شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل تعرفون رمضان الفقراء؟

هل تعرفون رمضان الفقراء؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الاثنين 18 مارس 202412:02 م

أتذكر جيداً مائدة الفطور البسيطة في شهر رمضان في بيتنا، وأتذكر أيضاً كيف أن أمي كانت تفطر أغلب أيام رمضان على كأس ماء وصنف واحد من أنواع الطعام، مما كان يُعدّ قبل رمضان كوجبة للغداء. فقدوم شهر مضان لم يعنِ أبداً لعائلتنا الصغيرة، ولا لأغلب العائلات في حيّنا، تغييراً في طقوس الطعام أو الشراب أو حتى طريقة الحياة، فواجباتنا لم تنقص يوماً ولم تزد في هذا الشهر، وحتى ساعات النوم تبقى كما هي، اللهمّ استيقاظنا وقت السحور لشرب "دمعة" ماء.

كل التغيير الذي يحدث يتلخص بتأجيل تناول طعام الغداء الذي يلهث هذه المرّة ربّ الأسرة لتأمينه على معدة خاوية (حتى من الخبز الوجبة الرئيسية والأكثر قدرة على سدّ الجوع) لوقت الإفطار، وهذا كل شيء.

من اخترع رمضان (الدارج) اليوم؟

رمضان الفقراء إذن، لا يرتدي الكعب العالي، ولا يتبرّج، ولا يمتلك ملابس فارهة وعطوراً نفيسة. هو رمضان بسيط، على قدّ الحال، وإنّ ارتبط بشيء فلا يرتبط إلّا بما يعنيه وبما فُرض صيامه من أجله.  

رمضان الفقراء إذن، لا يرتدي الكعب العالي، ولا يتبرّج، ولا يمتلك ملابس فارهة وعطوراً نفيسة. هو رمضان بسيط، على قدّ الحال، وإنّ ارتبط بشيء فلا يرتبط إلّا بما يعنيه وبما فُرض صيامه من أجله

رمضان الفقراء لا علاقة له بموائد ترصد لها مبالغ كافية لإطعام حيّ بأكمله، ولا يتعلق، من قريب أو بعيد، بحفلات السحور والطرب في الفنادق والمطاعم، ولا يمتّ بصلة لدعوات الإفطار ونوم النهار. فالفقراء في رمضان هم ذاتهم الفقراء المغيبون عن مشهد الحياة، والمستخدمون دائماً كقرابين على مذابح الوطن والأديان والإنسانية، وفي هذا الشهر هم فقط، يصومون أكثر ويشعرون أكثر ويشكرون الله أكثر.

ولكن، أليس السؤال عن تلك المظاهر الغريبة، التي باتت جزءاً لا ينفصل عن طقوس هذا الشهر، سؤالاً مشروعاً؟ أليس من البديهي أن نحاول فهم كيف تم تحويل شهر، من المفترض أنه شهر للعبادة والصوم والزهد والتقشف والتقرب من الله والشعور بالمحتاجين والفقراء والمساكين، إلى سباق بين الأغنياء لاستعراض موائدهم وسفرهم على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، ليصبح هذا الشهر سبباً في توسيع تلك الحفرة الكبيرة التي لطالما عاش على ضفتيها فريقان مختلفان، ولتصبح الفروق الطبقية بين الناس أكثر وضوحاً وأكبر أثراً وأكثر تحريضاً لأسئلة الأطفال الذين غالباً ما يستغنون عن شراء قطعة حلوى لجمع مصروفهم لشراء حذاء جديد يستر أصابعهم؟ أليس من المفترض أنّ هذا الشهر لردم تلك الحفرة ولإنشاء جسر من الحب والمشاعر بين من اختارهم القدر لمعالق الذهب وبين من اختارهم البؤس لمعارك الخبز؟ فكيف صارت إذن عبارة "موائد رمضان" عبارة تخبّئ وراءها ثروات تنفق لاتخام البطون الشبعانة أصلاً؟ وكيف لشخص يعرف أن صيامه سيختم بما لذ وطاب من أنواع الطعام والشراب والحلويات، أن يشعر بما يحسّه فقير لم يلتق شخصياً بكيلو كباب من سنة؟ أي كوميديا هذه؟ وهل من عاقل قادر على تفسير هذه الطقوس، وكيف ارتبطت بشهر رمضان؟

ربما، رمضان حي فقط في الحارات الفقيرة، حيث تستطيع أن تشم رائحته في رائحة شوربة العدس، الطبق الوحيد لمائدة العائلة، وفي طنجرة الكبسة التي يوزع أكثر من نصفها على الحي، قبل أن توضع لقمة بقم أهل البيت، أمّا رمضان الدارج في أماكن أخرى فليس إلاّ ضحية من ضحايا الاستهلاك الذي سيقود العالم يوماً إلى الجنون.

البسطاء القابضون على المعنى

لطالما كرّرت أمي على مسامعنا "الرسول كان يفطر على حبة تمر"، لتؤكد لنا أننا عندما نجوع قد لا نجد إلا حبة تمر نسند بها بطونها، وهذا ليس عيباً، بل هذا ربما هو الأصل في معنى الصيام، على حد قناعاتها الشخصية، المستندة بكل ثقة على حادثة لم تهتمّ أبداً بالبحث عن تأكيدات لها وشهود على حقيقتها، فهذه الحادثة ترضي عقلها وتثبت قلبها على الإيمان بالله العادل، الذي لم يوفّر حتى رسوله الكريم من فقر أو زهد يجعله يفطر على حبّة تمر ويكتفي.

وهذا أجمل ما في البسطاء القابضين على المعنى دون قصد، فهم أكثر الناس قدرة على استخلاص الحكمة من بين الكثير من المعاني والعبر التي تضيع بالتعقيد والتهويل وحتى البهرجة. ببساطة. لأنهم في قلب معركة الحياة لا على أطرافها، يعيشون أكثر بكثير مما يقولون.

التقطت منها هذه العبارة وصدقتها، واقتنعت بها، فلما كنت صغيرة لم أستطع لحظة أن أتخيل الرسول إلا رجلاً فقيراً، بسيطاً، لا تهمه المظاهر ولا تعنيه بشيء أموال الدنيا كلها وقصورها، لذلك كرهت دائماً برامج الطبخ في رمضان، واعتبرتها شريكاً أساسياً للخروج المعلن عن أداء الفرض كما يجب.

هل يحتاج الفقراء صياماً، وهل من مغزى لوجود شهر صيام لمن حياته كلّه صيام؟

يوم أعلنت موت رمضان

لم يكن صوم رمضان بالنسبة لي يوماً طقساً دينياً خالصاً أكثر ما كان عادة اجتماعية اقتنعت بجدواها لفترة من الزمن، وتحديداً الفترة التي قضيتها في مدينتي الصغيرة.  لكن، عندما وصلت الضفة الأخرى، اكتشفت أن العالم ليس أكثر من حصص توزّع على البشر كيفما اتفق.

يومها كنت طالبة جديدة على دمشق، أسكن المدينة الجامعية، وأصوم رمضان كجزء من موروث عائلي لن تغيره حياتي الجديدة، ربما كان اليوم الثالث على الصيام عندما دعتني إحدى صديقاتي للفطور. كدت أموت يومها من الإحراج وأنا أنظر لكل تلك الأطباق التي حسبتها أعدت على شرفي، لأكتشف من خلال حديثي مع رفيقتي أن هذه المائدة تعد كل يوم في رمضان عندهم. وأنهم يدفعون ثروة في هذا الشهر، وأحياناً قد يضطرهم الأمر لسحب قرض. كان الأمر برمته غريباً عليّ، ولا أذكر مبرّرات منطقية أخرى لقراري، ولكني خرجت من بيتها ذلك اليوم وأنا عازمة أن يكون هذا اليوم آخر أيام صيامي بهذه الطريقة.

الآن بت مقتنعة أني حتى يومي هذا ما زلت صائمة، وأني وغيري قد نعيش دون أن نصل لحظة الإفطار الخاصة بنا.

 تذكرت أمي التي عاشت حياتها دون أن تتنظر كلمة شكراً على موتها في سبيل من حولها، ودون أن تأكل حتى يشبع الجميع، حتى القطط، تذكرت أبي ووجهه المتعب، وجسمه الهزيل، وابتسامة الرضا التي لم تفارقه يوماً وهو يعطي نصف ما في جيبه لسائل، دون أن يشك لحظة بحاجة السائل.

هل يحتاج مثل هؤلاء صياماً، وهل من مغزى لوجود شهر صيام لمن حياته كلّه صيام؟ رمضان حيّ في بيوت الفقراء فقط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image