شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"بعضها يعود إلى مملكة سبأ"... عن متع الحمامات البخارية في صنعاء القديمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تحجز فاتن لابنتها غرفة خاصة "خلوة"... ليوم الغُسل، وتدخل العروس الحمام بعد أن تكسر أمها بيضة، وترش الملح عند مدخل الحمام البخاري خوفاً من العين والحسد ووسط الزغاريد، كما تزود الأم ابنتها بالمساحيق والزيوت الطبيعية بعد أن تنضم لفتيات العائلة في غرفة عامة بأحواضها الأربعة، حيث يجري العبث بمياه الحمام منذ السابعة والنصف صباحاً إلى أن يرغبن بالمغادرة أو يُقفل الحمام الباب، ودونما التفات لما يهدر من مياه أو لنظرات من ينتظرن دورهن للوصول إلى أحواض الاستحمام، تقول فاتن لرصيف22: "لقد سبقنا إلى المكان، ودفعنا ثمن المياه".

حين نفرح نزور الحمّام

ترتبط الحمامات البخارية بالمناسبات السعيدة، خصوصاً الزواج، حيث تكون العروس مغطاة أو باللهجة المحلية "مغمقة"، وترتدي ملابساً من التراث الشعبي، مع النباتات العطرية والمرجان في غرفة "المخلع" قبل مغادرتها الحمام وسط الزغاريد والأهازيج الشعبية، وحيث تطلق الألعاب النارية لدى وصولها البيت إعلاناً ببدء إقامة حفلة الغسل "النقش" مساءاً قبل يوم من الزفاف.

ترتبط الحمامات أيضاً بالاستعداد لشهر رمضان، والأعياد، وعطل نهاية الأسبوع، والإجازة الصيفية، وبعد الولادة. حيث الفرح مرتبط بالنظافة العميقة، وهي تعمل صيفاً وشتاءً، ويتواجد معظمها في صنعاء القديمة، ويرتادها الناس يومياً أو أسبوعياً كعادة مجتمعية امتدت منذ زمن لم تكن كل البيوت تملك حماماً بداخلها.

زادت أزمات المياه والكهرباء والغاز والسكن مؤخراً من من إقبال الناس على الحمامات البخارية للتمتع بحمام ساخن، فضلاً عما يعنيه حمام البخار بطقوسه التراثية لمن يعتقدون بأن التداوي بالعلاج الطبيعي يفوق في تأثيره الطب الغربي.

تعد الحمامات البخارية المتاحة في قلب مدينة صنعاء امتداداً للحمامات الطبيعية التي تمتلكها اليمن المعروف بالسياحة العلاجية لامتلاكه مياهاً معدنية ساخنة تنبع من باطن الأرض محتوية على كبريت الهيدروجين كحمام جارف، وعلي، ودمت، والسخنة قبل أن توقف الحرب السياحة. 

ترتبط الحمامات البخارية في صنعاء بالمناسبات، خصوصاً الزواج، حيث تكون العروس مغطاة أو باللهجة المحلية "مغمقة"، وترتدي ملابس من التراث الشعبي، مع النباتات العطرية والمرجان في غرفة "المخلع" قبل مغادرة الحمام وسط الزغاريد والأهازيج الشعبية

شجارات نسائية لطيفة

تستعمل الزائرات مسحوق تراب الروس والسدر والكركم والحناء والنيلة الزرقاء والصبار اللزج والبن والنشأ والشوفان وصبغات الشعر، وجميعها تستهلك المياه عند إزالتها عن الجسد، كما تعلق في حجر الحبش الأسود خشن الملمس بحسب العاملة والمكيسة نهى (وهو اسم مستعار)، التي تعمل في "حمام الجراف"، تقول لرصيف22: "تأثرت رئتي بسبب استنشاق الروائح والسموم المنبعثة من الخلطات والمستحضرات الكيميائية المتصاعدة، مع حرارة المكان وبخار الماء".

الظروف الاقتصادية العامة وكثرة استخدام المياه دفعا أصحاب هذه الحمامات لمضاعفة سعر الخدمة للنساء (دولارين مقابل دولار للرجل) مع أمر الزبونة برش المياه على أرضية الحمام أولاً بأول كما تفعل العاملة ذلك كل بضعة دقائق، وتحت ضغط منافسة الزائرات الجدد الراغبات في الجلوس عند حوض المياه الذي يتسع لامرأتين على جانبيه، يستمر استنزاف المياه للإيحاء بأن الحوض قيد الاستعمال وردود من نوع "لقد وصلنا للتو" أو "لم ننتهِ بعد".

ويسمح الطقس الدافئ في الحمام بالبقاء طويلاً، وما يرافق ذلك من مواصلة سكب المياه على الجسد بعد التعرق الناتج عن الجلوس على حجر الحبش الأسود الساخن في غرفة "الصدر" المجاورة لغرفة "الملة" التي تشمل موقد النار و"الدست"، والمقصود به خزان المياه الساخن.

ذكاء المعمار القديم

صُممت الحمامات البخارية لتحتفظ بالحرارة، حيث توجد أسفل الأرض على عمق أمتار من سطحها، وتعلوها قباب كتلك التي تعلو المساجد والتي تبنى من الطوب الحراري "الياجور" ويغطيها الجص الأبيض، وفي داخلها جدران وأرضيات حجر الحبش الأسود الذي يحفظ الحرارة أيضاً، ولا توجد نوافذ للحمامات، فقط زجاج صغير أبيض مموه يسمح بعبور ضوء الشمس وفتحات كالثقوب تسمح بوصول شيء من الأكسجين وتخليص المكان من فائض الغازات كثاني أكسيد الكربون، لكن هذه التهوية تعجز عن التخلص من سموم المواد الكيميائية إلا بعد وقت طويل.  

يعود تاريخ الحمامات في اليمن إلى آلاف السنين، ويُعتقد أن "حمام سبأ" يعود إلى ما قبل الإسلام، وكذلك "حمام ياسر" الذي ربما يُنسب إلى الملك الحميري "ياسر يهنعم ".

وفي العادة يستمر حرق النفايات والوقود في "المِّلة" التي تقع أسفل غرفة الصدر بما تضمه من مواد قد تتسبب بانبعاثات سامة كالفلين مثلاً.

ويشهد اليمن البلد المعتمد على مياه المطر الموسمية أزمات مياه جعلته تحت خط الفقر المائي، فمنذ آلاف السنين ابتكر اليمنيون الآبار والسدود والمدرجات الزراعية، لتجميع قطرات المطر من على أسطح البيوت، وبحثوا عن ينابيع وشلالات المياه في موسم المطر لتخزينها وصولاً إلى صهاريج المياه المدفوعة، ومشاريع خدمة المياه الشحيحة التي لا تغطي المدن، وطوابير انتظار فرصة الحصول على 20 لتراً من المياه من فاعلي الخير في طريق أو حمام مسجد.

من وقت سبأ

يعود تاريخ وجود الحمامات في اليمن إلى ما قبل الإسلام، وقد وثّقت النقوش التاريخية التي تعود لزمن الحضارة السبئية وجود الحمامات آنذاك، وعُثر على آثار يعود تاريخها للألف الأول قبل الميلاد، إلا أن فترة الحكم العثماني شجعت على انتشار الحمامات البخارية بطرازها العثماني، لكن هذا لا يعني وجود حمامات أقدم كثيراً، حيث يذكر المؤرخ الرازي أن عدد الحمامات في العام 991 بلغ 12 حماماً، ويُعتقد أن "حمام سبأ" يعود إلى ما قبل الإسلام، وكذلك "حمام ياسر" الذي ربما ينسب إلى الملك الحميري "ياسر يهنعم ".

وتوجد الحمامات البخارية في المدن التاريخية كمدينة صنعاء القديمة على مسافات متقاربة على مستوى كل حي، وبالقرب من المسجد و-المعبد قبل الإسلام-؛ لارتباطها بالتطهر النفسي والجسدي، ويلحق بكل حمام مصلى. وكان ليهود اليمن حمامات خاصة بهم، مثل "حمام شكر" و"الجلاء"، كما كان للطبقة الحاكمة حمامات خاصة كـ"حمام المتوكل"، في حين قد يحجز الحمام ليوم للتجار ومن لديه مال أو مساحة منه فيما يعرف بـ"الخلوة".

أدرجت منظمة اليونسكو الحمامات البخارية ضمن قائمة التراث العالمي، ومن أشهرها اليوم "حمام السلطان" الذي توفى بانيه السلطان طغت كين بن أيوب عام 1397م، وتوجد حمامات حديثة كـ"حمام الميدان" الذي بني قبل 150 عاماً، وهناك حمامات متطورة بجماليات تصاميمها لكنها لا تلقى رواجاً كما هو الحال مع الحمامات التاريخية.

الاستثمار في هذه الحمامات

ليست الحمامات البخارية في اليمن مجرد مزارات تاريخية وسياحية وعلاجية، فهي لا تزال تؤدي دوراً وظيفياً واجتماعياً. لذا تعد مشاريعاً استثمارية ناجحة رغم تفضيل اليمنيين للحمامات الأثرية وعدم ميلهم للساونا والجاكوزي -إن وجدت- في بعض المنتجعات المائية السياحية. 

صُمّمت الحمامات البخارية لتحتفظ بالحرارة التي توجد أسفل الأرض على عمق أمتار من سطحها، وتعلوها قباب كالتي تعلو المساجد، والتي تبنى من الطوب الحراري "الياجور" ويغطيها الجص الأبيض، وفي داخلها جدران وأرضيات حجر الحبش الأسود الذي يحفظ الحرارة أيضاً

ورغم حداثة "حمام الجراف" نسبة إلى الحي الذي يقع فيه، حيث تأسس قبل 33 عاماً إلا أنه يشهد إقبالاً، تقول صابرة (اسم مستعار) لرصيف22، وهي إحدى المشرفات على الحمام: "الحمام مزدحم صيفاً وشتاءً، لكن النفقات التشغيلية تستهلك ثلثي ما نكسبه، إذ نحتاج 5 خزانات يومياً نشتريها بقيمة 100 دولار، ونشتري النفايات من المولات التجارية بقيمة 60 دولاراً للكمية الواحدة، كانت نسبة الربح تصل إلى 50% سابقاً، لكن حالياً وبعد الأزمات المتتالية صارت نسبة الخسارة تصل إلى 70%، بسبب الهدر في المياه.

ووفقاً لبحث يعود للعام 2017 بعنوان "الحمامات البخارية التقليدية في مدينة صنعاء القديمة " للباحثة في الهندسة المعمارية آلاء الأصبحي، ما تزال الحمامات تؤدي دورها منذ أكثر من 500 عام، وذكرت الباحثة أن أغلب الحمامات تعود للقرن السادس عشر، ورغم استمراريتها إلا أن أغلبها لا يخضع للرقابة من وزارة الصحة أو السياحة، كما لا تخضع للضرائب كون معظمها أوقاف.

وتتولى وزارة الأوقاف والإرشاد الإشراف عليها، لكن الوزارة بحسب العائلات التي تتوارث هذه الحمامات تكتفي بالحصول على مبلغ سنوي لا يتجاوز 38 دولار، لتبقى أجرة الحمام في متناول محدودي الدخل، وعلى الرغم من هذا لا تزال الكلفة المادية والمائية مرتفعة في بلد تحت خط الفقر الغذائي، والأهم المائي. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard