شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أعيش بصخب، داخل صدفة سلحفاة

أعيش بصخب، داخل صدفة سلحفاة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 9 مارس 202412:19 م



حين استقلت من وظيفتي التي بقيت بها أربعة أعوام، تم انتقادي من كل دوائري. أنبتني عائلتي لأنني لا أكمل شيئاً لنهايته، فتساءلت في داخلي إن كانوا يقصدون إحالتي للمعاش أم موتي؟ حدثني أحد الأصدقاء أن تركي المستشفى مخاطرة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وعن مدى تأثيره السلبي على استقلالي المادي الهش.

أفكر أن سبباً رئيسياً لتلك الموجة الانتقادية ينبع من أنني نفّذت قراري وتركت العمل بسرعة فاجأت الجميع ونفسي بها. أردّد منذ عام ونصف مساوئ العمل في المستشفى، والضغط النفسي الذي أشعر به طيلة الوقت نتيجة طبيعة العمل مع المرضى والزملاء، لكن لم أقدم يوماً على خطوة واحدة لتركه، ربما لخوفي من الإفلاس، أو لعله للمحافظة على سماع جملة: "الدكتور راح والدكتور جه".

*****

استيقظت في اليوم التالي للاستقالة، في السابعة صباحاً. عدوت نحو دورة المياه، ثم اتجهت للمطبخ حتى أعد فطوري، ومع سماعي صفارة الميكروويف، توقفت عما أفعله للحظة، مدركاً خلالها أنني لم أعد أعمل. أطفأت الكاتل واتجهت إلى غرفتي، سامعاً الحركة الدائرة في البيت حتى غادره جميع أفراد أسرتي في تمام الثامنة صباحاً.

حاولت الغوص في النوم مرة أخرى، لكن تخلّل محاولاتي أحلام مزعجة، اختصرها ذهني في مشهد واحد: أسير في العنبر الآخذ في الانكماش كلما تقدمت نحو نهايته ممسكاً بنوتة ملاحظاتي. أكاد أختنق. أتنفّس بصعوبة وسط بكاء الأطفال المحجوزين الآخذ في الارتفاع.

خفت الصراخ فجأة. لا أسمع سوى صوت خبط وتيرته ثابتة. ظننته في البداية نبض قلبي، ففتحت عيني واضعاً يدي على صدري. بحثت عن مصدر الصوت المستمر، حتى لاحظت محاولات سلحفاتي للخروج إلى الشرفة المشمسة. نهضت لأفتح النافذة كي تخرج إلى الشمس. انطلقت في أنحاء البلكونة بمجرد فتحي الباب. ووقفت أراقبها لبعض الوقت في امتنان لانتشالي من هذا الحلم .

أخبرتني أمي خلال أحد جدالاتنا الأخيرة: "انت عايش جوه صَدَفة ومش عايز تطلع منها". فكرت كثيراً في كلامها، متسائلاً إن كانت تعنيه حقاً، أم أنه كلام الغضب؟... مجاز

*****

حين أخبرتني أمي خلال أحد جدالاتنا الأخيرة: "انت عايش جوه صَدَفة ومش عايز تطلع منها". فكرت كثيراً في كلامها، متسائلاً إن كانت تعنيه حقاً، أم أنه كلام الغضب؟

لم تعلمني سلحفاتي الصبر والمثابرة حتى الوصول، كالقصص الشعبية المعروفة عنها. 

أحب سلحفاتي، وأدرك غرابة هذا التصريح. ربطتني بها علاقة من الصمت والعزلة دامت ثمانية عشر عاماً. أردت في طفولتي اقتناء كلب منقط كالذي ظهر في فيلم ديزني "101 كلب"، لكن أبي، الذي صاحبه كلب خلال طفولته وأمي التي ربت قطة، كان لهما رأي آخر. 

اكتشفت وجود سلحفاتي في المطبخ، يوم عودتي من المدرسة. لم أعرف إن كانت ذكراً أو أنثى. سألت عائلتي، لكن لم يعرف أحد الإجابة، فاعتبرتها ضمنياً أنثى، وأسميتها "هرميون"، أسوة ببطلة سلسلة هاري بوتر التي كنت أقرأها في تلك الفترة وأهيم بها.

*****

تطورت علاقتي بسلحفاتي مع مرور السنين. اعتنيت بها وصرت أطعمها بيدي وأضعها جوار فراشي قبيل نومي، وفي أحيان أخرى أجعلها تشاهد معي الكرتون. بدأت تعرفني ببطء، وأخذت علاقتي بها منحنى جديداً خلال فترة مراهقتي وبداية اكتئابي، حين وجدت نفسي عصياً على الفهم حتى من أقرب الناس إلي، فانعزلت عن الجميع. 

كان مفروضاً علي خطوط سير ثابتة ممنوع الحياد عنها. أذهب إلى المدرسة صباحاً، ثم أعود للغداء والمذاكرة ليلاً حتى العاشرة، حين ينبغي علي النوم من أجل تكرار اليوم في الغد. أجبر في الإجازة الأسبوعية على حضور قداس، وإن كنت مطيعاً فسألعب مع من في سني حتى موعد مدارس الأحد. تنتهي تلك الحرية الافتراضية في الخامسة مساء كي أعود للمذاكرة والنوم، فقد كان لدي مدرسة في السبت دوماً.

بدأت تمردي تدريجياً على تلك الخطوط في مراهقتي. حاولت الخروج مع أصدقاء الكنيسة خارج أسوارها، في السيبر أو أي نادي جوار المنزل، والتأخر لساعة عن موعد رجوعي. قوبلت هذه التصرفات بمقاومة شديدة من أهلي، سواء بالحرمان من الجلوس أمام الكومبيوتر أو الإم بي ثري والبلاي سيتيشن. كنا نزعق في بعضنا لساعات متواصلة في شجارات لا تنتهي، فلم يرغب أي منا في سماع وجهة نظر الآخر.

 أدرك حالياً أن كل ما صدر منهم كان نابعاً من خوف المجتمع الذين تربوا عليه منذ صغرهم. لكنني لم أفهم ذلك حينها، وإن عاد بي الزمن، فستتكرّر نفس الأحداث بحذافيرها. وجدت حينها الحل السحري كي يفهمني شخص عدا جدتي- التي أزورها أسبوعياً- في تلك العائلة، وكانت سلحفاتي هي الحل.

صنعت طقساً خاصاً كي تسمعني هرميون. أغلق باب غرفتي. أرفعها فوق مكتبي، ثم أربّت برفق على صدفتها لتخرج رأسها. أقدم لها دوائر من الخيار، قطعتها رفيعة للغاية كما تفضلها. تبدأ في القضم ولا أتوقف عن الكلام. أسررت لها بكل ما في نفسي. صرّحت لها بكراهيتي لمجتمعي المنغلق، ورغبتي في التحرّر منه. 

تخيلتها تستضيفني داخل صدفتها، وأجلس قبالها على الأريكة. نحتسي شاياً أو أي مشروب دافئ، وأبدأ في سرد يومي لها. تنصت لي بكل اهتمام، وحين تريد تأنيبي على خطأ قمت به، تتركني وحدي في منتصف الصدفة، لأراجع أفعالي.

*****

بكيت لسلحفاتي كراهيتي لجسدي الزائد وزنه، وشجاراتي المستمرة مع عائلتي. حدثتها عن فشلي في رياضة كرة السلة التي كنت أقصر من استمراري بها. حين كنت أتعب من الحكي، أقرأ لها أجزاء من هاري بوتر، وأعدها بأنني سأشتري لها سلحفاً آخر يؤنس وحدتها كـ "رون" في السلسلة، بشرط أن تظل موجودة لتسمعني وتستوعبني دون أية أحكام.

هربت مع هرميون من واقعي، متخيلاً عوالم كنت متحكماً فيها بمصيري، وهي مستشاري الوحيد الذي ألجأ له. حلمت بها مراراً وهي تتألم لأجلي، وتذرف الدموع حزناً على حالي. تمنيت دوماً أن تجيبني خلال كلامي بأن كل شيء سيكون على ما يرام.

تعمقت علاقتي بها، حين مرضت جدتي قبيل دخولي الجامعة. صارحتها بخوفي من فقدانها، واشترطت حين انتقلنا إلى بيتها اصطحابها معي. كنت أطلقها في منزل جدتي الواسع، فتتحرّك بحرية فيه، لكن تأتي عند قدمي كلما جاعت، فتعضها كي أنهض وأقدم لها ما تأكله.

رحلت جدتي. تركتني مراهقاً عاجزاً أمام موتها، وانقطع كلامي مع سلحفاتي. انتقلت إلى مدرسة جديدة مكوناً صداقات شغلت وقتي. اقتصرت علاقتي بها على إطعامها حين أراها قادمة نحو مكتبي، وفي أحيان أخرى أراقبها من زجاج النافذة وهي تلتهم طعامها بشراهة. 

*****

اكتشفت مع موت جدتي، مرارة الفقد والعزلة. فقد كانت الوحيدة التي بإمكاني الحديث معها دون سماعي لحكم يجرحني. تخيّلت سلحفاتي امتداداً لوجودها في حياتي، لكن فقد كلامي معها تدريجياً مذاقه مع مرور السنين. دخلت الكلية ومرت خمسة أعوام، بلا حديث واحد بيننا.

اقتصرت علاقتي بها على إطعامها، وفي آخر سنة بالكلية صارت أمي هي المتولية أمرها بالكامل. تناسيت وجودها معتقداً أنني بتلك الطريقة سأتخطى الموت وسنين العزلة. لكن كان بمجرد رؤيتي لها تقترب من مكتبي، ينكمش قلبي في صدري وأنقلها سريعاً إلى الشرفة. 

*****

في الفترة بين تخرجي وعثوري على عمل. تبدلت حياتي بالكامل. تمرّدت على كل شيء. لا أعرف إن كان سبب ذلك هو الفراغ المطلق، أم بقائي لمدد طويلة في المنزل مع سلحفاتي التي صرت أخافها. رجحت لفترة أن سبب كراهيتي لها هو أنني عريت دواخل نفسي لها، وأن وجودها أمامي يذكرني بكل ما مررت به من فترات مراهقة كئيبة، حاولت إنهاء حياتي خلالها العديد من المرات.

مثلت في ذهني، كل ما كنت أرغب في هجره، وتمنيت كسر صدفتها. اكتشفت أنني عشت حياتي داخل صدفة بالفعل، ومكوناتها هي: العائلة، الكنيسة والقراءة. تمحورت حياتي حول تلك العناصر السابقة، ولم أجدني في أي منها. أتحرك بين غرف الصدفة الثلاث في روتين يومي، غير معطٍ لشخصي متنفساً كي أسأل إن كان هذا ما أريده حقاً أم لا.

بكيت لسلحفاتي كراهيتي لجسدي الزائد وزنه، وشجاراتي المستمرة مع عائلتي. حدثتها عن فشلي في رياضة كرة السلة التي كنت أقصر من استمراري بها. حين كنت أتعب من الحكي، أقرأ لها أجزاء من هاري بوتر... مجاز

خشيت دوماً العالم الخارجي. تعرفت عليه من خلال الكتب والأفلام، لكن لم أجرب الحياة به في أحد الأيام. صنعت، لا إرادياً، خطوطاً موازية للتي وضعتها لي عائلتي. فمثلاً، اخترت وظيفتي الأولى بعيدة عن منزلي جغرافياً، كي تكون بمثابة متنفس لأوسع دائرتي وأخرج من صدفتي. لكن مع مرور السنين بها، وجدت نفسي محبوساً في دائرة جديدة، بين العمل وكونه عائقاً في تحقيق ذاتي.

*****

تخيّلت مراراً نفسي وأنا أقول لمديرتي في العمل: "أنا مستقيل". توقعت أن نطقي بتلك الجملة السحرية هو كسر لتلك الصدفة وانطلاقي منها نحو حرية بلا قيود. لكن لم يحدث أي من ذلك بالطبع، لكوني ساذجاً. عدت للمكوث في منزلي بصحبة سلحفاتي. 

لا تكف عائلتي عن سؤالي عما أنوي فعله بمستقبلي. لا أجيبهم، وأردّد إجابة واحدة في ذهني: "الهروب من صدفتي". كففت عن الذهاب إلى الكنيسة، وصرت أمكث أوقاتاً مطولة في غرفتي في عزلة اختيارية مستمرة. أخرج كثيراً وحدي في مسيرات مطولة.

أحاول خلال تلك المسيرات الغوص في أعماق ذاتي، أن أبحث عن مفاتيح التغيير.كنت ألقي على عاتق عائلتي أخطاء قرارات الماضي، ككليتي واختياراتي في الحياة. لكنني أدركت مع العلاج النفسي سذاجة تلك الوسائل الدفاعية.

حين أمكث في عزلة في داخل صدفتي، أرى كل شيء بوضوح. فلا جدوى من البحث عمن أجعلهم  شماعاتي، سواء عائلتي أو علاقات فاشلة. لن أعيد الزمن ولن أعيش في قوالب المجتمع المحيط بي.

أتأمل حياة سلحفاتي، فأجدها حرة. لم ترضخ لأي قالب حاولت وضعها به وقاومته، سواء بالتبرّز على سجادة غرفتي أو النوم في أماكن تجعل الوصول إليها شبه مستحيل. لم أحبها لحظة دخولها المنزل، لكني تكيّفت مع طبعها. أدركت أنها تعرفني، لكن بطريقتها الخاصة، وفكرت في تعليق أمي: أنا في داخل صدفة بالفعل، وليس من الضروري كسرها كي أحيا، فبإمكاني حملها والحياة في نفس الوقت!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image