شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
صداقاتي في عمان تذكرني بأنني ابنة القرية

صداقاتي في عمان تذكرني بأنني ابنة القرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 23 فبراير 202101:50 م

لم يرد في خاطري حين حزمت حقائبي وغادرت القرية، باتجاه العاصمة عمّان، أنني سأذكرها بشيء، أو أن حكاياتها وسيرها ومعارفي فيها قد احتلت جزءاً من ذاكرتي، وتدخلت رغم أنفي في رسم شخصيتي بالكامل لا الملامح العريضة فقط، عشت في القرية ربع قرن، بينما كان خيالي في مكان آخر حر وواسع، لا يشبهها ولا يتقاطع معها بشيء.

كانت طفولتي مليئة بالفتيات؛ في صفوف المدرسة كان لي صداقات كثيرة، وأمام المنزل حيث اللعب آخر النهار، فزت باثنتين، وبين الأقارب والمعارف وأصدقاء العائلة ربحت حصة كبيرة من الصديقات، لم يكن بيننا غير اللعب وشقاوة الطفولة، كنا نتخاصم بسبب الغيرة، ونفتن بين بعضنا البعض، ونحب بعضنا البعض، لم تكن تتميز واحدتنا عن الأخرى إلا بسيرها المثيرة، الملفتة بيننا هي من تأتي بسيرة أو موقف حدث معها خارج القرية.

بين فترة وأخرى كنت أزور عمّان مع عائلتي، نقضي يوماً واحداً خارج سور القرية، نزور أماكن تتواجد حصراً في العاصمة، ثم أعود لصديقاتي، محملة بالفخر، ومعبئة بالمواقف التي كنت أسردها بالكثير من المبالغة، لأحصل على فرصة اصطياد الكيد من عين إحداهن، والحسد من عين ثانية.

لا أذكر كيف اشتعلت شرارة الصداقة بيني وبين أي فتاة ممن مررن في طفولتي، إلا أنني أحاول تذكرهن، بأسمائهن وصفاتهن، وملامحهن، لكن ما أدركه حقاً هو صداقاتي التي تشكلت في فترة المراهقة، حين تبدأ القرية في فرز بناتها، وتمييزهن تبعاً لأسماء عوائلهن، ومدى التزامهن بالعادات والتقاليد و"التصرفات المحمودة" في دستور القرى، وقتها اخترت مجموعة صديقات واخترنني، والاختيار هنا يتناسب مع واقع فتيات يعشن في قرية عددها محدود، ولا يخرجن منها إلا برفقة العائلة، لذا كان لكل فتاة منا عدد محدود من احتمالات الصداقة، تلقاها في الحارة، أو في المدرسة، أو بين الأقارب.

جئت إلى عمّان الكبيرة وحيدة، لا صداقات ولا ذكريات، ولا بيوت أطرق بابها فيخرج إلي وجه مألوف، لكن اعتقادي بأن الصداقات تحدث صدفة، والخيارات هنا واسعة خفف من حدة فقد صديقات القرية

جمعنا التمرّد، لم تكن واحدة منا راضية عن حياتها بالكامل، لذا اتفقنا ضمنياً على حقنا في تبادل الأسرار عن شباب نغرم بهم ويغرمون بنا، وتبادلنا النصائح حول المشاكل التي كنا نمر بها، وتحمّلنا هموم بعضنا الدراسية والنفسية، كانت جلستي بين صديقاتي هي أول تجربة لي في تشكيل دائرة أمان خارج البيت.

جئت إلى عمّان الكبيرة وحيدة، لا صداقات ولا ذكريات، ولا بيوت أطرق بابها فيخرج إلي وجه مألوف، لكن اعتقادي بأن الصداقات تحدث صدفة، والخيارات هنا واسعة خفف من حدة فقد صديقات القرية.

عكس القرية، كل الأحداث في العاصمة تمر بسرعة، حتى أنني لم آخذ فرصتي في تأمل واقعي الجديد، أو الاندهاش مما يحدث فيه، كل ما في الأمر أنني ركبت قطاراً كل ما أشاهده من شباكه مشوّش، بعد أن كنت أمتطي حماراً يمشي على مهله، فأنتبه للهامش والمتن سوياً.

الصداقة هي الحدث البطيء الوحيد في عمان، وقفت أمام خيارات للصداقة لا حصر لها، وأملك رفاهية التأمل فيها، وقراءة إمكانية وفائدة حصولها، كما أن تشكّلها وتوطدها يأخذ فرصته الكاملة في الحدوث، حتى أن نسيانها والاستغناء عنها بسيط، واكتشفت أنني قادرة عليه.

لا تملك العلاقات التي تتشكل بحرية حقيقية قداسة مثل تلك التي نجد أنفسنا بداخلها فجأة، كما أن التغير السريع في الظروف والأحداث الذي تفرضه العاصمة يرغم الجميع على الاستغناء عن صداقات وعلاقات نشأت في ظرف ما، وأصبحت ثقيلة التواجد في ظرف آخر فاختفت، الاختفاء هو الميزة التي لم تكن ممنوحة لي ولغيري في القرية، وتعرفت إليها هنا.

في مرة خرجت لشراء حاجيات البيت، ناداني صوتاً مألوفاً، حين التفت وجدت وجهاً أعرفه، كانت صديقتي في المدرسة الإعدادية، وقد مر على آخر لقاء بيننا قرابة العشر سنوات، غاب اسمها عن رأسي ونحن نمشي باتجاه بعضنا، تلعثمت عند بداية الحديث، إلا أن ترحيبها بي كابنة بلد جعلني انطلق في سؤالها عن حالها، وأهلها، وحياتها، وسبب تواجدها في عمان، أمطرتها بأسئلة كثيرة وقابلتني هي الأخرى بالسؤال عن كل شيء، كان لقاء سريع مليء بالأخبار والابتسامات والشعور بالراحة والألفة والاطمئنان.

انتبهت لفقداني لنوعية الحديث المليئة بالتفاصيل التي تتكبر المدينة عليها، وتهمّشها وتنبذ صاحبها. لا أذكر أنني سألت أي من أصدقاء العاصمة عن عائلته وهمومهم، عن أخ فقد، أو أخت هربت مع حبيبها، أو عن ظرف مادي، أو عن أخبار آخر علاقة حب عَلمت بها

انتبهت لفقداني هذه النوعية من الحديث، المليئة بالتفاصيل التي تتكبر المدينة عليها، وتهمّشها وتنبذ صاحبها. لا أذكر أنني سألت أي من أصدقاء العاصمة عن عائلته وهمومهم، عن أخ فقد، أو أخت هربت مع حبيبها، أو عن ظرف مادي، أو عن أخبار آخر علاقة حب عَلمت بها، كان لقائي بها بمثابة صافرة إنذار جعلتني أنبش ذكرياتي في القرية، وأفكر في صداقاتي العتيقة، وفي الأثر العميق للقرية على شخصيتي، فكل صداقاتي في عمان تذكرني بأنني ابنة القرية، وها أنا حزرت السبب.

ثمّة مكان في ذاكرتي اكتشفته مؤخراً يشغلنه صديقات القرية، وزميلاتي في المدرسة، أقفلته بتعنت الذاهبة إلى العاصمة لتنفجر فيها، وتوظف طاقاتها، وأفكارها، وهواياتها بحرية غير متاحة هناك، وها أنا أفتحه مجدداً بتواضع القروية التي تسكن عمان، وتحيط نفسها بعدد قليل من الناس، بينما يحتشد صدري بالكثير من الأسرار التي أحب أن أحكيها، والكثير من الدموع التي تنتظر أن تسحل من عيني، وبرغبة طفلة تحب أن تحكي لصديقتها ماذا يوجد في عمان، وكيف تصير غنية تجربة العيش فيها بذاكرة قروية أصيلة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image