في ساحة الاستقبال، وقبل الدخول إلى عنابر السجن، تبدأ "التشريفة" من جانب رئيس مباحث السجن وعدد من ضباطه وأفراد طاقمه، ومع اللحظات الأولى في حفلة استقبال الوارد الجديد، تتدفّق القيود والقوانين، وتبرز أهمية "السجائر" كرمز للسلطة في ثقافة السجون، لتتجاوز آثارها حياة السجناء، وتتسلّل جغرافياً لدى كل طبقات السجن، بما فيها مسؤوليه، فأحد أهم أدوات "التكدير" تجريد الواردين الجدد من سجائرهم، حتى وإن كان ذلك لا تقرّه لائحة السجون، إلا أنها تندرج تحت لوائح السلطة والتحكم التي تراود كل العاملين خلف الأسوار.
داخل أروقة السجن، تتقاطع الأنوار وتلتقي الظلال، تصطف الزنازين المظلمة، فتعكس وجوه السجناء مزيجاً من اليأس والأمل، تعمّ الظلمة كل أرجاء المكان، وتتراقص أضواء الشموع كالأرواح المحبوسة، فترسم صوراً دُرِّية تطرح ظلالاً مرعبة، ووسط تلك الأجواء المريبة، تبرز عيدان السجائر كالشرارات الطفيفة التي تحاول بقوة إضاءة الظلام المحيط، فتنقل الأفكار والأحلام عبر الأرجاء، كتنسيق توزيع الشموع في الأديرة القديمة، والتي تنقل مدلولات الأمل، وترسخ مفاهيم الإيمان، وتفتح باب الصبر والإرادة، حيث حتمية أن هناك ضوءاً ينتظرنا دوماً في نهاية المطاف.
تنعكس في السجائر كافة تعقيدات الحياة السجنية وتضاريسها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ما يجعل منها أكثر من مجرّد مسلك لتفريغ الضغوط والكبت، والتنفيس عن حالة الغضب والقهر والألم التي تنتاب الجميع
كما تتناغم السجائر في السياق مع أسلوب توزيع الأنوار، حيث تمثل شراراتها المتطايرة أحلام السجناء المتناثرة في أفق الحرية والخلاص، ويعكس دخانها الذي يتصاعد كل الأفكار الحالمة المندفعة التي تحلق في أروقة السجن الغابرة، وتسعي للخلاص من كل تكبيل وقيد، لتحمل بين طياتها كل أحاسيس الأمل والتفاؤل، فيمتزج دخانها بروح الصمود والتحدي، وتتلاشى ضبابية القهر أمام شرارات الأمل التي تتفاقم منها.
تنعكس في السجائر كافة تعقيدات الحياة السجنية وتضاريسها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ما يجعل منها أكثر من مجرّد مسلك لتفريغ الضغوط والكبت، والتنفيس عن حالة الغضب والقهر والألم التي تنتاب الجميع. تتطوّر وتتنامي إرهاصاتها لتصبح رمزاً للكثير من المعاني والدلالات، وفي ظل هذا الواقع المعقّد، تتغير النظرة للسجائر في السجون عن مثيلتها خارج أسوار السجن، فالسيجارة بالسجن رمز للأمل والقوة، ومصدر للسلطة والهيمنة، وأداة للتواصل والتعبير، وليست مجرّد عادة، ولا وسيلة لنيل الاسترخاء، ولا أداة لرفع مستويات هرمونية مزاجية، كما يراها الناس خارج السجون.
كمفتاح ذهبي، تتداخل وتتعانق دلالات السجائر في مشهد يتخلّله الغموض والتناقض، وتنسجم مع حياة السجناء كلما ازدادت الأيام والليالي في عالم الانعزال، تمتزج في كل ثقافات السجن الداخلية، وجميع مناحيه، وتتربّع على عرش معاملاته الاجتماعية والاقتصادية، كما تتلاءم مع طبيعة كل فرد وميوله وتطلعاته، وتتحول إلى ورقة السر الرابحة في شتي المعاملات، فتكتسب قوتها الاستثنائية في تلك البيئة المعقدة باعتبارها عملة بديلة، في ظل خصائصها وصلاحياتها الكبيرة في عقد الصفقات الآمنة مقابل السلع والخدمات، وتتجلّى قيمتها بشكل أبرز في حالات الحصول على السلع غير المسموح بها داخل السجن.
تعكس السجائر لغة معقدة يترجمها السجناء بأساليبهم المتنوعة والمبدعة، وتصبح وسيلة للتواصل والتعبير عن الذات في بيئة تفتقر إلى الحرية والمرونة، تتراقص على أوتار الأصابع لتبثّ رسائل الصمود والتحدي في وجه القيود والمحظورات، فعلى مدار اليوم، يلتقي السجناء لمشاركة قصصهم وتجاربهم، وسعياً لتوثيق العلاقات الاجتماعية بينهم، وإثر ذلك يتناقلون السجائر فيما بينهم كما لو كانت مفتاح الوصول وأداة لفت الانتباه والجذب، فعندما يتناقل السجناء السياسيون بينهم أعواد السجائر، فانهم يتبادلون في الأصل لغة الصمت المشحونة بأنغام الأمل والإصرار، حيث تصبح أعواد السجائر أداة فنية وأدبية، تنسج خيوط الثقافة والهوية داخل جدران السجن، وتحمل كل نفثات دخانها قصصاً عميقة خلف القضبان، تروي تجارب الحياة، وتعبيرات الروح في لغة لا تحتاج لكلمات، وتنتشر من خلال صداها كل شائعات الحب والخيانة والمؤامرات، وتسهم بشكل فاعل في تكوين مجموعة من الشبكات الاجتماعية والاقتصادية التي تستند على تدويلها داخل منظومة السجن.
لا يستطيع "عم جمال"، الشاويش النظامي للعنبر، أن يخرج من السجن ويعود إلى بيته بعد انتهاء مناوبته التي تصل إلى 24 ساعة كاملة، دون أن يتخلّص من كافة علب السجائر معه، والتي تثقل كتفيه، بعد أن تحصّل عليها من خلال خدماته للنزلاء، والتي تتنوّع بين خدمة السماح لهم إما بالتَريّض لساعات أكثر، في ظل حتمية تقسيم العنبر الي مجموعات بسبب كثافة العدد وعدم اتساع منطقة التريّض لكافة النزلاء، وإما مقابل خدمة تسهيل إجراءات الخروج لعيادة السجن الطبية، أو حتى كهدايا من بعض النزلاء الذين يحتاجون دوماً لخدماته.
تمنع لوائح وعادات السجون أن يخرج العاملون به بمتعلقات وأدوات تفيد تحصّلهم عليها من داخل السجن، وهو ما يدفع بالجميع للاعتماد على "السجائر"، كعملة آمنة يسهل تدويرها، بخلاف "كوبونات" البوفيه، التي تنظّم من خلالها إدارة السجن سير العملية التجارية بعيداً عن النقود المجرمة، والتي لن تحل مشكلة تصدير المواد والسلع خارج السجن. فيضطر "عم جمال" إلى إعادة تدوير قيمة "السجائر" بالنقود، ولأن لائحة السجون تمنع تداول النقود بداخلها، ترتفع قيمتها لأعلى الدرجات، حيث تعد "الكارت السحري" داخل المؤسسة الاجتماعية والاقتصادية للسجن، ولا يمكن أن يضاهي قيمتها أي عملة بديلة، مهما علا شأنها، وهو ما يهدّد رصيد "عم جمال" في قيمة حصته الكبيرة من سجائر المناوبة، لكنه لا يجد غيره لحل الإشكالية المعقدة.
تترنح بين أوجه الضوء والظلام، كالنجم اللامع في سماء داجنة، فعلى الرغم من أهميتها البالغة ونفوذها الكبير، ودورها المتعدّد في توفير مختلف الاحتياجات من السلع والخدمات، إلا أن قيمتها الحقيقية تتلاشى كظلال الغروب عندما تستبدل بالنقود داخل حدود السجن، فتدنو قيمتها لتصل إلى أقل من نصف سعرها الحقيقي بالخارج، فشرعية تواجدها بالداخل وسهولة الحصول عليها عبر الزيارات أو داخل دائرة تعاملات السجن، في مواجهة الخطورة الجمّة لتسلل النقود، وصعوبة تحصيلها بشكل طبيعي داخل السجن، تجعلها حبيسة النمو، وخاضعة لقانون اقتصادي واجتماعي محكم، مستمر منذ عشرات السنين.
وكما تتجدّد قصة البحث عن النور في ظلام الليل، تبدأ معاناة السجناء في تدوير عجلة الحياة من جديد، يجمع النزلاء الذين تحصلوا على النقود بشكل أو بآخر، ما تيسر من سجائر "عم جمال" المأزوم، ليبدؤوا إعادة تدوير العملية طبقاً لناموس السجن وبشكل مختلف، فتتنفّس عيدان السجائر بين جدران الحصار، كرياح الصحراء الجامدة تحت طلاء الحمرة، حيث يتم تداولها بين أيدي السجناء كسلعة ثمينة، تنظّم حياتهم وتقود تعاملاتهم في إطار لغز معقد، وبسبب محاولات السلطة الحثيثة لإقصاء النقود من داخل تلك الأروقة الباردة، تبقي السجائر ملاذاً آمناً للصفقات والمعاملات، تتجلّى فيها قوة البديل والتكيف مع طغيان الظروف.
وفي الوقت الذي تدور فيه كمية من تلك العملة البديلة في نفس مسارها الأول، إلا أنها تعزّز نفوذها بشكل اقتصادي آخر في التعاملات التجارية داخل السجن، فقيمة السجائر ترتفع إلى الضعف في عملية الحصول على السلع والخدمات، على العكس من "الكوبونات" التي لا تحظى بقبول الغالبية، كالوردة الذابلة في حقول الخريف، فتدنو قيمتها للغاية في تعاملات السلع والخدمات التي لا تتوفّر في سوق السجن الرسمي، لتصل إلى نصف قيمتها الحقيقية في عجلة التحصيل، بينما تفقد كل قيمتها في مسار تحصيل السلع والخدمات المحظورة داخل قطاع السجون.
السجائر واحدة من أهم السلع داخل محيط السجن، إن لم تكن أهمها، والتي استطاعت، طبقاً لفلسفات أدب السجون، أن تتجاوز طبيعتها السلعية، وتتحول إلى عملة آمنة
كسردية خيوط متشابكة، تتلاقى الأضواء مع الظلال، وتنسج حكاية تنامي نفوذ السجائر كعملة بديلة في زوايا الظلمة القاحلة، فبينما تتناغم أوتار الازدواجية الاقتصادية لقيمة السجائر، تبقى عملية الحياة والبقاء مرهونة بناموس مُحكم في إطار ساحة القيمة والثمن، لتصوغ لوحة مالية متنوعة تحكمها قواعد غامضة، تقوم على توازن دقيق بين العرض والطلب، بينما يظل التداول العزيز للنقود هو ضامن ثبات قيمتها واستقرار معدلاتها وحركتها، حيث تُعتمد السجائر كسلعة أساسية تحكم حياة السجناء بأسرها. وكما تعكس أضواء النقود تلك التناقضات المالية، تتجلّى قيمة السجائر في استمرارية التدفق المالي داخل السجن، كعنصر حيوي يحافظ على توازن السوق الاقتصادية والاجتماعية داخل محيط القيود والحصار المختلف.
وفي أعماق السجون وغياهب الزنازين، تتفتح نورات السجائر كأداة لتحقيق التوازن بين القوة والتأثير، حيث تحمل بين طياتها قوة التواصل وعمق الصمود، وبينما تنبثق الأصوات في متاهات الصمت، تصبح السجائر لغة تنقل الأفكار والمشاعر عبر مساحات الحجر والحديد، يرتفع دخان السجائر في أروقة الحبس السياسي، ليتصاعد معه رمزية الأمل والتحدي.
في ذاكرة السجون، وفي ظل الواقع الذي يجمع كل عوامل المعاناة، تبقى السجائر بلغة الصمت، شاهدة على قوة الإرادة وعزم البقاء، رغم تحديات الظلام والقهر، تكتسب السجائر رمزيتها في التضحية والتضامن، فعندما يضحي السجناء بسجائرهم، هم يرفعون في الأصل شعلة التحدي عالياً، لتحمل عبق المقاومة والثورة ضد كل أشكال الظلم والقهر، وكلما تصاعدت أعمدة الدخان من طاقات الزنازين نحو السماء، تتنامى لحظات الصمود والتضامن، لتسطر بأحرف من نار قصة شجاعة وإصرار على بناء عالم أفضل، كما تؤكد على قوة الإرادة والصمود في وجه كل ظلم وفساد.
بين تصاعد قيمتها، وتزايد مدلولات معانيها، تبقي السجائر واحدة من أهم السلع داخل محيط السجن، إن لم تكن أهمها، والتي استطاعت، طبقاً لفلسفات أدب السجون، أن تتجاوز طبيعتها السلعية، وتتحول إلى عملة آمنة، ورمز للمعتقدات والأفكار والمبادئ التي طالما سعى السجناء لتأصيلها خارج الأسوار، وقبل أن يُسلب منهم كل أدواتهم المعتادة في التواصل والتعبير على عتبات السجن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.