شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كيف ستعود غزة جميلة بعد الحرب؟... كان على يدكِ أن تنجو يا زينات

كيف ستعود غزة جميلة بعد الحرب؟... كان على يدكِ أن تنجو يا زينات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 17 مارس 202402:47 م

قولي يا زينات إنّك تجرّبين طريقة مبتكرة في النّحت. قولي إنّ ما حدث مُجرّد خدعة بصرية. وإلا فكيف تُفسّرين تَحوّل صاروخ طائرة "F-35" إلى إزميل نحت؟ وكيف يمكن للناس أن يصدّقوا الخبر الذي كان من المفترض أن يظهر على شاشة الأخبار كالتالي: "تحلل جسد الفنانة وأصبح لوحة"؟.

أعرف أنك كنت تحبّين النحت كثيراً. لكن عليك أن تكوني منطقية قليلاً. فليس من المفترض يا زينات أن تتحللي لتصبحي المنحوتة الأهم في التاريخ. كان على شغفك أن يكون أقلّ حدة. رغم ذلك، لم يتحدث أحد عنكِ يا زينات. مرّ يوم الثاني من شباط/ فبراير كأيّ يوم من أيام الإبادة، لم ينقل أيّ صحافي خبر استشهاد فنانة بحجمك. لم تنكّس أعلام البلاد ولم أرَ أيّ فنان يبكي على الشاشات. إذن، لا تكذبي يا زينات وقولي إن ما حدث خدعة بصرية ليس إلا. ولذلك لم يلتفت إليها أحد. فما فائدة الخدع في الحرب؟

فتاة أنيقة تجيد صناعة الذكريات

زينات حسام شراب، فتاة في الرابعة والعشرين، منعها طيار إسرائيلي من الاحتفال بعيد ميلادها في السادس من شباط/ أبريل. عرفتْ مدينة خانيونس شبراً شبراً، عاشتْ في وسطها تماماً (منطقة البلد). أجادتْ الرسم على الكلمات المكتوبة، فكلّ الكتب التي اقتنتها يوماً ما تركت آثاراً على صفحاتها، ذلك لم يزعج أبداً من رآها بل أدهشه.

درست الفنون، ،أحبّت الرسم فامتهنته. تشهد على ذلك صورة فيروز وكلمات أغانيها على ظهر هاتفي وهواتف أصدقائي. أُغرمَتْ بالنحت ووضعت خيالها فيه، أما قلبها فكان من نصيب أحدهم، وكانت على وشكِ الارتباط به لولا الجنود. إذا طُلب من أحد أن يصفها سيقول:

"فتاة أنيقة. وجهها لا يبدو مدوراً، لكنه كذلك. تحبّ التجوّل في الطرقات، حتى أن شوارع خانيونس تعرفها جيداً، وليس العكس فقط. تجيد تحويل الصور إلى رسومات، والرسومات إلى صور. لا تؤرقها الأسئلة الوجودية، فهي أبسط من ذلك بكثير. كما أنها كثيراً ما تدعو الله أن يرحم عمّها سليم الذي أحبّته كوالدها. تعمل في متجر (لمسات) المتخصص في صناعة الهدايا والأشغال اليدوية، والواقع في شارع الميكانيكية مقابل شركة النفار. تجيد تغليف الهدايا على وجه الخصوص، وعندما تُمسك بغطاء هاتف نقال، فإنها تحوله إلى لوحة فنية. لهذا اعتاد أصدقاؤها الاعتماد عليها في صناعة ذكرياتهم".

أعرف أنك كنت تحبّين النحت كثيراً. لكن عليك أن تكوني منطقية قليلاً. فليس من المفترض يا زينات أن تتحللي لتصبحي المنحوتة الأهم في التاريخ

كان على شيء منك أن ينجو

كأن زينات كانت تعرف ما سيحدث، ففي عام 2018 كتبت تقول: "اتذكرونا.. إحنا كمان ضحكنا وزعلنا، رسمنا وغنينا وكتبنا كلام من القلب، وصوّرنا صور... إحنا كمان لازم يعرفونا وما ينسونا! إحنا بنستاهل".

هل كنتِ تعرفين يا زينات ما سيحدث قبل 6 سنوات من رحيلك؟ هل رأيت نفسكِ وأنت تتحللين بين ركام المنزل فكتبتِ ما كتبتِ؟ أم أن الأمر لم يكن سوى مزحة إضافيّة؟ تنبؤكِ مزحة ورحيلكِ مزحة. وإلا فكيف أُقنع الكاتب في داخلي أن فنانة رحلت دون أن تسقط أوراق الشجر لرحيلها، ودون أن تبكي أرصفة الشوارع لافتقاد آثارها؟

ألست أنت التي كتبت: "أنا متحف ممتلئ بالفنون. لكن عينيك مغمضتين". نعم، أنت. فما نوع الصاروخ الذي حوّل متحفاً كاملاً في قلبك إلى تراب؟ لقد كان على شيء منك أن ينجو، يد أو قدم أو ساق. كان على يدكِ بالتحديد أن تنجو يا زينات. وإلا، فكيف ستعود غزة جميلة بعد الحرب من دون يدك؟ إذا لم يكن الأمر مزحة يا زينات، فهذا يعني أن تظلّ غزة مدمّرة إلى الأبد. وأنت التي تحبينها، لن يهون عليكِ أبداً أن تتحول مدينتك إلى ركام، فعودي أو قولي إنك ستعودين يوماً ما. ألم تقولي: "أنا لا أرحل فجأة؟" فما الذي حدث يا زينات؟ كيف تبدّلت قناعاتك؟ ومتى؟

لقد حاولت يدك أن تهرب من الإبادة، لكنها لم تقو على الابتعاد سوى عدّة أمتار. يدك كانت تريد أن ترسم العالم مرةً أخرى، أن تعيد تشكيله من جديد وتجعل غزة واجهةً له

عائلة كاملة تقول: وداعاً

"ارتقاء عائلة كاملة من عائلة شراب في شارع الشهيد أسامة النجار في خانيونس".

"12 شهيداً من عائلة شراب عُثر عليهم متحللين ولم يتم انتشالهم بفعل قصف منزلهم قبل أسابيع في منطقة السكة وسط خانيونس".

بهاتين الصيغتين يا زينات نُشر خبر رحيلك في الثاني من شباط/ فبراير 2024. قرأته عبر قنوات الأخبار ولم أصدّق. رحتُ أسأل الأصدقاء واحداً واحداً، أحاول الوصول إليك، أكتبُ الكثير من الكلام في خانة محادثاتنا، لا إجابات ولا كلمات. تلقيت الصمت وحسب. كأن الكلمات كلها لم تعد مفيدة.

وصل الخبر إلى الصحافة يا زينات عن طريق فيديو سجّله أحد أقربائك على ما يبدو، كان يقول فيه: "هي في بنت هنا محللة". ثمّ قال: "هي في إيد هنا"، ثمّ قال: "هي في شعر هنا، في رأس".

وعلى الرغم من أنه لم يذكر اسمك، إلا أنني عرفت أن الجسد المتحلل هو جسدك، وأن اليد المقضومة بفعل الطائرة هي يدك. لقد حاولت يدك أن تهرب من الإبادة، لكنها لم تقو على الابتعاد سوى عدّة أمتار. يدك كانت تريد أن ترسم العالم مرةً أخرى، أن تعيد تشكيله من جديد وتجعل غزة واجهةً له. ولكنها لم تستطع ذلك. عجزت يدك عن الهرب، وقفت تتأمّل جسدك وهو يتحلل، وربما قالت كلاماً كثيراً لم يسمعه أحد، أليس كذلك؟

عالم ناقص يد

بعد عام أو اثنين أو عشرة، سيتذكرك الناس يا زينات. سيدركون مهارتك في تحويل الألم إلى لوحة، وإذا عدتِ مرةً ستجدين نصباً تذكارياً ليدٍ في وسط المدينة، لن يكون ذلك نصباً لجندي مجهول، بل نصباً ليدٍ تعرفينها جيداً، يدكِ، تلك التي تركتكِ وذهبت بعيداً، كانت تريد أن تبقى، أن تودّع العالم على طريقتها الخاصة ، أن تقول: تَحلل جسد الفنانة وأصبحَ لوحة، ولكن يدها ما زالت ترسم وستظلّ هكذا إلى الأبد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image