شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل يمكن للجروب ثيرابي أن يغيّر حياتك؟ رحلتي مع العلاج الجماعي

هل يمكن للجروب ثيرابي أن يغيّر حياتك؟ رحلتي مع العلاج الجماعي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 14 مارس 202412:28 م

في غرفة متسعة قليلاً داخل عيادة الطبيبة النفسية، والتي تحوي طاولة دائرية صغيرة بأربعة مقاعد، يقابلها أرفف خشبية تحمل مجسّمات مصغرة لكل ما يخطر ببالك من كائنات ومخلوقات وشخصيات كرتونية وأدوات حياتية، بجانبها أريكة مريحة وأمامها طاولة مستطيلة عليها كومة من الرمال.

في  الجزء الثاني من الغرفة، تلتفّ المقاعد في شكل دائري نصفّ منها حسب عددنا، ونُعيد ترتيب ما تبقى بجانب الحائط على اليسار. تصطف ألوان الرسم بأنواعها المختلفة في طابقين أو ثلاثة من الأرفف، وفي المقابل دولاب صغير يضم أوراق الرسم وقطع من الأقمشة الملونة،  جميعها وسائل تُستخدم في خطوات العلاج.

هنا بدأت رحلتي مع "الجروب ثيرابي". بدأت في جلسات فردية، ورأت طبيبتي أنني في حاجة لخوض تجربة الجروب. تحد كبير لا يقوى على الصمود فيه سوى من يستهدف النضج والتطور بحق. لا نجتمع خلال جلساتنا في دائرة على حديقة مزهرة، وتروي كل منا أوجاعها في الحياة كما يظهر عادة في الدراما، وإن كان الحديث عن الأوجاع جزءاً منه، إلا أن الأمر أكبر من ذلك.

بدأت رحلتي مع "الجروب ثيرابي". بدأت في جلسات فردية، ورأت طبيبتي أنني في حاجة لخوض تجربة الجروب. تحد كبير لا يقوى على الصمود فيه سوى من يستهدف النضج والتطور بحق

تتكشف أمامك خفايا نفسك. تتعرّف على ذاتك للمرة الأولى. تقع تحت اختبارات صعبة يعني اجتيازها نجاحاً لإنسانيتك. في الثيرابي تسمع وترى جوانب من حياة أشخاص لا يحق لك الحكم عليها أو الخوض فيها، أو الاستفسار عن مزيد من المعلومات، فتخطو خطوات كبيرة نحو تهذيب النفس. تمرّ بتجارب نفسية شديدة، تُصيب جسمك بآلام مُبرّحة دون آثار لجروح خارجية. تتذكر الجزء المفقود من ذاكرتك لتتخلص من أمراض الماضي. تقف أمام نفسك رافضاً الاستسلام أو الخوف مهما كان ما تعانيه. الاختبار الأكبر في إتمام الرحلة لعام كامل، وتفهُّم ما ينعكس على جسدك من أعراض حسب طاقته.

أصبت بنوبتين من تشويش الرؤية. الأولى في بداية الجلسات. لم أفهم حينها أن الأمر قد يصل لأعراض بهذه القوة. ذهبت لطبيب العيون فلم يُظهر الفحص وجود أي خلل. سألني إن كنت أتناول أي عقاقير دوائية. قلت له إنني فقط أذهب لجلسات العلاج النفسي "جروب ثيرابي"، فلم يفهم ما أقصد، وسألني: "بتعملي فيها إيه يعني؟". أخبرته في محاولة للتوصل لسبب الألم الشديد الذي أعانيه ولافتراضي إلمامه بالثيرابي.

 مررت بالأمر ذاته مرة أخرى، وكان الألم شديداً، منعني من الخروج من المنزل أو ممارسة حياتي اليومية، فأي شيء يتحرّك أمامي يؤلمني ويُشعرني بالدوار، فضلاً عن ألم شديد في فروة الرأس وفقدان القدرة على النوم. تبيان التأثير طوال سنة كاملة كلما أخرجت ما بداخلي وأصبحت أكثر قدرة على مواجهته ورؤيته بشكل واضح. ينعكس ذلك على الأقدام، الظهر، الرقبة، المعدة، وغيرها، فإذا اجتزت التفكير في الآلام الجسدية المؤقتة وأفلتت من محاولة عقلك لإيقافك، تصل لنهاية رحلة مُفيدة، لا تمنع الألم النفسي لكنك تتهيأ للتعامل معه وتخطيه.

عليك أيضاً أن تتعامل مع ما يصدر من المحيطين بك من ردود فعل تجاه تجربة العلاج، والخروج من صندوق التشيخص المعتاد، فبعضهم يحاصرك بسؤال يشهره في وجهك كلما يراك: "عندك إيه؟ اكتئاب ولا توحد؟"، طالما أنك تذهب لعيادة طبيب نفسي لابد من وضعك في خانة ثابتة وتعريف واضح. لا معنى لكلمات مثل "تطور الشخصية" و"تعديل طُريقة التفكير"، و"معرفة نقاط الضعف" و"اكتشاف الذات". كلها بالنسبة لهم "كلام فاضي".

لجأت للجروب ثيرابي بعد فترة ضغط كبيرة، أصبح عقلي خلالها كزجاجة المياه الغازية بعد رجّها عدة مرات. تركت عملي في 2018، ولم أعد قادرة على البحث عن غيره. استكنت لحالة الصمت؟ لا أريد خوض الحياة بذلك العنف مرة أخرى. أتصنّع البحث وبداخلي أمل بعدم التوفيق، فما زلت أرغب في السكون.

بعد ثلاثة أعوام، دفعني مرض والدتي المفاجئ للعودة مجبرة. أيقظتني كلمات الطبيب بأنها لن تتمكن من المشي مرة أخرى للبحث عن حل للصعب وتحقيق عكس ما أخبرني به، فميلي للمثالية يرفض تقبّل المتاح والواقع. معركة طويلة امتدت لما يقرب من 18 شهراً، خرجت بلا نوم صحي أو اطمئنان، لكني بدأت حينها البحث الحقيقي عن عمل يلائمني، ورغم "كركبة" الحياة تمكنت من البدء مجدداً.

ساعدتني طبيبتي وزميلاتي على تلمس الطريق واستكمال السير، واستعادة جزء كبير من طاقتي ورغبتي في العمل. رأيت في عيونهن انبهاراً بمدى قوتي التي لم ألحظها أو أتخيل حجمها قبلهم، اكتشفت بوجودي معهم أشياء لم أفكر بها من قبل، حول استحقاقاتي في الحياة، فلم أكن أعترف بحقي في الاستمتاع والتعبير ورفض التبرير لمن أساء لي، أو لم يكن على قدر الموقف، أمور بسيطة وطبيعية لكني لم أجرؤ على الاعتراف بها قبل ذلك.

في الجروب ثيرابي تكتشف مساحة للحديث مع نفسك وترميم ما انكسر بينك وبينها، ستغضب وتندم وتبكي، لكن بطريقة مختلفة عما كنت

لم أكن لأخرج من أزمة مرض شقيقتي التي تكبرني بعامين، ومرافقتي لها في المستشفى وتحملي مسؤولية أكبر مني بإخفاء حقيقة وضعها الصحي عن أمي وأبي، بعد نقلها للعناية المركزة، ورفض عقلي لما قاله الطبيب من كون الحالة ميؤوساً منها، لأقف بعد دقائق باحثة عن عيادة طبيب خارجي جعله الله سبباً في عودتها للحياة. لولا طبيبتي وصديقاتي لم أكن لأحافظ  على سلامة عقلي، كان الجروب ملاذي الأول، فكنت في حاجة ملحة لبكاء حُبس رغماً عني 20 يوماً، لن أنسى مكالمة طبيبتي ودعمها لي طوال تلك الفترة.

لم أنتق زميلاتي في الجروب، ولم أعرفهم قبل ذلك، ورغم صغر محافظتي"الإسكندرية" وتخيلي بأن دوائرها كلها متصلة ببعضها، التقيت بأناس لم تجمعني بهم أي دائرة من قريب أو بعيد، وهو من قواعد الجروب ثيرابي، لتطمئن، ورغم ذلك جمعتني بهم رابطة روحية عميقة، أشعر بصدق كلماتهم وخوفهم إن غبت، وحقيقة احتضانهم بعد عودتي، أصبحت أعرف قيمة اللمسات الإنسانية، وأكثر قدرة على مساندة من حولي بالشكل المناسب لحالاتهم.

هو تجربة حقيقية تستحق العيش والمقاومة لإكمالها، ستحارب مقاومتك الداخلية وتنتصر عليها في الجلسات الأولى، ستتجنّب الحديث وتلتزم الصمت والاستماع في بعضها، ستجد طريقك للتعبير عما بداخلك بمرور الجلسات، لتكتشف تمرّسك في التعامل مع ذاتك ومشكلاتك، فلن تستغرق وقتاً في الندب والبكاء على الحال، سيتحول تفكيرك بنهاية الرحلة للمنطقية، تكتشف مساحة للحديث مع نفسك وترميم ما انكسر بينك وبينها، ستغضب وتندم وتبكي، لكن بطريقة مختلفة عما كنت.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard