شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
العنف في المدارس السورية: أطفالنا دريئة هذا العالم

العنف في المدارس السورية: أطفالنا دريئة هذا العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الأربعاء 6 مارس 202411:23 ص

ليس لنا، نحن سكان هذه المنطقة، أن نمشي بين الطيور بقلب يضحك، أو نركض في إثر الفراشات بين الزهور البرية، كما ينبغي على الحياة أن تكون، أو على الأقل كما شاهدناها في الصور المرفقة لدروس القراءة عندما كنا في الابتدائية. كل يوم نصدّق أننا نتمشّى في حقل الرمي العائد لثكنة هذا العالم،  وأن الرصاص يصيبنا بدقة عالية، وأنه يوماً إن أخطأ أجسادنا لا يخطئ أرواحنا وذاكرتنا، حتى حين نقول صباح الخير لبعضنا بعضاً، نحن لا نقول بالأصل سوى مفردة واحدة: "إسعاف... إسعاف"، لكنها تبدو تحية صباحية لطيفة لجار مقتول.

 إننا نعيش في زحام من القتلة والأعداء والرماة المهرة، زحام من القهر والذلّ وكل تجليات العنف. كنت لأستغرب لو لم يكن هناك عنف في مدارسنا وبين أولادنا وبين ستائر بيوتنا. كنت لأستغرب لو لم يطالعنا كل يوم خبر حادثة من قبيل "أب يطلق النار على أولاده ثم على نفسه"، أو "شاب يقتل جدته ويسرق منزلها"، أو "صبية تدسّ السم لصديقاتها في حفلة عيد ميلاد"... أو غيرها الكثير.

يستوقفك التحليل المرفق لكل حادثة، مثلاً مازالت تصدمني التعليقات والبوستات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيال حادثة شجار الطالبات التي وقعت في مدينة حلب السورية، حيث تمّ تعنيف وأذيّة إحدى الطالبات من قبل زميلاتها بشكل مفرط ومبالغ فيه، ما أدى إلى دخولها المستشفى، وربما كان يمكن أن تفارق الحياة.

كنت لأستغرب لو لم يطالعنا كل يوم خبر حادثة من قبيل "أب يطلق النار على أولاده ثم على نفسه"، أو "شاب يقتل جدته ويسرق منزلها"، أو "صبية تدسّ السم لصديقاتها في حفلة عيد ميلاد"...

في شرح تفاصيل الحادثة التي انتشرت على مواقع التواصل على نطاق واسع، أن المشكلة بدأت بخلاف بسيط حول كرة أثناء اللعب، ثم تدحرجت كرة العنف المكنون لدى زميلات الصف، وتضخّمت إلى حدّ مرعب. جاءت جميع البوستات والتعليقات محمّلة بتحليلات قاصرة، بالمقابل هناك من عَنوَن مقاله: "هاجمنها والمعلمة تصلّي"، في إشارة وغمز ليسا بريئين ولا يتوخّيان الحقيقة، وأما التعليقات والتحليلات الأكثر انتشاراً، والتي لا تقل كارثية عمّا سبقها، تصبّ في مجملها تقريباً في خلاصة شهيرة مفادها اتهام النتائج دون البحث بالأسباب، أو ثمة من يرجع حركة واحدة إلى الخلف في متوالية الأسباب والنتائج، دون الوصول إلى المنابع الأولى لهذه المتوالية.

تلك المنهجية في فهم وتحليل الأحداث والظواهر منتشرة ومستخدمة على نطاق واسع وفي كل الميادين، مثال بسيط لفهم هذه المنهجية الزائفة في الفهم: "يقول أحدهم: لقد تدهور التعليم في بلدنا لأن المعلمين فقدوا ضمائرهم وأخلاقهم"، دون أن يقول لنا، أو حتى يفسّر، لماذا المعلم فقد ضميره؟

أليست الحقيبة التي استبدل فيها هذا الطفل كتبه وأقلامه بأشلاء أخيه جديرة كحادثة أن تحاكم العالم كله وتضعه أمام سؤال العنف من جديد؟

هنا يجعل النتيجة سبباً، عادة ما يأتي هذا التحليل إما نتيجة الجهل وإما نتيجة الخوف من البوح بالأسباب الحقيقية، فنجد في حادثة العنف التي وقعت على الطالبة من زميلاتها من يكتب أو تكتب: "وين التربية المنزلية؟! هدول بنات جيل الفيس والتيكتوك والانستغرام، بنات عمرها 15 سنة ولبسها لبس رقاصة، رايحات ع المدرسة  شي ضيق ومكسّم وميك أب كأنهن بحفلة ديسكو، وين الأمهات؟! أكيد بالصبحيات أو ع البيغو لايف أو ع الواتس أب، وين الآباء؟ وينن؟ أكيد ع القهاوي... إلخ ".

بل الأنكى من ذلك، أن ثمّة من يطالب بعودة "الفتوّة" إلى المدارس. ولمن لا يعرف المصطلح، "الفتوّة" مادة ضمن المنهاج بعنوان "التربية العسكرية" وكانت هذه المادة مقرّرة في الصفوف المدرسية منذ المراحل التي بدأت فيها الأحزاب النضالية العسكراتية في سوريا، وبعض الدول العربية، باستلام السلطة، حيث قامت بعسكرة المجتمع، وبشكل خاص المدارس ومنذ المراحل المبكرة، بحجّة تعليم الأجيال الانضباط والنظام، وكله تحت مقولة الإعداد النضالي للمعركة المرتقبة مع العدو. يتعلّم فيها الطلاب، ذكوراً وإناثاً، كل صنوف العِلم العسكري، وحتى اللباس المدرسي كان لباس مقاتلين، كما يخضعون لمعسكرات تدريبية إلزامية لتطبيعهم بالخصال الخشنة التي تحتاجها الحياة العسكرية، من تحمّل المشاق والظروف القاسية وحبّ النّظام وروح الطاعة العمياء كمرؤوسين، وهذا غيضٌ من فيض في شرح مأساة "عسكرة المجتمع" في ظل أنظمة دكتاتورية اختصاصها الأوحد، عدا نهب الشعب، الكراهية وتربيتها، الأمر الذي انعكس بشكل ملحوظ على كل أنواع السلوك تقريباً لأفراد هذه المجتمعات في تعاملهم وتواصلهم العنفيّ.

أولئك الزاعقون بإرجاع مادة التربية العسكرية، لا يخطر ببالهم أنهم بذلك يصبّون الزيت على النار، ولا يقدّرون أن بعض ما نحن فيه من تواصل عنفي كان نتاج تلك التربية العنفية، سواء في المدرسة أم البيت، في بعض أسبابه. كان حريّاً بهم أن يذكروا أي نوع من أنواع التربية اللاعنفية لتُدرّس في مناهجنا، إذ تخلو تلك المناهج حتى من مصطلح  "اللاعنف" أو أي شرح لهذه الفلسفة.

لا أزعم هنا أن المشكلة ستحلّ على هذا النحو أو بهذه الطريقة، وكأننا نملك طاقة الحلول السحرية، لكنني أؤمن بالتراكم، فكما راكمنا العنف وأساليبه حتى صار طبعاً، ربما نستطيع أن نشتغل على المقلب الآخر في عملية التراكم التربوي، وليس الحل على الأقل بعبارة صارت منتشرة باستسهال من عثر على المفتاح المفقود: "أعيدوا العصا إلى المعلم".

في كل الحوادث وفي حادثة المدرسة السورية كمثال، ما يهمنا، علاوة على تعاطفنا الشديد مع الفتاة الضحية، أن نتساءل عن باقي الفتيات الضحايا كذلك. إنهن بالمآل الأخير حقاً ضحايا كما زميلتهن التي وقعت عليها أذيّة الضرب والتعنيف، إضافة إلى كل هذا، لابد أن نتذكر أن ظاهرة العنف المدرسي تعتبر ظاهرة مقلقة عالمياً لانتشارها الواسع حتى في المجتمعات المتقدّمة، ولن أدخل هنا في عملية التمييز بين أنواع العنف أو تعريفه، وتحديد معنى العنف المدرسي وغيره من المصطلحات المرتبطة والمتفرّعة عنه.

ماذا نقول لأطفال اختبروا كل أنواع التمييز وانعدام العدالة، أطفال يعون تماماً هول هذا التمييز، وكل أنواع المقارنات بين ما يحييون فيه بؤس وحاجة وذلّ وبين الحياة الحقيقية والطبيعية

كما لن أدخل في الأرقام والإحصائيات التي تصدرها المنظمات العالمية المهتمة بهذا الشأن، والمتابعة لهذه الظاهرة بمؤتمرات ودراسات وملتقيات، ما يعبّر عن حجم هذه الظاهرة عالمياً، ويظهر القلق الذي يعتمل في صدور القائمين على تلك المنظمات والدول الأعضاء، فمثلاً تقول اليونسكو في تقرير لها: "العنف المدرسي والبلطجة يؤثران على ربع أطفال المدارس عالمياً".

يستطيع أي مهتم أن يقوم بسؤال الذكاء الاصطناعي ليسرد له ملايين الجمل والكلمات التي تضعه في صورة الأمر. نعم أطفالنا يتشبّعون بكل أنواع العنف، بل أستطيع أن أجزم أنهم مبللون بالعنف وغارقون بثقافته تماماً، فعلاوة على وجودهم في هذا العالم المرعب، فإنهم أصحاب الحصة الأكبر من كيكة الدم، فالأطفال الذين يكبرون في بلاد تشهد حروباً أو نزاعات مسلحة، ويتشرّبون كل أنواع الخطابات المكتظة بالحقد والتنمّر والعنف واقتلاع الآخر، ورفض المختلف على كل المستويات.

وبعد كل هذا، ماذا نقول لأطفال اختبروا كل أنواع التمييز وانعدام العدالة، أطفال يعون تماماً هول هذا التمييز، وكل أنواع المقارنات بين ما يحيون فيه بؤس وحاجة وذلّ وبين الحياة الحقيقية والطبيعية، كل هذا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي كثيفة الحضور بين أيديهم (لست ممن يتّهمون وسائل التواصل بل أتّهم السلطات القائمة) مثلاً وليس على سبيل الحصر؟ كيف نفسر أو ماذا نقول لأولادنا أو تلامذتنا بعد أن شاهدوا الفيديو الذي تم تداوله عن الطفل الفلسطيني، حين أجاب عن سؤال الطبيب قرب سيارة الإسعاف: "لماذا لازلت تحمل حقيبتك المدرسية؟!". يصمت الصغير ثم يجيب: "في قلبها أشلاء أخي الصغير"؟

أليست الحقيبة التي استبدل فيها هذا الطفل كتبه وأقلامه بأشلاء أخيه جديرة كحادثة أن تحاكم العالم كله وتضعه أمام سؤال العنف من جديد؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard