في مواجهة مع المطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، صرخت رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي، في المتظاهرين: "عودوا إلى الصين حيث يقع مقرّكم الرئيسي".فلماذا الصين؟ ولماذا يقع المقرّ الرئيسي لمتظاهرين يهتفون: "أوقفوا إطلاق النار في غزة الآن"، في شنغهاي أو بكين؟ إنها ثنائية الطيب والقبيح التي تحتل الخيال السياسي الأمريكي.
أسطورة الطيب والقبيح
اتفقت الطبقة السياسية الأمريكية بمعسكريها الكبيرين (الديمقراطيين، والجمهوريين)، على منح إسرائيل الدعم المادي والسياسي في صورة أسلحة مدمّرة وأموال متدفقة ودعم في مجلس الأمن، وعلى أن تمنح الفلسطينيين حزنها الشفهي وتعازيها الخطابية وتمنياتها لهم بحظ سعيد في رحلتهم للهروب من القنابل التي ترميها عليهم أسلحة، أمريكية المنشأ وإسرائيلية التوجيه.
يحتاج هذا الدعم الانتقائي إلى أساطير تحميه وأكاذيب تسانده وفكرة مركزية تواجه سيلاً من الاحتجاجات العفوية في أمريكا نفسها، التي تخرج من مطالب للرأي العام الأمريكي غالبيتها تدعم وقف إطلاق النار، على عكس مطالب الطبقة الحاكمة التي ترغب في مزيد من الدم والنار في غزة. وكانت الأسطورة الأسهل، هي أسطورة أفلام الغرب الأمريكي: كل الآخرين أشرار وكل الأشرار ضدنا.
اتفقت الطبقة السياسية الأمريكية بمعسكريها على منح إسرائيل الدعم المادي والسياسي في صورة أسلحة مدمّرة وأموال متدفقة ودعم في مجلس الأمن، لكن يحتاج هذا الدعم الانتقائي إلى أساطير تحميه، والأسطورة الأسهل، هي أسطورة أفلام الغرب الأمريكي: كل الآخرين أشرار وكل الأشرار ضدنا
في تصريح آخر، أعربت بيلوسي أيضاً عن رأيها قائلةً إن المتظاهرين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة يتعاونون بطريقة ما مع روسيا، وحثّت مكتب التحقيقات الفيدرالي على إجراء تحقيق حول الأمر، إذ قالت بيلوسي: "إن الدعوة إلى وقف إطلاق النار هي رسالة السيد بوتين".
السيدة بيلوسي تغيّر العاصمة الآن من بكين إلى موسكو، وتتجنب أن تذكر الموطن الأصلي للمشكلة؛ غزة والشرق الأوسط. هل تعاني المتحدثة السابقة باسم مجلس النواب الأمريكي من مشكلات في وعيها الجغرافي؟ بالطبع لا، لا تعاني سيدة الحزب الديمقراطي القوية من أزمة وعي، هي فقط تمارس دورها في إعادة تدوير أسطورة الطيب والقبيح. وهي أسطورة ليست مقتصرةً على السيدة بيلوسي ولا على حزبها الديمقراطي، بل هي عابرة للانقسامات الحزبية وشرط للبقاء في الطبقة الحاكمة التي تبدو في أثناء الأزمات الكبرى كما لو كانت حزباً واحداً كبيراً يحكم الولايات المتحدة بألوان وشعارات مختلفة لإضفاء التنافسية على عملية تم احتكارها بالفعل.
فعلى الجانب الآخر من الطيف السياسي، وفي قلب المعسكر الجمهوري، اتهم وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، في تصريح مشابه، الصين بتمويل الجماعات المتطرفة التي تحتج ضد الحرب الإسرائيلية على غزة في محاولة صينية لإفساد العلاقة بين الشعب الأمريكي وحليفته "العظيمة" إسرائيل!
أربع عمليات للتضليل
هناك محاولة إذاً لوضع كل "الأشرار" في سلة واحدة، ومحاولة لتفكيك تعاطف الرأي العام مع وقف إطلاق النار بترديد أكاذيب تضع العالم في ثنائيات الخير والشر. يقوم السياسيون بدور روافع الأسطورة بعد صناعتها في مؤسسات صناعة الميثولوجيا السياسية الأمريكية، والتي تتمثل في المؤسسات الإعلامية ومراكز التفكير الكبيرة. وهذه المؤسسات لها دور أساسي؛ هو مواجهة أي تعاطف يمكن أن ينمو في المجتمع الأمريكي لصالح قضايا العدالة العالمية، وإعادة إثارة المخاوف ضد "متوحشين" متخيَّلين يقاومون المصالح الاستعمارية الكبرى.
اتهمت رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي المتظاهرين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة بالتعاون مع روسيا، وبذا فهي تمارس دورها في إعادة تدوير أسطورة الطيب والقبيح.
تقوم هذه المؤسسات في الأزمات الكبرى بأربع عمليات:
الأولى، تكتيل العالم في فريقين، وهي حيلة نفسية تخاطب الاستقطاب البشري والرغبة في التبسيط والانتماء إلى فريق يدخل معارك هرمجدونية مع فريق آخر، أو بالتعبيرات السلفية الجهادية فسطاط الكفر والإيمان.
العملية الثانية هي الوصم الجماعي للمختلفين لتسهيل تنميطهم وتوجيه الكراهية نحوهم، كما وصف مقال "وول ستريت جورنال"مدينة ديربورن في ميشيغان بأنها "عاصمة الجهاد في أمريكا"، لزيادة عدد التظاهرات المؤيدة لفلسطين فيها.
العملية الثالثة هي عملية تحريف الرواية، والهدف منها إعادة خلق الرواية والتأكيد على أن كل الشر في كل الأحوال مسؤولية الطرف الآخر الذي يمثل التوحش. ففي حرب غزة الضحايا دائماً مسؤولية المقاومة؛ إن كانوا إسرائيليين فالمقاومة هي من قتلتهم، وإن كانوا فلسطينيين فالمقاومة استخدمتهم دروعاً بشرية.
والعملية الرابعة هي عملية تحصين المتلقي من استقبال الحقائق. ففي الشهر الثاني للعدوان على غزة، أي في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، انتقدت صحيفة "نيويورك تايمز"، روسيا وإيران والصين لأنها تستغل حرب غزة لنشر الفوضى والأكاذيب، وتموّل حملات على مواقع التواصل الاجتماعي لوصم إسرائيل، واصفةً توثيق الانتهاكات في غزة بأنها حرب معلوماتية على إسرائيل. يبدو أن الهدف تحصين المتلقي من الحقيقة والتعاطف مع السكان الأصليين للأرض ضد انتهاكات تُرتكب بالسلاح الأمريكي.
كل الآخرين أشرار وكل الأشرار ضدنا...
تُعدّ عملية تكتيل العالم في كتلتين متصارعتين أهم تلك العمليات، لذا يتم الإلحاح عليها في صناعة الميثولوجيا الأمريكية. في مقال في واشنطن بوست اتهم مارك ثيسن، المتظاهرين الموالين للفلسطينيين في الولايات المتحدة بأنهم أدوات يستخدمهم ويحركهم بوتين لإضعاف أمريكا بعزلها عن إسرائيل بما يمكّنه من السيطرة على أوروبا!
يبدو ربط ثيسن تعسفياً ومثيراً للسخرية ولا يقوى على الصمود أمام أي جدل حقيقي، نظراً إلى أنه يربط بين أمور غير مترابطة. لذا ألقى توماس فريدمان، أحد أهم صنّاع الأساطير المؤسسية، بعصا موسى لجعل الأسطورة أكثر استقطاباً ووضوحاً.
في إعادة لثنائية المتحضر والمتوحش، والعالم ثنائي الأبعاد، يذكر فريدمان أن العالم منقسم في ثنائية حادة تتجسد في الأزمة الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة. تظهر هذه الأزمات كمعركة جيو-سياسية كبرى تتقاطع فيها خطوط الصراع بين كتلتين متواجهتين؛ الأولى هي قوى وحشية تسعى إلى الحفاظ على الأنظمة المغلقة والاستبدادية، والتي تمثلها "شبكة المقاومة" التي تضم روسيا وإيران والصين بدرجة ما، وحركات "المقاومة في فلسطين". تواجه تلك الشبكة قوى العالم (المتحضر المعولم والمندمج والمتواصل)، التي تسعى إلى صياغة أنظمة أكثر انفتاحاً وترابطاً وتعدديةً، والتي تمثلها "شبكة الشمول" التي تشمل الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب ودول الخليج. هنا تصبح المقاومة خيراً مطلقاً لصالح خير العالم في أوكرانيا، لكنها تصبح شراً مطلقاً تعادي العالم في فلسطين.
لا حلول أخرى يطرحها فريدمان، أمام القارئ المشحون عاطفياً في مقال ظنّه عقلانياً. لا خيار إذاً إلا أن تدعم إسرائيل التي تمثل قيم التحضر، وتكره الذين يدعمون فلسطين لأن دعمهم هذا ضد خير العالم واندماجه.
يتلخص دور مؤسسات صناعة الميثولوجيا السياسية الأمريكية، بمواجهة أي تعاطف يمكن أن ينمو في المجتمع الأمريكي لصالح قضايا العدالة العالمية، وإعادة إثارة المخاوف ضد "متوحشين" متخيَّلين يقاومون المصالح الاستعمارية الكبرى
تكمن مغالطة فريدمان في بنائها ذاته،إذ يمكن للمرء أن يكره أكاذيب الإعلام الغربي في تغطية حرب عدوانية في غزة، وأن لا يستسيغ طعم الوجبات السريعة الأمريكية تماماً كما يكره الاستبداد الإيراني، أو يذهب أبعد من ذلك في أن يحب متابعة حيوية التنافس في الانتخابات الديمقراطية في النرويج، ولا يحب طريقة حماس نفسها في إدارة قطاع غزة، وفي الوقت نفسه يرى إسرائيل دولة فصل عنصري وأن مقاومة هذا الفصل العنصري واجب أخلاقي.
في كل الأحوال يبدو العالم في حقيقته أكثر تنوعاً بكثير من حشره في فسطاطين أحدهما للإيمان بالمصالح الأمريكية والآخر للكفر بها.
في واحد من كلاسيكيات السينما الناطقة بالإنكليزية برغم أصله الإيطالي: The Good, the Bad, and the Ugly "الطيب، والشرير، والقبيح" (وهي الترجمة الأدق من الترجمة التجارية:"الطيب والشرس والقبيح")، لا مكان إلا لطيب واحد، أما البقية فهم أشرار أو قبيحون، لنتفهم أنهم يستحقون مصيرهم المحتوم في نهاية الفيلم. العالم في المخيلة السياسية للمؤسسة الأمريكية الحاكمة مثل الفيلم، منقسم إلى هذه الثنائية؛ أي طيبين معنا، ومجموعة من الأشرار والقبيحين ضدنا. الفيلم هو واحد من أشهر أفلام الغرب الأمريكي التي، وللمفارقة، خرجت موجتها الأولى لترويج أسطورة "الهندي" المتوحش الهمجي، أمام الأبيض المتحضر. "الهنود" المقصودون لم يكونوا هنوداً حقاً، بل كانوا السكان الأصليين للأرض، ولم يكن توحشهم إلا محاولة لمقاومتهم للبقاء على الأرض...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...