غالباً ما نتساءل عمّا حقّقناه في حياتنا، وما إذا كنّا قد أضفنا شيئاً في مسيرتنا، وأحدثنا فرقاً في مجتمعنا. ويلحّ السؤال علينا حين نجد أنفسنا أمام منعطف خطير، ليصير السؤال حول صوابية خياراتنا وقضيتنا الوجوديّة. في تنازعنا هذا نجد أنفسنا مسمّرين في منتصف الطريق: هل نكمل في الاتجاه نفسه، أم نرجع خطوةً إلى الوراء ونحوّل مسارنا؟ وكيف إذا دارت هذه التساؤلات في وجدان سيّدة تتجاذبها ثقافتان وديانتان، وهي فوق ذلك أمّ فقدت ابنها إثر تفجيره نفسه في عمليّة إرهابيّة؟
في هذه الدائرة تماماً، يشتغل الفيلم الوثائقي "بعد الجسر" (After the Bridge) (64 د، 2023)، لمخرجَيه ديفيد ريزو ومارزيا توسكانو (Davide Rizzo & Marzia Toscano). وقد شارك في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة، برئاسة الناقد عصام زكريا، في يوبيله الفضّي (28 شباط/فبراير-5 آذار/مارس 2024).
انتماءان وهويّتان واسمان
الإيطالية فاليريا كولينا (Valeria Collina) ، تتحدّر من عائلة كاثوليكية، وتتعرّف إلى شاب مغربي مسلم يصغرها سنّاً. تذكّرها شخصيته بوالدها المقاوم رافاييللو، وكانت شديدة التأثّر به، وتحفظ عنه معاني العدالة والشرف والإخلاص والتضامن. منبهرةً بالقارة الإفريقية، تنتقل مع محمد إلى المغرب بعد زواجهما. هذا الوضع الجديد يتطلّب منها أن تستبدل اسمها باسم خديجة، وأن تغيّر دينها ولباسها، وأن تنسى هواياتها لا سيما التمثيل المسرحي.
استطاع مخرجا فيلم "بعد الجسر" كشف نبض الذات للشخصية المحوريّة، فاليريا، التي تلاحقها الكاميرا وتستجوب وجهها وحركتها في لقطات مينيماليّة قريبة وأخرى بعيدة، وتتابع مسارها في مقاومة الحزن وتقييم مسار حياتها
تنجب فاليريا ابنةً وولداً يُدعى يوسف، وتأخذ دروساً في القرآن، وتؤسس بيتاً وعائلةً. لكنّ، ثمة أمرين قلبا حياتها، ووضعاها أمام مفترق طرق. الأول، هو زواج محمد من امرأة ثانية، ما دفعها إلى ترك المغرب والعودة إلى إيطاليا سنة 2015، والأمر الثاني والأكثر خطورةً، مشاركة ابنها يوسف في عملية تفجير انتحارية لجسر لندن (3 حزيران/يونيو 2017).
القطة والشبارق
ليس مشهد القطة وشبارقها في مفتتح الفيلم، وفي لقطات أخرى تتخلله بلا معنى وتوظيف. تعيش فاليريا الستّينية وحيدةً مع قطتها وكتبها وصورها وصور عائلتيها الإيطالية والمغربية، ومع ماضيها وخيباتها. تقول إنها عاشت طفولةً مريحةً، ومقاطع الفيديو القديمة لها تُظهر ذلك. تستعيد ذاكرتها في الصور، تحيي هذا الماضي وتعقد مقارنات بين ما كانت عليه والوضع الذي صارت إليه. وإذ تشاهد فيديو أعطاها إياه رجل الكنيسة وهو لمسلم عراقي متشدّد يتلو خطابه قبيل تفجير نفسه، تتأمّل عبارته البارزة بأنّه يقاتل من أجل المجد الإلهي. فهو يطلب المجد بقتل الآخر المختلف!
بعد حادثة الجسر، باتت تشكّ في خياراتها. وفي شكّها هذا تتساءل عن مسؤوليتها كأمّ في تربية ابنها، وعمّا إذا كان لها دور، في مكان ما، في رسم هكذا مصير ليوسف، كي يصبح إرهابياً. تقول إنه شاهد في البيت العنف الذي قبلت به، لكي تبقى عائلتها متماسكةً وموحّدةً. رآه ولم يستطع أن يفعل شيئاً. وفي اتصالها الأخير معه من لندن، عبّر عن رغبته في الزواج بـ"حور العين" (وهي المرأة الموعودة للشهداء في الجنة وفق السردية الدينية في الموروث الإسلامي). كانت صدمتها كبيرةً، وخوفها أكبر.
هذا الجسد... ثقيل على "الصوفا" رشيق على خشبة المسرح
ما وقع أحدث كسراً في حياة فاليريا التي رغبت في استعادة اسمها الإيطالي. كما دفعها إلى تذكّر حياتها السابقة وما كانت عليه وما أحبّته ومارسته، وما حاولت نسيانه لمدة طويلة، لا سيما المسرح والتمثيل. لم تستعد مكانها الأوّل واسمها فحسب، بل استعادت علاقتها بجسدها. ولكن ليس بغير نزاع عاشته، وتساؤلات طرحتها حول جدوى تشدّد الإسلام مع المرأة لحجب جسدها عن الأنظار. فالتمثيل ممنوع، وانكشاف الجسد والشعر كذلك الأمر. في مراوحتها بين ألم الذكريات ووحدتها، تحاول استعادة لياقتها الجسديّة، ومرونة أوتارها الصوتية، وشغفها بالتمثيل.
نشاهدها في بيتها تأخذ دروساً في اليوغا، وتحفظ دوراً كتبته تتدرّب على أدائه على خشبة المسرح. يحكي الدور قصة الكنبة (الصوفا) واستخداماتها المتعدّدة، وتحوّلاتها: من مقعد للجلوس والراحة، إلى مكان للطعام بالتعاون مع الطاولة، إلى مكان للنوم، واصفةً ثقل هذا الجسد المسترخي عليها. وما حاولت فاليريا تسريبه لنا هو رغبتها في أن تتماهى تماماً مع حركة "الصوفا"، وأن تكون متغيّرةً ومتبدّلةً وديناميةً مثلها. تتذكّر أنّ لقاءها الأوّل بمحمد تمّ في أحد المسارح، عندما كانت تؤدي دوراً تمثيليّاً. هكذا، اختارت لجسدها ولادةً جديدةً، ولشعرها انطلاقةً بغير حجاب.
جماليات الخيبة والخذلان
في أربع وستين دقيقةً، استطاع مخرجا فيلم "بعد الجسر" كشف نبض الذات للشخصية المحوريّة، فاليريا، التي تلاحقها الكاميرا وتستجوب وجهها وحركتها في لقطات مينيماليّة قريبة وأخرى بعيدة، وتتابع مسارها في مقاومة الحزن وتقييم مسار حياتها، وتقويمه عبر إعادة النظر في الخيارات التي اتخذتها. جاءت اللغة البصريّة شاعريّةً إلى حد بعيد، لأنها تطلّ على تجربة ذاتيّة. إلّا أن هذا الهمّ، بالرغم من ذاتيّته، يبذر الشكّ في نفوس المشاهدين في إسقاطات يقومون بها على تجاربهم.
الإيطالية فاليريا كولينا تتحدّر من عائلة كاثوليكية، وتتعرّف إلى شاب مغربي مسلم يصغرها سنّاً. تنتقل مع محمد إلى المغرب بعد زواجهما وتستبدل اسمها باسم خديجة، وتغيّر دينها ولباسها، وتنسى هواياتها لا سيما التمثيل المسرحي
إذا كانت السينما احتفالاً بالحياة، فالمسرح حياة مصغّرة، لأنّ الحياة نفسها مسرح. وليس مستغرباً أن تأتي مشاهد كثيرة في الفيلم ممسرحةً، كون فاليريا ممثلة، وأن يتضمّن الفيلم مقطعاً مسرحيّاً قديماً مصوّراً لها، ما قبل عبورها الجسر الثقافي إلى إفريقيا، إذا جاز لنا التعبير، ومشاهد أخرى حديثة لمحاولاتها التمثيليّة ما بعد الجسر، بدلالتيه: الدلالة الواقعية الحَدَثية للتفجير الإرهابي الذي وقع فوق جسر لندن، والدلالة الاستعارية لعبورها العاطفي والزمني من الماضي نحو مستقبل مغاير. وضعنا الفيلم أمام دراما تمزج بين نبض الواقع ونبض الذات، في ديناميّة تتراوح بين البناء التخييلي والتوثيق.
للفنّ وظيفة خلاصيّة استشفائيّة، وهذا ما قامت به فاليريا في منزلها وعلى المسرح، وفي الفيلم الذي يحكي معاناتها بلغة سينمائيّة معبّرة رائعة. فحركة الكاميرا بين لقطات مينيمالية لتفاصيل الوجه، والجسد، والرحلة، وبانورامية للغابة والنهر ومقبرة عائلتها ولمدينة بولونيا الإيطالية، وللبحر ولمدينة فاس، على المقلب الآخر في المغرب، وبين المقابر وهي تصلّي صلاتها الإسلامية وتقرأ سورةً من القرآن؛ حركة الكاميرا جاءت منسجمةً مع الحدث ومتكافئةً مع المعنى في دقة محسوبة، فضاعفت منظور الواقع ولم تسجّله فحسب.
استفاد الفيلم من تقنيات الصوت في التسجيلات الصوتية لفاليريا وفي مكالمة لها مع يوسف قُبيل التفجير، وفي المقابلة التي أجرتها معها قنوات وصحف عديدة، ومن التسجيل التوثيقي لحادثة التفجير وللصلاة على ضحاياه، ومن الحوارات والسرد الشخصي، والموسيقى التصويريّة، ومن تقنية المشاهد الصامتة التي تثير التأمّل في تعبيرها عن حالات وجدانية مختلفة. واعتمد الفيلم أيضاً على ما احتفظت به فاليريا من صور ومقاطع فيديو توثّق تفاصيل من حياتها الجميلة وبراءة وجه ابنها يوسف؛ ولم يبرزها إلا ليقول إنّ هذا الماضي موجود في الصور، ولا تستعيده الذاكرة إلا لتتحرّر من ألمها الراهن بوصمها "أم الإرهابي"، وتتجاوزه في إقبالها على غد أكثر رحابةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم