وضعت مجموعة من الفلسطينيين-الإسرائيليين من صانعي الأفلام، جمهور مهرجان "برليناله" هذا العام، عبر فيلم "لا توجد أرض أخرى"، أمام واقع صادم مرهق أخلاقياً، لا تنجح معه مجادلاتهم المضادة المعتادة والمتعلقة بالحرب الإسرائيلية في غزة، عندما يشاهدون لقرابة ساعة ونصف كيف يعارك الناشط الفلسطيني باسل عدرا، بكاميرته وصيحاته من قبيل "أنتم مجرمون"، مستوطنين مسلحين وجنوداً إسرائيليين قادمين لتنفيذ "أمر" تدمير بيوتهم، وبيوت حيواناتهم، ومدرسة أطفالهم، في مسافر يطا في الضفة الغربية المحتلة.
يروي هذا الفيلم القوي، الذي لا يجامل المشاهد في إظهار عنف صارخ وقاتل، قصة صراع عابر للأجيال لعائلةِ باسل وجيرانه، الذين كافحوا طوال 22 عاماً، قضائياً، لمنع طردهم من أرضهم من قبل الجيش الإسرائيلي الذي حوّل ديارهم إلى منطقة عسكرية تابعة له، متسلحاً بحكم قضائي، وحوّلهم إلى غرباء في أرضهم، فيما يؤكد سكانها ومنهم باسل أنهم يقيمون فيها منذ عهد العثمانيين، وأن الأمر يتعلق بمحاولة توسع إسرائيلية.
هذا الصراع المديد، ومشاهدة باسل عائلته وهي ترحّب بناشطي سلام إسرائيليين مذ كان صغيراً، جعلا تقبّله دعم الصحافي اليهودي الإسرائيلي من أصول عربية، يوفال أبراهام، سهلاً.
يروي هذا الفيلم القوي، الذي لا يجامل المشاهد في إظهار عنف صارخ وقاتل، قصة صراع عابر للأجيال لعائلةِ باسل وجيرانه، الذين كافحوا طوال 22 عاماً، قضائياً، لمنع طردهم من أرضهم من قبل الجيش الإسرائيلي
مع ذلك، لا تُقدَّم الصداقة القائمة بين باسل ويوفال بطريقة سطحية، بل تظهر تناقضات تواجده معهم على مدار فترة تصوير الفيلم الطويلة، على سطح أحاديثهما. هو في النهاية يحمل جنسية الذين يأتون ليدمروا منزلهم: "نحن نبني فقط كي تأتوا وتدمّروا".
يعرض باسل ويوفال الذي بات شريكه في العمل على الفيلم، بجانب حمدان بلال وراشيل سيزور، حلقات من واقع لايقينيّ يضطر باسل وجيرانه إلى عيشه، بين مداهمات ليلية إسرائيلية للقبض على ناشطين، وغارات لهدم منازل، ويستيقظون كل يوم في دارهم متوقعين أن يكون هذا آخر يوم لهم فيه.
وسط كل هذه الظلمة، يضيء صنّاع الفيلم على بعض المفارقات المعبّرة ولحظات سعادة يصنعونها من الألم، كإعلان جهاز مساج يظهر على تلفزيون معلّق في كهف، بات منزلاً للعائلة بعد هدم دارها، وتنظيم احتفال بخروج والد باسل مرةً أخرى من سجن اعتاد طريقه، منذ العام 2005.
يتغير منحى أحداث الفيلم مع تغير أحوال صانعيه ويتبدى التباين بينهم، فمع اعتقال والد باسل، لا يقوى على المخاطرة بالخروج لتصوير غارات الهدم ومواجهة الهادمين، خشية القبض عليه وحرمان عائلته من معيلها. وعندما يتكفل يوفال بالدور، تكون ردة الفعل الإسرائيلية على أحد مواطنيها مختلفةً.
يعرّج صانعو/ات الفيلم على مختلف أساليب التهجير التي تتّبعها السلطات الإسرائيلية والمستوطنون، ومنها تجهيل الأطفال، وتدمير السبيل إلى ذاك الأفق الضيق في الحياة الذي يرسمونه لأنفسهم وسط كل هذا العجز.
يضجّ الفيلم بالمشاهد الصادمة المقتطعة من الحياة دون تحرير، لهجوم الجنود على باسل وإسقاطه مع كاميرته على الأرض، في محاولة من صانعيه لإبراز استخدام الكاميرا كأداة جارحة أكثر من السلاح، وكذلك لتعرّض السكان لإصابات نارية مباشرة، تقعدهم عن الحياة.
في فيلمهما الأول، لا تنجح ولا تقنع دوماً محاولات يوفال وباسل في عقد حوارات حول ماهية أوضاعهم والحل، وما الذي تحاول إسرائيل فعله؛ هل ستنجح في سياسة القضم بيتاً بعد بيت؟ لكن ما ترصده كاميراتهما يطغى على ذلك، ويقدّم وجبةً بصريةً أكثر من كافية في هذا الوقت العصيب، لتجعل المشاهد/ة يغادر قاعة السينما وطعم المرارة في نظراته/ا.
جدل غير مرغوب فيه يرافق العرض الأول
في مقابلة صحافية مع باسل ويوفال نظمتها إدارة "برليناله"، مع مجموعة من الصحافيين/ات، سألهما رصيف22، عن رأيهما في تغطية الصحافة الألمانية لموقفهما المعلَن حيال إدارة "برليناله" بعد العرض الأول، الذي انتهى بتصفيق طويل وقوفاً، وبهتافات "فلسطين حرّة"، وبعض الجدال بين المشاهدين، وتركيزها على وصفهما إسرائيل بدولة أبارتايد. يقول أوفال إنهما انتقدا ببساطة موقف إدارة "برليناله" التي امتنعت عن الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، وهو أمر لا يستطيعان تفهمه بعد 135 يوماً من الحرب ومع دمار كل قطاع غزة، ونزوح مليونَي شخص.
ويضيف أنه يدرك أن لمصطلح "دولة أبارتايد" حساسيته في ألمانيا، موضحاً: "لكن لتنظر إلينا ونحن جالسون أمامك. أنا إسرائيلي وتحت الحكم المدني، فيما يخضع باسل للحكم العسكري. في وسعي التحرك بحرية وفي سيارة تحمل شارةً صفراء، فيما باسل محتجز في الضفة الغربية المحتلة، ولديه سيارة بلوحة خضراء. وعندما تكون لديك دولة واحدة، ولديك حكما قانون، فهذه بالنسبة لي دولة أبارتايد. باسل ليس لديه حق التصويت بينما لديّ أنا ذلك، لكن القانون يحكمنا نحن الاثنين".
ويقول يوفال إنهما مستاءان من تلك المادة الصحافية، مشيراً إلى أن فيلمهما معقد كموضوع وعاطفي، ثم يأتي صحافي بعد ذلك ويركّز على المصطلح، عادّاً المقالة نوعاً من البروباغندا، وهي غير مرتبطة بلبّ ما يحاولان قوله عبر الفيلم.
وبسؤالهما عن ردة فعلهما عندما علما باختيار فيلمهما في برنامج "برليناله"، وسبب اختيارهما الموافقة على المشاركة لا المقاطعة، كما يفعل البعض استجابةً لنداء "قاطعوا ألمانيا"، يقول باسل: "أردنا أن نأتي ونجعل الجمهور الألماني يرى ما الذي يحدث، وما الذي تدعمه حكومته، والاحتلال الوحشي الذي يسرق أراضينا. بالنسبة لي كل ما تفعله إسرائيل عبر اعتقال الصحافيين وقتلهم، والقدوم إلى منزلي وسرقة كاميرتي، ما هو سوى محاولة لإخفاء ذلك عن عيون الناس. يريدون إخفاء الاحتلال، وسرقة بلادنا ومنازلنا، والكاميرا هي وسيلتنا الوحيدة لإيقاف سرقة أراضينا، لذا قدومنا إلى هنا والوصول إلى هذا العدد من الجمهور أمران مهمان للغاية بالنسبة لنا".
ورداً على سؤال صحافي عما إذا كانت صناعة الفيلم بمثابة "معجزة" نظراً إلى تعاسة الظروف، وكيفية تعاملهما مع اتخاذ القرار بالنسبة إلى تحرير الفيلم والظهور فيه، إذ كما هو واضح أن باسل هو الشخصية الرئيسية، يوضح يوفال أنهما اتفقا منذ البداية على اتخاذ القرارات التحريرية بحيث تكون مرضيةً للجميع، وبالنظر إلى أن باسل غير قادر على التحرك بحرية مثله، قررا تحرير الفيلم في كهف في مسافر يطا، ويمكن للمرء تخيّل كيف دخل الجيش الإسرائيلي مرتين لضربهما وأخذ الكاميرات والكومبيوتر، وكانا معرّضَين للخطر في أي لحظة، مذكراً بإطلاق النار على ابن عم باسل، أو إمكانية تدمير المنزل بجرّافة في أي لحظة.
وعن اختيار تصوير الفيلم من وجهة نظر باسل، يقول يوفال إنه لم يكن من المعقول تصويره من وجهة نظره كإسرائيلي يتمتع بكل الامتيازات، رافضاً أسئلة البعض لهما حول ما إذا كان الفيلم موضوعياً، عادّاً أنه ليس في وسعك إظهار وجهة النظر الأخرى عندما ترتكب جرائم، على حد وصفه.
وعما إذا كانا يخشيان من تبعات عرض الفيلم عليهما، يقول باسل إنه لا يتوقع سوى الأسوأ من جانب الاحتلال، شارحاً أنهم يتوقعون كفلسطينيين دفع ثمن باهظ لقاء أمور لا يعاقَب عليها الإسرائيليون، مذكراً بإمكانية جرّ أي ناشط إلى اعتقال إداري من دون أي تهمة، مثل الكثير من الصحافيين الفلسطينيين.
يضجّ الفيلم بالمشاهد الصادمة المقتطعة من الحياة دون تحرير، لهجوم الجنود على باسل وإسقاطه مع كاميرته على الأرض، في محاولة من صانعيه لإبراز استخدام الكاميرا كأداة جارحة أكثر من السلاح، وكذلك لتعرّض السكان لإصابات نارية مباشرة، تقعدهم عن الحياة
يوفال يقول إن ما يتعرض له لا يمكن مقارنته بباسل، فهناك ضغط اجتماعي، مثل أن تُلقّب بالخائن، ويتوقف بعض الناس عن الكلام معك، مضيفاً أنه لا يعرف هل سيكون شجاعاً مثل باسل لو كان في مكانه، وهو يدري بأن جيشاً أجنبياً في وسعه ضربه وزجّه في السجن؟
وعن وضع العوائل اليوم في القرى، يقول باسل إن الوضع أسوأ بكثير مما سيشاهد الجمهور في الفيلم، حيث بات المستوطنون كلهم حولهم جنوداً، يتجولون بثيابهم العسكرية ويحملون أسلحةً، ويفرضون الحكم العسكري على حياتهم، وقد غادرت عائلات كثيرة ظاهرة في الفيلم، ومن لم يغادروا باتوا ممنوعين من ممارسة حياتهم اليومية، فلا يستطيعون قطف الزيتون أو الذهاب لرعي المواشي، ويضطرون إلى العيش ضمن مجتمع صغير أو حتى داخل المنزل، ويقوم المستوطنون الجنود بتدمير الآبار، ويبنون لأنفسهم المزيد من المزارع ويأخذون المزيد من الأراضي.
وعما إذا كان قرار الانتهاء من العمل على الفيلم وإصداره مرتبطاً بهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، قالا إنهما كانا على وشك إنهائه حينها، لكنهما توقفا فعلاً لأنه بات الاقتراب من الجيش خطراً للغاية، فلم يعد يخرج باسل لأجل تصوير التدمير، خاصةً بعد تعرض ابن عمه لإطلاق النار داخل قريته، متوقعين مغادرة المزيد من العوائل لو استمر الوضع على ما هو عليه.
وعن وصف البعض الحديث عن رواية "العيش المشترك" بين الفلسطينيين والإسرائيليين بأنها غير واقعية، يقول باسل إنهما لا يتحدثان في الفيلم عن العيش المشترك، بل عن المقاومة المشتركة، ويريان أنه لن يكون هناك حل سياسي، قبل أن تتصرف الحكومات الغربية بجدية وتفرض عقوبات على إسرائيل حتى تنهي الاحتلال والاستيطان، لا عبر الخطابات أو المفاوضات، مشيراً إلى أنهم كفلسطينيين وطوال 25 عاماً من المفاوضات، لم يصلوا إلى نتيجة، لأن طرفاً واحداً لديه السلطة الكاملة، يسلّحه العالم الغربي بأكمله، ويمنحه المال ليتحكم بهم: "لذا لماذا سيفكرون في إنهاء الاحتلال والوصول إلى حل سياسي؟".
يوفال يقول إنه إذا نظر المرء إلى الخرائط التي ترسمها إسرائيل، فلن يجد القرى التي يعيش فيها باسل، إذ لا تقتصر محاولة المسح على أرض الواقع بل تشمل أيضاً الخريطة، متسائلاً كيف بإمكان المرء الحديث عن "العيش المشترك" إن لم يكن أحد الطرفين موجوداً، لذلك يسمونها "المقاومة المشتركة"، ويسعون إلى تغيّر انعدام المساواة الساري، وإنهاء الاحتلال، ليصلوا يوماً ما إلى "العيش المشترك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...