلاف من أقرانه، وباستطاعتي الآن سرد كل تفاصيل حياته، عدد الأعوام التي كابد فيها، هروبه من المؤجّر، الوساوس التي تدور في رأسه وفشله التام في مواجهة نكد زوجة لا تكف عن تذكيره كل ليلة بأنه أكثر الرجال فشلاً في العالم.

أراقب مرور هذه البشرة الحادة، وعليها تقاسيم معجونة بزمن مثقل بالالتزامات والخيبات. تقريباً، لم يسبق له أن سمع باسم ماركس، ولا يفهم شيئاً في النقد الاقتصادي، لكنه يدرك فطرياً أن ثمة خطأ وجودي في كيفية العيش البشري، يجعله هكذا، متعباً وفقيراً، وهناك آخرون، أغنياء على حسابه، أغنياء يصنعون ثرواتهم من عرق جبينه، بينما يترك هو بعيداً، دون أن يحصل على نصيبه من السعادة المتداولة، ولا من الاستهلاك الذي يفرح القلوب.

لا يستسلم لضرورات التواصل، ولا يتكلم مع أحد. صامت، يداري الضجيج الذي يسكنه، وبجدية مبالغ بها يستمرّ في طريقه المحدد مسبقاً. لا يعرف آخر مرّة ضحك فيها ولا آخر مرّة بكى أيضاً، ويبدو أن عالمه محدود بالخيبات المتراكمة مع العمر، ولأن أي صداقات جديدة قد تعمل على ضياع وقته، وبالتالي ستؤدي إلى جوع أطفاله، ينأى بنفسه عن الحوارات اليومية.

لم يعد يتذكر الكثير من طفولته لأنها حالكة، وبلا مرح يستحق أن يتذكّره. طفولة معتمة إن جاز القول... مجاز

لم يعد يتذكر الكثير من طفولته لأنها حالكة، وبلا مرح يستحق أن يتذكّره. طفولة معتمة إن جاز القول، حتى فرحة انتصار نسيم حميد لم تعد راسخة في ذهنه، والقصائد القصيرة التي سمع أباه ينشدها عندما كان طفلاً، وعلقت في عقله، بدأت تتناقص، لأن الشعر لا يؤكل مع الشاي، والأمثال الشعبية التي كان يظنّ أنها سترافقه إلى الأبد، لم يعد يستحضرها، ويقف أحياناً حائراً، يحاول أن يجد جملة تناسب الموقف لكنه لا يستطيع. فيشيح بيده ويمضي. ولا يقلقه هذا النسيان، بل حتى لا يفكر في استعادة تركيزه، لأن التذكّر يعني ألماً إضافياً لا يحتاج أن يضيفه إلى مخزونه الأصلي.

يمضي، بقميص قديم، مهترئ ولم يعرف المكواة قط، وبنطلون اجتاز العالم موضته قبل أربعين عام. هذه  الملابس التي لا تناسب السنين الحالية، لا تتجلّى عليها الفجوة الزمنية، فهو يعيش في هذه البلد، والتي أساساً تعيش في زمن لا يناسب الحاضر، ولا حتى الماضي القريب، بل العصور القديمة، والقديمة جداً. بلد لم تمرّ عليه الثورة الصناعية ربما، ولا احتمالات الموضة. بلد مرهق فحسب.

أستمر في تأمل هذا العابر. يبدو أن لدية حساسية مفرطة تجاه الأشياء، الكلمات والأشخاص، إلى حدّ يجعل المقربين منه يتصنّعون معاملة خاصة معه، كي لا يمسوا أو يقتربوا من شيء يمنح أعصابه فرصة الاندفاع، وأي فجاجة يتطلبها شخص ما كي يقترب منه، ليقنعه بأن هذا المزاج تجاوزه الزمن، وأن هذه العقلية القديمة لم تعد مجدية لهذا القرن، لكنه، على أي حال، يستحق التعاطف، فهو على أقل تقدير، لم يتسبب في أي وضع سيء يعيشه البلد، ولم يساعد في استمرار هذا الصراع قط، بل إن أصحاب الأمزجة الجيدة والبدلات الفاخرة هم خلف كل شيء، أما الفقراء أمثاله فيحملون الشعور بالذنب فقط.

رغم انفصال ذهنه عن ما يجري، جسده يجسّد الواقع القاسي، ويعيش بعيداً كل البعد عن ترند المساء على مواقع التواصل الاجتماعي. لا يعرف عن كرة القدم سوى زجر أولاده بالتوقف عن ركلها مع دخول الليل، ولم يسبق له بأن سمع باسم فرزاتشي وبوجاتي، وهوليود لا تستهدفه في إصداراتها الجديدة. بذلك قد جعل حياته اليومية الجافة هي كل الشأن العام، هذا الذي نجا من الاحتشاد لصالح الصراع الطائفي، لكنه، وبكل تأكيد، سقط في نتائجه.

إنها الخامسة مساء. يعود إلى بيته بعرق يكفي لغرق قارّة، وتعب وافر لإسقاط أمة كاملة... مجاز

إنها الخامسة مساء. يعود إلى بيته بعرق يكفي لغرق قارّة، وتعب وافر لإسقاط أمة كاملة. يرجع وقد جلب بعض الأشياء لمن ينتظره في المنزل. لا أعرف عددهم، وربما لا يعرف هو حتى، لكن ثمة علامات تدلّ أن هناك جيشاً من الجوعى بانتظار قدومه. لا أعرف كيف يتعامل معهم. هل يدللهم، أم يضطهدهم، لكن، وبكل تأكيد، كان إنجابهم بمثابة مصيدة له دون أن يعي، ولن يعي على الإطلاق، فهو على أتم الاستعداد لممارسة جنسية عشوائية في المساء نفسه، لإنجاب جثة جديدة، تلقي ثقلاً على ثقله، أو بالأصحّ، تضاعف هذا الثقل الذي يرافقه منذ فترة طويلة.

لحظات رياح شديدة من خريف لا يرحم أحداً، وأنا في زيارة لأحد الأصدقاء المقيمين في الجهة الأخرى من العاصمة. التوقيت يقترب من الغروب، وبقائي على سطح المبنى، وحيداً أمام المدى الممتد، منحني شعوراً بالوحشة من مشاهدة المشاعر الشاقة التي تملأ الشارع العام.

 لقد مر الكثير من الوقت، وعبر أمام عيني العديد من الأشخاص، لكنه، وحده، ذلك الشخص، بقي راسخاً في ذهني رغم اختفائه عن نظري، ولازلت أفكر في توحّده مع أحزانه، وقد اعتاد على التعب إلى الحد الذي يشعر معه أن السعادة التي يحصل عليها من وقت لآخر، فخّ نُصب له من القدر، ويجب عليه ألا يقع فيه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image