حينما تُذكر سلطنة عمان، تتبادر إلى الذهن الصورة النمطية لهذه الدولة، فتقفز في مُخيلة الرائي لعُمان صورة الصحاري والمروج والوديان والواحات، أو تُرى بمنظور الدولة الهادئة سياسياً والخاملة دبلوماسياً، التي لا تحب التورط في ما لا يخصها من ملفات حتى وإن كانت إقليميةً خليجيةً، على سبيل المثال أزمة دول الخليج مع ملف مقاطعة قطر 2017. وفي بعض الأحيان، تُلخّص سلطنة عمان في صورٍ رمزية كصورة السُلطان قابوس بن سعيد، أو رمزية المواطن ذي الخنجر، المُرتدي دوماً الثياب التقليدية كالدشداشة والزيّ المُذَهَّب، أو البلد الصغير الهادئ الواقع في غرب آسيا والذي لا تُعرف أيّ من نواحيه إلا بعاصمتها مَسقَط أو بسوقِ "مطرح" أو "نزوى".
وهل سردية "عُمان" أعقد من هذا الطرح المُبتذل والسطحيّ؟ هل يمكن أن تُرى الدولة بمناظير أخرى، أكثر تعقيداً في المحيط السياسي والاقتصادي والثقافي كنظيراتها من الدول والأمم؟
ساهمت موجة انتشار "المدوّنات" الإلكترونية بعد أحداث الربيع العربي، إلى تغيّر نمط النشر والكتابة، ومن هنا تمكّن كثرٌ من المدوّنين في عمان من افتتاح مدوّنات خاصة بهم، تمكّنوا عبرها من نشر أفكارهم وآرائهم بكل أريحية وحرية، دون أن يتم النيل من هذه الكتابات على أيدي مقصّ الرقيب. إلا أن الأمر لم يكن بالسّهولة المتوقّعة، فقد تعرّض الكثير من المدوّنين للتحقيق والمساءلة، وخضع البعض منهم للمحاكمات والأحكام القضائية. ومن هُنا أبرزت نتائج أحداث 2011، مشكلة التدوين كأكبر تحدٍ واجهته السلطات الأمنية العُمانية، التي قامت بالتنكيل بأصحاب التدوينات تلك بلا هوادة، فكان الكثير منهم رهن الاعتقال والحبس.
وأدى تطور المدوّنات والموضوعات المُناقَشة فيها، إلى حدوث طفرة في الصحافة الإلكترونية، وظهرت نماذج رائدة عدة، أبرزها صحيفة "البلد"، التي قدّمت صورةً مختلفةً للعمل الصحافي عبر الميكانيزمات المتطورة والحداثية المستخدمة، وكذلك من ناحية المضمون ومستوى الطرح. ومع متابعتها وتغطيتها لملفات تخص قضايا الرأي والتعبير إلا أنها لم تقدّم طرحاً جريئاً كان مطلوباً في تلك الفترة، ولا يزال. في حين نرى كيف ساهمت تجربة مجلة "مواطن" الإلكترونية حينها -لم تكن بعد قد تطورت إلى شبكة "مواطن" الإعلامية حالياً- في تنوع الطرح الصحافي وتجاوزه الخطوط الحمراء ومساحة المسكوت عنه في قضايا المواطنة والإبداع وحريات النشر والرأي، الأمر الذي تسبب في استدعاء رئيس تحريرها "محمد الفزاري"، مرات عدة وكذلك العديد من محرري الصحيفة والعاملين فيها، إلى أن أعلنت "مواطن" عن توقفها عن العمل لضمان سلامة كتّابها والعاملين فيها.
إن أكثر ما يتهدد حريات الرأي والإبداع والنشر في سلطنة عُمان ليس فقط غيابها أو محدوديتها، بل القوانين المُصمّمة خصيصاً للانتقام من أي ناشر أو كاتب أو صحافي يتجاوز الأنساق المحددة من قِبَل سلطة الدولة بما تمثله من سُلطة دينية وسلطة مجتمعية تنتصر لقيمها أنظمة الإعلام والتعليم والتربية ومؤسسات الثقافة والفكر.
لم يكن الأدب العُماني في التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، وكذلك في السنوات اللاحقة لحراكات الشارع العُماني في 2011، بمنأى عن قضايا الحرية المكبوتة، وحالة اللا انتماء، ومشاعر الاغتراب لدى الشباب العُماني، وشهدت هذه السنوات الطفرة الأكبر في الإنتاج الأدبي العُماني والتي تزامنت مع عودة المبعوثين من المتعلمين في الخارج والذي توازى أيضاً مع صعود نجم المجلات والمدونات الثقافية، وواقع تنامت فيه فرص تواصل الأدباء العمانيين مع المجلات والمؤسسات العربية المختلفة.
وكانت الطفرة التي يعيشها الأدب العماني قد اعتمدت بصورة أولية على النزعة الفريدة والغرائبية المستمدة من خصائص البيئة العُمانية وطبيعتها الجغرافية ونسيجها الاجتماعي المتنوع، وتاريخ طويل وميراث أصيل من الحكايات والقصص التي تتشابك، وفي بعض الأحيان تتصارع مع وتيرة القضايا المتلاحقة. إلا أن الأدب العُماني المعاصر تواكب مع التطورات والمتغيرات الهائلة التي حدثت في محيط السلطنة خصوصاً، والخليج العربي والمنطقة العربية عموماً، لذا كانت الفرص مُهيأةً للانفتاح على الآخر واستعارة نماذجه وصوره وأيقوناته، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تطور موضوعات الشعر والنثر والقصّ العمانية، وكذلك ساعدت الأعمال النقدية التي تناولت الإنتاجات العُمانية الأدبية المُعاصرة في إلقاء الضوء على قيمته وقيمِه الحداثية المتواكبة مع الجديد، وتشجع كثيرون على استغلال مهاراتهم الكتابية في تطوير النشاط التدوينيّ إلى أعمال أدبية وروائية تتماهى مع الواقع وتناقشه وتنقده بما يحمل من إرثٍ دينيّ وثقافيّ واجتماعيّ.
أكثر ما يتهدد حريات الرأي والإبداع والنشر في سلطنة عُمان ليس فقط غيابها أو محدوديتها، بل القوانين المُصمّمة خصيصاً للانتقام من أي ناشر أو كاتب أو صحافي يتجاوز الأنساق المحددة من قِبَل سلطة الدولة بما تمثله من سُلطة دينية وسلطة مجتمعية تنتصر لقيمها أنظمة الإعلام والتعليم والتربية ومؤسسات الثقافة والفكر
كانت رواية "اللايقين" لمحمد الفزاري، أهم هذه الأعمال التي تشابكت مع هذا الواقع المُعقّد، وكانت خير معبّر عن الطفرة الأدبية التي مُنيت بها الساحة الأدبية العُمانية -في الثلاثين سنةً الأخيرة- من ناحية نوع القضايا المُثارة ونغمة الطرح والتناول، وكذلك الشكل/ القالب الأدبي الذي خرجت به هذه الأعمال الأدبية، وليس من فراغ أن الرواية مُصادرة في عُمان وممنوع نشرها منذ صدور طبعتها الأولى في 2018 وحتى الآن.
"اللايقين" هي قصة المجتمع العُماني، أو بالأحرى هي حكاية شباب عُمان، والقضايا المُناقشة في العمل هي بالفعل التناقضات الراسخة في لاوعي المواطن العُمانيّ، التي أدت في النهاية إلى اغتراب الشباب الذي وجد الفجوة تزداد يوماً بعد يوم بين قيم المجتمع البالية وبين منتجات العولمة والحداثة وما أحدثته من تطورات تقنية ومعرفية ومعلوماتية هائلة استدعت تغيير العقول التي ما زالت تقف محلك سر، تحت إمرة السلطة التي تعمد إلى تغييب الوعي العُماني حتى تدور معارف المجتمع وثقافته في فلك يكون بمعزل عن قضايا التنوير والحداثة التي ستؤدي في النهاية إلى مناقشة أوضاع الحكم ونظامه والتوريث القائم في السلطنة منذ أمدٍ بعيد.
تتأسس حكاية "اللايقين" على خيطين متوازيين تمثلهما ذاتان مرتحلتان داخل الواقع العُماني بما يمثله من تناقضات فكرية وتقاليد مجتمعية مزعومة. ذاتان قررتا أن ترسما عالمهما الفريد وطريقتهما الخاصة في العيش والاشتباك مع قضايا الحياة العمانية، وذلك بهدف الخروج من الوصاية والقيم الأبوية والسلطوية إلى عالم الحرية والانسياق إلى رغبات العقل والجسد، معلنتين أنه من اليسير أن تُحاكي حياة المجتمع وتعيش حياة الآخرين، إلا أنه من الصعب أن تعيش الحياة كما أنت أو الحياة التي يرتاح إليها بالك وعقلك، لتصل خيوط الحكاية في النهاية إلى نتيجة مفادها أن البطلين أرادا تدمير الهوية ثنائية المعايير المزعومة وسلطة الجماعة الهشة والواهية التي تستمد قوتها من ازدواجيتها وتناقضاتها ومقدار ما تكبته من رغبات طبيعية لعقول أرادت أن تفكر وتناقش وتنتقد، رغبات تغدو طبيعيةً في مجتمعات أخرى تمتلك الحد الأدنى من القيم الحريّاتية والإنسانية.
"اللايقين" هي حكاية تشكُّل الوعي وشهادة ذات صوتٍ عال لتحولات فكرية لذاتين جنسهما مختلف، إلا أنهما متفقتان في كونهما وليدتَي الثقافة ذاتها، وتخرجتا من المدرسة الفكرية والمذهبية عينها، التي تنتصر للعقل والشك ومناقشة ما يراه المجتمع يقينيّاً وثابتاً. فبطل العمل، وقد رمز إليه الكاتب بضمير الإشارة "هو"، يعاني في بداية العمل (بداية حياته)، من ويلات الأسرة وتمييزها بينه وبين أخيه الذي يكبره بسنتين ما تسبب في رسم مصير الكاتب في ما بعد على حد تعبيره، وكذلك كانت أحد أسباب تيقُّظ وعيه وذهنه. أيضاً يصطدم "هو" في مواضع عدة في الرواية مع رجال الدين وأصدقائه من المتدينين الذي يتهمونه ونظراءه -ممن يفكرون بالطريقة نفسها- بالضلال والزندقة، إلى أن يرتفع سقف قيوده ومهددات وجوده إلى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي تراقب وتكبّل نشاطه التدويني والفكري والسياسي.
وعلى غرار الخيط الروائي لبطل العمل، أسبغ محمد الفزاري، مؤلف العمل، رمزيةً أخرى على بطلة العمل التي عانت من غضب الأهل والمجتمع والدين والسُلطة كونها أنثى أولاً، قبل أن تخرج من خيط السائد والناظم لمواطني المجتمع كلهم، كونهم مواطنين أولاً قبل التصنيفات البيولوجية كذكور أو إناث. ونموذج "هي" لدى الفزاري، سيميائية لشيزوفرينيا المجتمعات العربية عموماً والمجتمع العُماني بصورة خاصة، حينما تشهد للمرأة كلما دانت بالولاء والخدمة لسُلطة الذكور المشوهين.
بداية الصراع لدى "هي" كانت حينما ارتأت أن المجتمع هو من يقود العقول بدلاً من أن تقود العقول المجتمع، ونتيجةً لذلك كانت "هي" تقوم بتغذية عقلها بتقوية إيمانها عن طريق معرفة الحلال والحرام والمستحبّ والمكروه وكانت تسيطر على عقلها الباطن بفيتامينات تأنيب الضمير التي كانت تحصل عليها من أطباء المنزل والمجتمع والمدرسة والتلفاز، إلى أن اكتشفت قلقها الوجودي وشعورها بالخواء والفراغ الداخلي وشخصيتها المتناقضة التي تتأرجح بين عالمَي المثالية التي يفرضها المجتمع المنافق وعالم الإنسانية الذي ينتصر للشخص الطبيعيّ الذي يعبّر عن أفكاره ورغباته بأريحية تامة دون قيود أو مهددات.
وعلى خُطى الصراع نفسها، والتي كانت تكتنف خلجات ولواعج عقل الأنثى "هي"، كان البطل "هو" يعيش الصراع نفسه بين تعاليم دينه ورغبات جسده المُلحّة والتي كانت تكبر معه كلما ازداد عمره ونما جسده، ليكتشف حاجته إلى الإناث بصورة طردية، وتمظهر ذلك الصراع النفسي حينما تعرّف على البطلة "هي"، وأبدى إعجابه بها، ليدخل عالماً جديداً كانت فيه المرأة تعني له الكثير. وبالتوازي مع رغباته البيولوجية الطبيعية التي تقيّدها سلطات الدولة والدين والمجتمع، اكتشف أن المبادئ والأخلاق لا بد أن تكون ثابتةً ولا تتغير أمام الاختلافات الأيديولوجية والفكرية، وارتأى كذلك أن القراءة والبحث والنقد والشك والمقارنة بين الأديان والمعتقدات دون اكتسابها بصورة فطرية هي السبيل الأمثل للتميّز وزيادة الوعي، برغم أنه كان في المرحلة ذاتها متديناً ومصلّياً وصائماً كغيره من المسلمين التقليديين، إلا أن الفزاري أراد أن يعلن أن شهوة العقل للمعرفة لا يمكن أن تقف أمامها الدوغما والتحيزات التي تُشكِل الجهاز العقائدي للإنسان.
تتأسس حكاية "اللايقين" على خيطين متوازيين تمثلهما ذاتان مرتحلتان داخل الواقع العُماني بما يمثله من تناقضات فكرية وتقاليد مجتمعية مزعومة. ذاتان قررتا أن ترسما عالمهما الفريد وطريقتهما الخاصة في العيش والاشتباك مع قضايا الحياة العمانية، وذلك بهدف الخروج من الوصاية والقيم الأبوية والسلطوية إلى عالم الحرية والانسياق إلى رغبات العقل والجسد
وفي الخطوط الأخيرة من العمل تتّحد الخيوط العامة للمقلقات التي تنغّص عقل البطلين في عدم احترامهما لسلطتهما الحاكمة والمهيمنة على أخلاق وأفكار المجتمع كما تهيمن وتسطو على ثرواته ومدّخراته ونظامه السياسي، تلك السلطة التي لا تمتلك حزباً سياسياً واحداً أو جماعةً سياسيةً فاعلةً يمكن أن تتواجد على أرض الواقع لتصبح على الأقل مبرراً لتفرّدها كنتيجة لاختيار المواطن وأفراد المجتمع، لذا اهتزت صورة الملك لدى البطلين، واستغلا رواج حركة التدوين وحالة الاستقطاب التي صنعتها منصات التواصل الاجتماعي لكل من يرغب في التعبير عن رأيه وعرض أفكاره للنقاش الحُر والعام عبر فضاءات منصات التفاعل الرقمي، والتي ازداد تأثيرها وقدرتها على إحداث التغيير الفاعل ليس فقط على مستوى الأفكار، وإنما على مستوى الواقع، لتتحول قصة البطلين إلى قصة شباب عمان الذي شعر بالقلق على مستقبله ووطنه فتدفق إلى أرجاء شوارع عمان في ربيع 2011، ليسجل غضبه واحتجاجه، وتُبِعت الاحتجاجات بثورة ثقافية نشطة وهائلة في ميادين التدوين الإلكتروني واكتشاف المواطن لمساحات شاسعة وهائلة يمكن أن يعرض فيها أفكاره وينتقد سلطته وإن دون الإفصاح عن هويته الحقيقية خوفاً من التنكيل والاعتقال والمساءلة.
وفي خضم طريق البطلين ورغبة كل منهما في الوصول إلى مبتغاه في عالم الحرية واحترام الاختلاف وإنسانية الفرد وكينونته كونه مواطناً، لا لاعتبار آخر أيديولوجيّ أو بيولوجيّ أو تراتبيّ، نرى حضور سردية الإسلام السياسيّ بقوة واتحاده مع مثقفي الدولة والسلطان، ما أنتج في النهاية ثقافةً مشوهةً كانت المسوّغ الرئيسي الذي يرتكز عليه حُكم السُلطان وما يسنّه من قوانين تحظى باتفاق وتأييد الكود المجتمعي الأخلاقيّ، وكذلك أنتجت زُمرة "المتثيقفين" أبواق السُلطة، على حد تعبير الفزاري، وهؤلاء قد تعاملوا مع الحاكم على أنه الأب الذي لا يجوز فيه الخطأ وبهذه الأفكار باتوا يهيمنون على تفكير المجتمع، ليقفز الراوي عبر خيوط الحكاية ويقوم بتفكيك فكرة "المواطنة" أو "المواطنة المتساوية" -كما أسماها الفزاري في عمله- بصورة ذكية وغير تقليدية كما يفعل في العادة أقرانه من مفكري و"أنتليجنسيا" الخليج وسلطنة عُمان، وذلك بتعريضها إلى التجريد من صورتها العربية المتماهية مع السلطوية والتي تعيد إنتاجها -أي المواطنة- في صور عدة تحدث عنها الكاتب على لسان أبطاله كعلمانية الاستبداد، والليبرالية المنقوصة، والديمقراطية الشكلية الشعاراتية، وقام الكاتب بموضعتها في فصلٍ داخل أروقة الرواية أسماه "المسار الثالث".
وكانت الموضوعات والقضايا التي أثارها محمد الفزاري، في روايته "اللايقين"، عناوين رئيسيةً ومضامين التقارير والإحصاءات والمؤشرات التي كانت تصدر عن منظمات ومراكز حقوق الإنسان العالمية والعربية والخليجية، والتي كانت تنتقد أوضاع حقوق الإنسان وانتهاكاتها في عمان، خاصةً بعد الربيع العماني في 2011، وكذلك تناولت هذه التقارير حرية التعبير وحرية الدين والمعتقد وحقوق المهاجرين وحقوق الإنسان في عُمان، ومن هُنا نجد تلك القضايا وقد تم تأطيرها في رواية "اللايقين"، وكانت هي خيوط الحكاية التي كانت تسير في قطاعات متوازية بين البطل "هو" والبطلة "هي" من جانب، ومن جانب آخر الالتماس والتوازي بين البطل "هو" وراوي العمل الذي يبدو أنه قد اتحدت شخصيته بالبطل، على أساس القلق المشترك الذي رسم مصيرهما في النهاية، وكونهما من أبناء المعاناة نفسها.
الصحافة في عُمان
وحينما نرجع عشر سنوات إلى الوراء، إلى زمن طبع "اللايقين"، نجد أن منظمة "هيومان رايتس ووتش" في تقريرها الصادر في 13 حزيران/ يونيو 2012، قد أدانت السلطات العُمانية لحملة القمع الموسعة بحق الناشطين السياسيين وقيامها بمراقبة أنشطتهم عبر الإنترنت. وفي عام 2015، قالت منظمة "مراسلون بلا حدود"، إن حرية التعبير والإعلام في سلطنة عمان تبعث على الأسى، بعد أن وصلت إلى حالة مزرية، وأضافت أن السلطات "لا تتوانى عن اللجوء إلى تهمة إهانة الحاكم أو التحريض على تجمعات غير قانونية أو الإخلال بالنظام العام للقبض على الناشطين الإلكترونيين الذين يضطلعون بعمل إعلامي قيِّم، بل تعتقلهم سرّاً في بعض الأحيان، وتحكم عليهم بعقوبات شديدة القسوة". وفي العام نفسه، قدّمت منظمة "الكرامة" -وهي منظمة سويسرية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان مقرّها في جنيف- استعراضاً استقصائياً شاملاً كشفت فيه عن العديد من انتهاكات حقوق الإنسان في القانون العماني.
وفي آب/ أغسطس 2020، قدّمت منظمة العفو الدولية تقريراً إلى الأمم المتحدة تحت عنوان "عُمان: انتهاكات حقوق الإنسان مستمرة"، وبعد شهر وفي العام نفسه، قدّم مركز الخليج لحقوق الإنسان تقريراً مهماً حمل عنوان "استهداف حرية التعبير لا يزال مستمراً في عُمان".
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قال المرصد الأورو-متوسطي إنه تابع بأسف إصدار سلطان عمان هيثم بن طارق، مرسوماً سلطانياً رقمه 68/ 2022، بتعديل بعض أحكام قانون الجزاء في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، وتضمن فرض عقوبة السجن على من ينشر مهاجماً السلطان وسلطته وأسرته وكذلك وليّ العهد، وأوضح الأورو-متوسطي أنه بموجب التعديل الجديد للمادة (97) في قانون الجزاء العماني، يعاقَب بالسجن مدةً لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على سبع سنوات، كل من ارتكب علانيةً أو بالنشر طعناً في حقوق السلطان، وسلطته، أو عابه في ذاته، كما يعاقَب بالعقوبة ذاتها كل من ارتكب علانيةً أو بالنشر طعناً في زوجة السلطان ووليّ عهده وأولاده، أو عابهم في ذاتهم.
وفي عام 2022، أشارت منظمة العفو الدولية في تقريرٍ شاملٍ إلى الفئات المتضررة من قوانين النظام العماني المجحفة، استنكرت فيه احتجاز سلطة عمان ومحاكمتها لأشخاصٍ عبّروا عن آراء انتقادية لإجراءات الحكومة أو لمن أفصحوا عن معتقدات دينية خارج نطاق الممارسة الإسلامية الرسمية. وأثارت المنظمة أزمة العمال الأجانب داخل عمان ومعاناتهم مع الاستغلال والعمل القسري بالإضافة إلى أوضاع العمل القاسية وعدم اتخاذ السلطات العمانية أي خطوات جدية لإصلاح نظام الكفالة، وذكرت منظمة العفو أيضاً أن النساء في عمان يتعرضن للتمييز المجحف في القانون في الواقع الفعلي في المجالين المهنيّ والمنزليّ دون اتخاذ الدولة لأي خطوات تضع حداً للتمييز ضد النساء.
ومن هُنا كانت الجولة أعلاه وسط تقارير المنظمات والمراكز الحقوقية العالمية في المقام الأول جزءاً غير هيّنٍ من الإجابة على التساؤل الذي أفردناه في أول دراستنا حول سردية عُمان المُعقدة التي تقفز إلى مخيلات كثيرين يظنون عُمان جزيرةً منعزلةً عن العالم تعيش في المياه الهادئة في معزل عن المتغيرات السياسية والاقتصادية حول العالم. وفي مقام آخر كانت مخرجات ومؤشرات هذه التقارير هي المضامين ذاتها التي ناقشها الروائي العُماني محمد الفزاري، في عمله الأدبي "اللايقين".
ومذكرات "اللايقين" التي دوّنها الفزاري، لم يتحاشَ فيها الكاتب الإحراج كما كان يقول في عمله ولم يَخَف من المساءلة، ورأى أنه لا يملك خياراً إلا أن يسرد قصته، وأظن أننا لا نبتعد عن ميادين الحقيقة أو الموضوعية إن أدرجنا ذاك العمل الروائي تحت بند السيرة التسجيلية أو الترجمة الذاتية، ومن هنا قال الكاتب في المواضع الأولى للعمل إن ما ستقرأه ليس روايةً، وليُخرج كُل قارئ الرواية التي في رأسه على حد تعبيره. وكما أسلفنا الذكر فإن "اللايقين" هي رواية سلطنة عمان قبل أن تكون حكاية البطلين "هو" و "هي"، ويمكن أن نقول إنها روايتنا "نحن" الذين نعيش تحت ظل الأنظمة العربية ونواجه سلطة التابوهات السياسية والدينية والمجتمعية كما هو نظام عُمان.
الإبداع الأدبي العماني
وتُعدّ رواية "اللايقين" امتداداً لسلسلة من الأعمال الأدبية التي صاحبت تطور الحركة الأدبية العمانية في السنوات الأخيرة. ففي سنوات سابقة للربيع العماني، كان أدب سلطنة عمان يوصف بالأدب الخجول أو الأدب "غير المرئي" قبل أن يشهد خلال السنوات القليلة الماضية، نقلةً نوعيةً خرجت به من دائرة الظل ومن المحلية إلى العالمية، ومن هنا توالت الأعمال الأدبية العمانية الشعرية والقصصية منذ التسعينيات. وبالرغم من قصر عمر التجربة إلى الآن نسبياً، إلا أنه خلال العقدين الماضيين تمكنت أقلام عمانية عدة من المنافسة عربياً كما ذكرت الباحثة الخليجية نسرين العبوش، في مقالتها "أدب الشباب العُماني من الظل إلى العالمية".
وجدير بالذكر أن عجلة التطور التي مُني بها الإبداع الأدبي العماني في السنوات الأخيرة لم تكتفِ بالوقوف عند حدوده العربية، بل تجاوز مكانيته وتمكن من الوصول إلى العالمية وتحديداً عام 2019، عبر رواية "سيدات القمر" للروائية جوخة الحارثي، التي فازت بجائزة "مان بوكر العالمية"، لتكون أول شخصية عربية تفوز بهذه الجائزة.
ونموذج القرية وأخلاق القرية الازدواجية السائدة التي ناقشها الفزاري في "اللايقين" سبقتها كذلك محاولات ناجحة عدة، إلى أن أكمل الفزاري السلسلة، ولكن هذه المرة في رأينا بجرأة لم تتوافر في الأعمال السابقة، فنجد أن القرية عند الفزاري صحراء مروعة أو بالأحرى كما عبّر عنها الشاعر العماني المعروف سيف بن ناصر بن عيسى الرحبي، بأنها رمز وجودي للوحشة والعدم. في حين نرى أن رواية مثل "سنوات النار" للأديب أحمد الزبيدي، والتي صدرت عام 2012، والشهيرة في هذا الميدان الذي اقتحمه الفزاري بروايته "اللايقين"، ارتكزت على "مجتمع العمرانية" بثقافة العبودية السائدة فيه، والتي ظلت مهيمنةً على تفاصيل المجتمع الجديد وأنسجته، وزاوجت رواية الزبيدي بين القهر الفردي والقهر المجتمعي، وقامت الرواية بتعرية مظاهر الزيف والنفاق الاجتماعيين، وازدواجية المعايير، في علاقة الحاكم بالمحكوم ولكن برمزية تكاد تسرف في أدواتها وتبعدك كقارئ في بعض الأحيان عن العدو الحقيقي الذي تسبب في وصول أحوال عمان إلى ما آلت إليه حقائق الواقع المرير التي شرحها الفزاري بتسلسلٍ هرميّ مقلوب بدءاً من الأسرة وصولاً إلى الحاكم بأجهزته الاستخباراتية والأمنية.
وفي معرض موازنتنا الأعمال الأدبية العمانية المهمة في السنوات الأخيرة معتمدين فقط -في بحثنا هذا- على معيار نسبة الموضوعية ونغمة السرد ومسافاتها الفاصلة بين ما كان متمترساً داخل القالب الأدبي من جهة، وبين ما يمثله داخل خريطة الواقع من مفردات وحقائق غالبة من جهة أخرى، نرى كذلك الحكاية في رواية "اللايقين"، سلسلة حكايات يمكن إدراجها في نظر العديد من الجمهور الذي تنتقده الأعمال الحداثية المنتصرة للقيم الحرياتية ولقيم المواطنة، تحت بند "الهرطقة" و"خيانة الوطن" و"الخروج عن الأخلاق"؛ إذ إنها تنتقد أهم مكونات الشخصية العمانية وهي مكونات السُلطة الحاكمة والثقافة الدينية للمجموع وأعرافه وتقاليده السائدة. فالفزاري في عمله انتصر لحرية الفرد في التعبير عن رأيه ومعتقده وأفكاره بالقدر نفسه الذي انتصر فيه لحرية الجسد بمهاجمة تابوهات العيب والحرام وغير المألوف في نظر الجمهور، ولا نبالغ إن ذكرنا أن "اللايقين" تُعد ثورةً جنسيةً بقدر تعاطيها مع السياسي والثقافي والديني.
رواية "الباغ" ذائعة الصيت في الوسط الأدبي العماني، والتي نشرتها الأديبة بشرى خلفان عام 2016، وبرغم تقاربها مع القضايا التي ناقشها محمد الفزاري في "اللايقين"، إلا أنها ارتكزت على التأريخ بصورة أكبر في سردها لحكاية جيلين: جيل الأخ "راشد" والأخت "ريا" من جهة، وهما اللذان اضطرا إلى مغادرة وطنهما الأول؛ نتيجة الظلم الذي وقع عليهما من العم وأبنائه بعد موت الأب، والجيل الثاني هو الجيل الذي تنجبه "ريا" أخت "راشد" والتي تركت أرضها احتجاجاً على القمع وفراراً منه.
تُعدّ رواية "اللايقين" امتداداً لسلسلة من الأعمال الأدبية التي صاحبت تطور الحركة الأدبية العمانية في السنوات الأخيرة. ففي سنوات سابقة للربيع العماني، كان أدب سلطنة عمان يوصف بالأدب الخجول أو الأدب "غير المرئي" قبل أن يشهد خلال السنوات القليلة الماضية، نقلةً نوعيةً خرجت به من دائرة الظل ومن المحلية إلى العالمية
وفي أقصوصات الأديب العماني محمد اليحيائي، التي ضمها في مجموعته "البيت والنافذة" ونشرها في 2017، نجد أن قصصاً مثل "علاقات خطرة"، و"براق"، و"الغريب" وغيرها، كان أبطالها يهربون من الواقع إلى شيفراتهم الخاصة التي لا يمكن تفسيرها إلا بفهم الواقع السياسي العماني دون أن يشتبك معه أبطال القصص كما حدث مع أبطال الفزاري الإيجابيين والفاعلين والذين يجبرون القارئ على احترامهم لما أحدثوه من تغيير ولتجاوزهم سقف المسكوت عنه في حياتهم وفرارهم إلى خارج حدود الوطن لبدء حياة جديدة.
بعدها بعام، أي في عام 2018، صدرت رواية "حيتان شريفة" للأديب سيف الرحبي، ليتم تصنيف الكاتب وكذلك عمله ضمن إطار الأدب التنويري المتشابك مع الواقع السياسي والاجتماعي وهي ملحوظة بالفعل في موضعها الحقيقي، إلا أننا حينما نوازنها بمقاييس الفاعلية الأدبية وحيويتها في مقدار صراعها مع مكونات السُلطة بأجزائها المختلفة التي تحكم الواقع نرى الرحبي -على خلاف الفزاري- لا يقدّم للقارئ شخصيات استثنائيةً، بل هي نماذج للشخصيات الفاسدة، وهي حالة تكاد تكون واحدةً في البلدان العربية؛ فساد رجل السلطة، الذي يسخّر سلطته للإثراء، وفساد رجال الأعمال بتزاوجهم مع السلطة، وسط حالة الفساد التي يتصف بها كل من النظام الاقتصادي والاجتماعي، الذي يفرز في النهاية علاقات مشوهةً ومريضةً.
ومن هنا نرى أن الكتابة والإبداع الأدبي من المكونات المهمة في دراسة الواقع العماني الحديث بصورته السياسية أو التاريخية، خاصةً في العشرين سنةً الأخيرة التالية للربيع العماني، وليس من فراغ أن يتحدث الأديب محمد الفزاري في مواضع عدة من رواية "اللايقين" عن شهوة الكتابة وآثارها ضِمناً في تغيير واقع الفرد أولاً، وإسهاماتها عُنوةً -أي الكتابة- في إجبار المفكر أو الأديب الحُر على أن يحمل لواء إحداث التغيير الفاعل في الواقع، فيقول الفزاري في أحد مواضع العمل: "عزيزتي الكتابة، كنتِ خير صديق، وخير أنيس، أستطيع الآن أن أدفع الكرسي من أسفلي دون تردد، أستطيع أن أغادر هذه الحياة بسلام، لن أنتظر الموت يهزمني، بل سأتقدم له خطوةً، وقد تكون خطوات". ويمكن أن نقف عند زاوية الكتابة لدى الفزاري من الناحية التي تحدث عنها الشاعر والقاص العماني هيثم البوسعيدي، في مقالته "الهجرة إلى عالم الكتابة"، المنشورة في مجلة "الفلق" في نيسان/ أبريل 2010، حيث يقول إنها أشبه بالهجرة إلى عوالم أخرى ومساحات بعيدة ومسافات طويلة ومواقع غريبة، ستحمل معها المزيد من الأهوال والتضحيات والتنازلات والأوجاع.
ولا أجدني قد أخطأت حينما استقبلت عمل محمد الفزاري لأول مرة بعامية اللفظ "اللايقين"، أي ذوي اللياقة والكفاية كتوصيف يمكن إسقاطه على بطلَي العمل "هو" و"هيّ" اللذين قاما بسرد حكاية عمان ونسج قصة الوطن، إلا أنني حينما فرغت من قراءة العمل وعلمت مقصود مؤلفه من لفظة "اللايقين"، أي نفي حالة اليقين، أصررت على اعتناق مدلولي الرمزيّ -على أقل اعتبار- للعمل، أي "اللايقين" بمعنى "غير اللائقين" لأنهم استثنائيون وفريدون ويعيشون في مجتمع "غير لائق"، وكان ذلك -على الأقل بالنسبة لي- أولى بالاعتبار.
الأدب هو جسر للتواصل بين الثقافات المختلفة؛ إذ إنه يلعب دوراً مهماً في بناء العلاقات الوثيقة بين شعوب العالم أجمع ومختلف الثقافات، فهو يخلق دائماً منظومةً معرفيةً متكاملةً قائمةً على التشابه والاختلاف، والتأثير والتأثر بين أدباء ومبدعي الأمم. ولا يمكن أن نغفل القيمة الإنسانية لصنوف الأدب ودورها في رسم حرية الإنسان أياً كان، ورصد واقعه حيثما عاش، فالأدب هو رصد للحياة عموماً وما تحمله من تجارب إنسانية، متجاوزاً حدود المكانية والقيود الجغرافية، لذا يُعدّ عمل "اللايقين" خير تدليل وأوضح بيان على رسالة الأدب العامة، وإمكانية التحليق بالتجارب الإنسانية إلى أبعد مكان متجاوزاً سماء الوطن، ولذلك نرى "هو" و"هي"، وحتى الأبطال الثانويين -والذين تنتمي غالبيتهم إلى فئة المتسلطين- نموذجاً لحياة الإنسان في العديد من المجتمعات وخاصةً العربية والخليجية، وستظل مثل هذه النماذج موجودةً ما دام الإنسان يحيا على وجه الأرض، بالإضافة إلى أن قضايا العمل هي القضايا عينها التي يمكن أن نناقشها في ما يخص المجتمعات التي تمنع وتقيد حرية الفكر والإبداع والعقيدة، أينما كانت، سواء كانت مجتمعات عربيةً أو خليجيةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...