بضعة أسابيع فقط مرت على وجودي في أرض البرتغال الساحرة، ولكنني وجدت نفسي مضطراً لفتح حساب بنكي برتغالي.
ذهبت إلى أحد أشهر البنوك في قلب العاصمة لشبونة، وهناك التقيت بيدرو، الشاب ذا البشرة السمراء والعمر الوردي في منتصف العشرينات، يعمل موظفاً لفتح الحسابات البنكية، وعندما فتح جواز سفري الأخضر وألقى نظرة على جنسيتي، انطلقت ابتسامة لامعة على وجهه وسألني بدهشة: "أنت مصري؟ حقاً؟" أجبته بابتسامة: "نعم، من القاهرة".
لم يتمالك بيدرو فرحته وقال لي: "أنا أعرف القاهرة، تلك المدينة التي يوجد بها النادي الأهلي، فريقي المفضل".
استمر بيدرو في حديثه بعد أن شعرت بسعادته، وقال: "الأهلي هو فريقي المفضل في إفريقيا منذ أن شاهدت فلافيو أمادو يرتدي القميص الأحمر منذ أكثر من ستة عشر عاماً. وفي طفولتي، كنت أحلم باللعب في هذا النادي العريق، ولكن الظروف لم تسمح لي بذلك. وها أنا الآن، مهاجر في أرض البرتغال، وما زلت أحمل حلمي بقلبي".
بالرغم من عدم اهتمامي الكبير بكرة القدم، شعرت بأهمية ما يشعر به بيدرو تجاه النادي الأهلي، وربما كان وجوده هنا في البرتغال يرتبط أيضاً بمصر.
في السبعينيات من القرن الماضي، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، قدم الرئيس الراحل أنور السادات دعمه الكامل لحركة تحرير "أنغولا" من الاستعمار البرتغالي، وفي منتصف السبعينيات قامت مصر بإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وثقافية مع البرتغال، وساهمت في حرية أنغولا.
"أبيع السجائر للمصريين والعرب وأعزم المشتري على فنجان قهوة". عم ماهر، هكذا يسميه المصريون في البرتغال، الرجل المصري السبعيني الذي أصبح جزءاً من لشبونة
غادرت البنك وكان لا يزال لدي الكثير من الوقت في هذا اليوم، فتوجهت إلى عم ماهر، هكذا يسميه المصريون في البرتغال، الرجل المصري السبعيني الذي أصبح جزءاً من لشبونة، فهو أشهر بائع للدخان بين المصريين هنا، حيث تحولت علاقته بزبائنه من عابرين إلى أصدقاء. يقول عم ماهر إنه وصل إلى البرتغال في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وكان شاباً مغامراً يتجول بين دول أوروبا، ووجد نفسه في أحضان البرتغاليين الذين احتضنوه كأحد أبنائهم.
"أبيع السجائر للمصريين والعرب وأعزم المشتري على فنجان قهوة قد يعادل هامش الربح الذي أجنيه من بيع علبة سجائر له، فهدفي من هذه العادة ليس الربح فأنا تجاوزت سن المعاش قبل 10 سنوات ولا أحتاج إلى العمل لاستقرار أوضاعي وأوضاع أبنائي الذين لديهم مشاريعهم الناجحة واقتربت أعمارهم من الأربعين".
هكذا تحدث عم ماهر، عندما سألته عن سر شهرته ببيع الدخان على المقهى، وأشار إلى أنه يفعل ذلك في الأساس للتعرف على أناس جدد ومحاولة تقديم المساعدة والدعم، ويبدو عم ماهر مُحقاً في ذلك، فطاولته لا تخلو من الوجوه الجديدة وتعتبر دائماً هي الأكثر صخباً وحديثاً على المقهى أينما ذهب وأينما جلس.
يمكننا ببساطة أن نعتبر عم ماهر هو الجيل الأقدم حالياً من المصريين في البرتغال، فقد جاء إليها بالصدفة لإصدار جواز سفر مصري جديد بدل المنتهي عام 1985 لأنه وجد صعوبة في إصدار نسخة جديدة من وثيقة سفره عندما كان يقيم في إسبانيا آنذاك، وعندما علم أن السفير المصري في البرتغال حينها هو "زميل أروانة" -كما يقول المصريون- ذهب إليه، وفي مقر السفارة التقى السفير وتبادلا معاً ذكريات الخدمة العسكرية، حيث شارك الاثنان في حرب يونيو/حزيران 1967 وحربي الاستنزاف وأكتوبر/تشرين الأول 1973.
نصحه السفير وزميل الخدمة العسكرية أن يترك إسبانيا ويبقى في البرتغال، وهي النصيحة التي غيّرت حياة عم ماهر وربطته بلشبونة لنحو 40 عاماً.
كانت الزيجة الثانية لعم ماهر من قروية برتغالية، أنجب منها طفلين لا يعرفان الآن من اللغة العربية سوى كلمات معدودة ولا يعرفان عن مصر سوى أنها بلد أبيهما، ويعرفان القليل عن الحضارة المصرية القديمة لأن أول مشروع أقامه ماهر في البرتغال هو ورشة صنع إطارات وديكورات بأوراق البردي المزينة برسومات الحضارة الفرعونية والتي قدم بعضها للسفارة المصرية في لشبونة قبل 40 عاماً ولا تزال مُعلقة على الجدران.
فرصة عمل في لشبونة
"من زمان بحلم أسافر وأعمل حاجة مختلفة"، هكذا عبّر أحمد عن سبب قراره بترك مصر والهجرة إلى البرتغال، وهي المحطة الثالثة في أوروبا بعد إيطاليا وفرنسا. جاء إلى لشبونة بحثاً عن الاستقرار والأمان والعمل، حتى وإن كان العمل يبدأ من الساعة 11 ليلاً وينتهي فجراً، توقعت أنه يعمل في ملهى ليلي، لكنه قال إنه حصل على وظيفة لا يتحصّل عليها أحد إلا بـ "الواسطة" في هذه المدينة المكتظة بالمهاجرين، إنه يعمل جامع صناديق قمامة.
"مش بشيل قمامة ولا أي حاجة وحتى شوف لبسي نظيف إزاي، أنا كأني شغال دكتور أصلاً"، هكذا أسرع أحمد بتوضيح ظروف عمله خشيةً من أي تقليل، لكنني في الواقع كنت حريصاً على أن أعرف ما دور "الواسطة" أو المحسوبية في حصوله على هذه الوظيفة، فقال إن عمال البلدية الذين يعملون 4 ساعات ليلاً لهم ظروف ووضع خاص، أولاً لأنهم لا يعملون 8 ساعات مثل الذين يعملون في النهار، ثم إنهم يعملون والناس نيام، وأخيراً إنها مهنة نظيفة للغاية تقتصر على أننا نتجول بسيارة جمع القمامة ونقف عند نقاط محددة، ننزل من السيارة متجهين إلى صناديق القمامة التي بدورنا نجمعها ونضعها عند ماكينة السحب المتصلة بخلفية سيارة جمع القمامة ثم تقوم السيارة بباقي المهمة، ونكرر نفس الشيء عند باقي النقاط المحددة وعند حلول الثانية ليلاً ينتهى عملنا، فهي وظيفة سهلة وراتبها جيد مقارنة بباقي الرواتب، ولذلك عليها إقبال كبير وعدد الشواغر بها قليل.
تخرج أحمد من إحدى مدارس الصناعة في مصر، ودخل أوروبا للمرة الأولى قبل 5 سنوات، وينتظر الآن حصول ابنه على الجنسية البرتغالية، ويأمل في أن يعود لمصر قريباً للاستقرار، فيبدو أن لديه خطة وأحلام مرهونة بما سيحققه في البرتغال قريباً.
في باريس بقي أحمد 40 يوماً في ورشة صيانة سيارات، لم ير النور طوال تلك الأيام حتى أن صاحب الورشة كان يغلق بابها عليه كل مساء، فأصبحت حياته تدور داخل محيط تلك الورشة الصغيرة إلى أن أصيب فيها بضعف في النظر أجبره على البحث عن عمل آخر
يقول أحمد أنه لا يحب أن يتذكر الأشهر الأولى له في غربته، حينما أجبرته الظروف على النوم في العراء وسط أمطار الشتاء في إيطاليا، أو تلك الفترات الصعبة في باريس عندما كان يعمل في الأسود -هكذا يُسمى العمل غير المسجل رسمياً في إطار القانون في أوروبا- ففي باريس بقي أحمد 40 يوماً في ورشة صيانة سيارات، لم ير النور طوال تلك الأيام حتى أن صاحب الورشة كان يغلق بابها عليه كل مساء، كان يحاول توفير نفقات السكن بالنوم كل ليلة داخل الورشة وفي الصباح يبدأ العمل الشاق حتى المساء، فأصبحت حياته تدور داخل محيط تلك الورشة الصغيرة إلى أن أصيب فيها بضعف في النظر أجبره على البحث عن عمل آخر، إلى أن وصل البرتغال وهنا وجد ضالته وبدأ بتكوين أسرة صغيرة.
وبجوار الحي الذي سكن فيه أحمد، محل بقالة صغير يُعتبر مزاراً للمصريين الباحثين عن شاي "العروسة" الشهير في مصر أو بعض من الملوخية والعيش الأسمر. إنه بقال مصري جاء إلى البرتغال قبل عدة سنوات بهدف الاستقرار. أتت فكرة مشروعه بعدما عانى من ندرة المواد الغذائية المصرية في البرتغال. وبعد سنوات من العمل، أصبح الآن مصدراً مهماً لمعظم المواد الغذائية التي يعشقها المصريون والعرب. فهناك تجد العسل الأسود أو دبس قصب السكر، وكذلك الخضروات المجمدة وأبرزها الملوخية والفلافل على الطريقة المصرية والسورية.
"أجلس في المحل وأشعر أنني لم أغادر مصر". هكذا يقول صاحب المحل الذي جاء مع ابنته وزوجته إلى البرتغال لبداية حياة جديدة قبل عدة سنوات، ويشعر بسعادة بالغة عندما يشاهد دهشة المصريين الذين يجدون في بضاعته ملاذهم وحنينهم إلى المنتجات والأطعمة التي اعتادوا عليها، ويستعد حالياً لتطوير مشروعه ليضم منتجات أكثر ويكون معرضاً كبيراً لمختلف السلع.
خيمة للسكن في حدائق لشبونة
ومن التحديات التي تستحق التسجيل قصة محمود، الذي حضر إلى البرتغال قبل نحو 11 شهراً مع زوجته وابنته ذات الـ 6 أعوام، كان يعمل في المملكة العربية السعودية لأكثر من خمس سنوات إلى أن تم توطين وظيفته (تم استبداله بمواطن سعودي) حيث كان يعمل مُعلماً في إحدى المدارس، وعاد إلى مصر ليبحث عن بداية جديدة، لكن يبدو أنه لم يكن مُرحباً بوجوده في مصر.
"عدت إلى مصر بعد أن تقطعت بي السُبل في السعودية، كنت أحصل على 6 آلاف ريال وحالي كان ميسوراً وأعيش حياة هانئة مع زوجتي وابنتي التي ولدت خارج مصر، لكن ربما بسبب بعدي عن الأوضاع في مصر لسنوات، لم أستطع التأقلم مع الوضع الراهن، فقررت أنا وزوجتي أن نستعد للمغادرة مُجدداً". هذه المرة الرحلة متجهة إلى الناحية الأخرى حيث أوروبا التي تعج بالمهاجرين من مختلف الجنسيات. حصلت الأسرة على فيزا شنغن للدخول إلى أوروبا، استعداداً للسفر والبحث عن فرصة جديدة، جمعوا الأموال اللازمة وبدا أن كل شيء على ما يرام، حتى أيام قليلة قبل السفر تعرضت فيها شقة محمود للسرقة، السارق كان يعرف أن الشقة بها أموال وذهب، كانت صدمة كبيرة لمحمود وزوجته اللذين كانا قد حجزا تذكرة سفرهما، فلم يتبق في حوزتهما سوى 500 يورو وحجز لمدة 10 أيام في أحد فنادق العاصمة البرتغالية، حاول محمود أن يقنع زوجته بالبقاء في مصر وبأن يسافر هو أولاً ليبحث عن فرصة بدلاً من أن يغامرا هناك لا سيما أن ابنتهما لم تتجاوز السادسة وتحتاج عناية خاصة.
رفضت الزوجة وأصرت على أن يكملا المغامرة معاً، وبالفعل سافرت الأسرة لكن -كما حدث في مصر- لم يجدوا الترحيب الذي تخيلوه في البرتغال، فمحمود لم يجد عملاً وكل يوم يمر تنزف محفظته أموالاً، ويقترب موعد انتهاء فترة حجزه الفندقي، لينتهي به الحال إلى شراء خيمة بلاستيكية ثمنها 50 يورو ليقيم في إحدى حدائق لشبونة هو وزوجته وابنته، وهناك التقى بشاب باكستاني ساعده في الوصول إلى إحدى الصحفيات البرتغاليات والتي تعمل في منظمة حقوقية وأبلغته أنه لن ينام في الشارع أبداً.
لم يجد محمود عملاً في البرتغال، لينتهي به الحال إلى شراء خيمة بلاستيكية ثمنها 50 يورو ليقيم في إحدى حدائق لشبونة هو وزوجته وابنته.
كانت الصحفية البرتغالية كمصباح علاء الدين الذي ظهر لمحمود فجأة في محنته، وحققت له ما لم يكن يتوقعه في ظل هذه الليالي المظلمة، إذ أرسلت ملفه إلى منظمة حقوقية تعتني بالمهاجرين ومن ثم وفرت المنظمة سكناً لائقاً ووجبات ساخنة وملابس وأدوية وأدخلت الطفلة المدرسة وأصلحت وضع الأسرة ليكون وجودهم على الأراضي البرتغالية قانونياً، فحصلوا على مساعدات شهرية إلى أن وجد محمود فرصة عمل هو وزوجته في الشهر السادس وهنا تبدلت حالتهم النفسية والاقتصادية.
كثير من الرحلات والمخاطر يضطر المهاجرون المصريون خوضها من أجل الحصول على حياة كريمة، فمتى تصبح الحياة في أوطاننا كريمة حقاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.