شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
قراءات 2023... ألف ليلة تنقذني من عشوائيات ما بعد الحبس الكوروني

قراءات 2023... ألف ليلة تنقذني من عشوائيات ما بعد الحبس الكوروني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الخميس 11 يناير 202410:51 ص

لا أشفى من الكتب، ولا من الأفلام. التكنولوجيا وجدت حلًّاً لتراكم الأشرطة والأسطوانات، هو حل يغني عن أرفف المكتبة، لكن القراءة الورقية لا تتزحرح مكانتها إلا لتعود. للعلاقة مع الصفحة الورقية تاريخ أعمق من اعتياد يتيح كتابة تعليق في الهامش، تسجيل ملاحظة مقارنة بطبعة سابقة، وضع خط تحت جملة. والقراءة الإلكترونية تساعدني فقط على تكبير الحروف، ترفٌ آخر لقارئ كسول يحب الاسترخاء، وأحلى وقت هو إعلان الانتماء إلى حزب الكنبة، للشروع في القراءة أو المشاهدة المنزلية المريحة. حتى المذاكرة أيام الجامعة، لمادة مثل الإحصاء، من وضع الاستلقاء. أتخيل الجنة مكتبة لا نهائية من الكتب والأفلام والأغناني والموسيقى، وما تشتهيه الأنفس.

في 2023 تراجع معدل قراءاتي عن سنوات الحبس الكوروني. لتلك السنين الثلاث، الكبيسة، آثار إيجابية، للاستعادة والإحاطة بمشاريع كتاب ومخرجين. هكذا أعدت قراءة صلاح عبد الصبور ومحمود درويش ونجيب محفوظ وجوزيه ساراماجو، وشاهدت أعمال أكيرا كوروساوا، ومارتن سكورسيزي، وروبرت دي نيرو. ومن الدراما التلفزيونية أكثر من سبعين ساعة لحاتم علي شملت التغريبة الفلسطينية، والزير سالم، وثلاثية الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، وانتهت بمسلسل "عمر".

ومن المشاهدات 46 فيلماً مأخوذة من أعمال نجيب محفوظ، ومعها مسلسلات "حديث الصباح والمساء"، و"الباقي من الزمن ساعة"، و"قشتمر"، و"صباح الورد". ثم أقبل عام 2023 خالياً من كورونا، بدا واعداً باستمرار الكسل والاستلقاء، والتحرر من المشاريع الكبرى.

لا أشفى من الكتب، ولا من الأفلام. التكنولوجيا وجدت حلًّاً لتراكم الأشرطة والأسطوانات، هو حل يغني عن أرفف المكتبة، لكن القراءة الورقية لا تتزحرح مكانتها إلا لتعود. للعلاقة مع الصفحة الورقية تاريخ أعمق من اعتياد يتيح كتابة تعليق في الهامش

استفتحت 2023 بكتاب صغير الحجم، "اكتمال الدائرة: دراسة في ثلاثية صنع الله إبراهيم 67، برلين 69، 1970" للكاتب المغربي صدوق نور الدين. ولم أكن قرأت "67" فقرأت الروايات الثلاث قبل الدراسة.

ثم عدت إلى روايتين سابقتين لصنع الله "التلصص" و"الجليد". خيط يؤدي بعضه إلى بعض، أحياناً تدعوني إشارة إلى استعادة القديم، فأعدت قراءة مجموعة يوسف إدريس "حادثة شرف"، على شرف قصة "سرّه الباتع"، قبل مشاهدة تسع حلقات من مسلسل خالد يوسف، وكتبت عنه في رصيف22 مقالين، أولهما عن تسلّحه بالاستبداد والخطابة، وثانيهما عنوانه "رواية سلطة تكره الثورة... كيف ترضي الله والشيطان في آن؟". يستسلم صناع أفلام ومسلسلات لآفة اسمها الثرثرة.

الثرثرة حشوٌ، ملء للفراغات باللغو، فيطغى على الجمال القليل، ويؤدي إلى طفح يسدّ الطرق إلى المتعة. وبعد عُمر من التجارب، والابتلاء بأذى كتابيّ وبصريّ، لم تعد المرارة تحتمل إكراهات على ما لا تشتهي نفس غايتها المتعة. أفتقد ذلك في كتابات جديدة، فألتمسه في نثر فني تدّخره مقالات يحيى حقي وطه حسين وسعدي يوسف وبهاء طاهر وفاروق عبد القادر وأحمد برقاوي وعبد المنعم رمضان. وممن يكتبون الآن مقالات رائقة، متعوب عليها وتحمل دفء أرواحهم: إبراهيم داود وأثير محمد علي وعبير إسبر ومحمد المتيّم وأثير صفا وسمية عزام. لم يصدر لأي منهم كتاب في 2023 إلا "كائنات ليست من ورق" لسمية عزام.

الكتاب قراءة بينية مقارنة في المتخيَّل السردي، قراءة ذكية وشائقة، تتجاوز حدود النصوص إلى آفاق إنسانية. ولا تشفع الأفكار وعمق التحليل للنقد، ما لم يتمتع بعذوبة يجدها القارئ، فيشعر بالمؤلف، وهو يثقف الجملة، ويصون المحتوى من جوْر اللغة، فيصير النقد نصًّاً إبداعياً موازياً. وفي هذا الكتاب طرفٌ من التاريخ السياسي والاجتماعي، في ضوء تراجيدياً تلاحق البشر عبر العصور. عن الفواجع والكوارث، بالتطبيق على "الحرافيش" لمحفوظ، و"الديكاميرون" لبوكاشيو، و"الطاعون" لكامي، و"إيبولا 76" لأمير تاج السر.

وفي خطاب الجوع: "جوع" لمحمد البساطي، و"الجوع" للنرويجي كنوت همسون. وعن الأمراض والمجاعات كنتيجة للفساد السياسي والتفاوت الطبقي: "الرغيف" لتوفيق يوسف عواد، و"الفراشة الزرقاء" لربيع جابر.

قرأت هذه الكتب كلها؟ السؤال لابني "آدم". والإجابة جاهزة: ولا نصفها. يشير إلى مجلدات "ألف ليلة وليلة"، فأقول: لم أكملها. وفي أيار/مايو قررت الشروع، عازماً على إتمامها حتى آخر السنة. نحّيت ما جاء في الأثر من الموت الذي ينتظر من يتم قراءتها. لا ضمان لاستراتيجية قراءة في سياق عمومي يتسم بالفوضى، قدّرت أن تستغرق القراءة ثمانية شهور، مجلد كل شهر، ويتسع الشهر لالتزامات تفرضها العشوائية العمومية، مثل الانقضاض على المقابر الأثرية، فأقرأ كتاب "مرشد الزوار إلى قبور الأبرار المسمى الدر المنظم في زيارة الجبل المقطم" الوثيقة النادرة الشاهدة على التخريب العبثي لذاكرتنا، ومعه مجلد كتبه المحقق محمد فتحي أبو بكر.

سرقتني "ألف ليلة وليلة"، فأنهيتها في خمسة أشهر. ما فشل فيه، معي، جويس في "عوليس"، نجحت فيه شهرزاد. بعد قراءات لا تكتمل، وانتقاءات لبعض الحكايات، أخذتْ بيدي في رحلة شائقة، عبر صيف غير مسبوق. القراءة المتصلة تضع اليد على تناصات واحتيالات سردية لجأت إليها شهرزاد، بالاتكاء على حكاية سابقة، واقتطاع مشهد لحكاية لاحقة. لها الحق في أن تنقل من خزائن سلالها وفوائض خيالها. وأحياناً تورد بيتين بينهما مئات الليالي بتصريف محمود، يحافظ على الوزن والمعنى ويغير اللفظ. في رهان شهرزاد على النجاة وإنقاذ النساء، واصلت الحكايات، وترفعت عن الشكوى من متاعب الحمل ثلاث مرات، ولم تؤجل الحكي ولو ليلة الولادة.

قراءتي ترواحت بين نصيْ الشيخ محمد قطة العدوي، ووليم حي مكناطن (ثمانية مجلدات). بينهما اختلافات قليلة، في الأبيات والألفاظ. وحين أتوقف أمام عثرة هنا، أجدها مصححة هناك. وبعد هذه الرحلة، الثرية على المستويات كافة، أستطيع استخدام أفعل التفضيل، والإشارة إلى الحكايات الأخف ظلاً، والشخصيات الأكثر تراجيدية، المشاهد التي لم أجد لقسوتها مثيلاً في عمل أدبي أو سينمائي، والعلاقات الأكثر دفئاً ولو بين إنسيّ وجنية تؤاخيه وتحنو عليه في أمومة نادرة. أنهي القراءة ولا أموت. لا أطوي الكتاب، ولا أعيده إلى الرف، يلازمني وأنا أقرأ ما كتبه كل من: أحمد حسن الزيات، وسهير القماوي، وجمال الدين بن شيخ، وعبد الفتاح كيليطو.

في الشعر لا أخطئ دواوين منها "كتاب الخبز" و"مراثي الملاكة من حلب" لكريم عبد السلام، و"راكب في المقعد المكسور" لأسامة جاد، و"مسامرات في الحياة الثانية" لمحمود قرني؛ فيعيدني إلى ديوانه "لعنات مشرقية" المستلهم لإحدى قصص ألف ليلة وليلة. لا أعرف كم مرة قرأت الديوان، والحكاية قبل الديوان وبعده. مثقف كبير، يسيطر على روح حكاية ويتمثلها؛ فلا نجد ملامح بنيان الحكاية في النص الشعري. هرمنا من نصوص ضحلة، يتبجح بنشرها من يسمون أنفسهم شعراء، أشعر تحت جلد نصوصهم بالأصل التراثي، الصوفي أو الشعبي. أما محمود قرني، الذي توفي في تموز/يوليو 2023، فأعاد إلى الشعر هيبته. يقول في "مسامرات في الحياة الثانية":

أنا رجل قتلني وضوحي

لا أرغب في امتلاك شيء

سوى سلة من حروف الهجاء

أحاول هندستها حسب رغباتٍ

يصفها العقلاء بأنها مجرد أضاليل.

قلت إن إشارة جديدة تدعوني إلى استعادة القديم، وجاء حدثٌ بحجم جائزة نوبل إلى مستحقّها بجدارة يون فوسّه. في مقال بصحيفة "العرب" اللندنية، في 15 نيسان/أبريل 2018، كتبتُ عن أول عمله له يترجم إلى العربية، بعنوان "صباح ومساء"ـ أنها "رواية تقرأ بعين الروح، وينصت إليها كمقطوعة موسيقية في مديح الحياة، والتدرب على استئناس الموت ومسامرته". وبعد الجائزة قرأت روايته "ثلاثية" التي ترجمتها من النرويجية إلى العربية كل من شرين عبد الوهاب وأمل رواش. نصوص هذا الرجل النرويجي، يون فوسه، لا تجيب فقط عن سؤال: "ما الأدب؟"، بل تغير سؤال "ماذا؟" إلى "كيف؟". الكيفية تفتح أبواباً وآفاقاً على أسئلة تُعجز العقل.

نوبل أعادتني إلى الفائز. وزلزال 7 تشرين الأول/أكتوبر أعادني إلى مؤلفات عن جذور الإبادة. رواية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي"، وكتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، بمجلديْه، وفيه يوثق مؤرخ الشعب الأمريكي هوارد زِن (1922 ـ 2010) التاريخ المضاد، يحرر تاريخ بلاده من أحادية رواية مؤرخي السلطة، ويكشف الأقنعة المزيفة. وإذا كان العدوان على غزة، والعيون على سيناء، وجَب عليّ الرجوع إلى كتاب "السلام الضائع في كامب ديفيد" لوزير الخارجية المصري محمد إبراهيم كامل الذي استقال عشية توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وكتاب "الحرب القادمة بين مصر وإسرائيل" للمجند الصهيوني السابق إيهود إيلام. وبعد إقامته في أمريكا، ونيل الدكتوراه، لا تنقطع علاقاته مع إسرائيل.

في 2023 تراجع معدل قراءاتي عن سنوات الحبس الكوروني. لتلك السنين الثلاث، الكبيسة، آثار إيجابية، للاستعادة والإحاطة بمشاريع كتاب ومخرجين. هكذا أعدت قراءة صلاح عبد الصبور ومحمود درويش ونجيب محفوظ وجوزيه ساراماجو، وشاهدت أعمال أكيرا كوروساوا، ومارتن سكورسيزي، وروبرت دي نيرو

أيام خلوّ البال، خططت لمشاهدات مشاريع مخرجين كبار. بدأت 2023 بمشاهدة تسعة أفلام لستانلي كوبريك، منها "لوليتا" (1962)، فأحالني إلى "لوليتا" لأدريان لين (1997). ثم عصف الانتقام الصهيوني، فشاهدت "عازف البيانو" لرومان بولانسكي. الجريمة النازية، كما وصفتها حنا آرندت بعد محاكمة أدولف إيشمان، شرٌّ تافه. إيشمان موظف بيروقراطي يؤدي عمله بكفاءة، ليس وحشاً لا أخلاقياً، وإنما هو شرير جاهل، لا يحمل عداء لضحاياه. لكن النازي الصهيوني كاره أيديولوجي، ينتقم بالحد الأقصى من التشفّي، ينطلق من نصوص التلمود وتأويلات العهد القديم. قررت مشاهدة ثلاثية "الأب الروحي" لفرانسيس فورد كوبولا. في مشهد واحد يجري الانتقام الجماعي أثناء تعميد ابن الأخت في الكنيسة.

تستند الكراهية إلى قيم دينية أو فكرية؛ فيصير القتل رسالة. في مهرجان الجونة السينمائي السادس (كانون الأول/ديسمبر 2023) جسّد هذه الروحَ فيلمُ "الجدار" للبلجيكي فيليب فان ليو. الجدار العنصري غير الأخلاقي يفصل الأمريكي عن الآخر، المكسيكي أو من السكان الأصليين. الآخر هدف للقتل، بلا ندم؛ لأنه أقل من إنسان. قادة إسرائيل يرددون هذا طوال عدوان لا يريدون له أن ينتهي. وقد طال زمن العدوان، وأعاق قدرتنا على العودة إلى الحياة الطبيعية، وأخّر قراءة ثلاثة كتب مهمة: "البلاغة العمياء عند طه حسين" لممدوح فراج النابي، و"بصيرة حاضرة: طه حسين من ست زوايا" لعمار علي حسن، و"السينما والمجتمع في الوطن العربي" لإبراهيم العريس.

بقي لسنة 2023 ديْن، ربما شهادة إنصاف للصحافة الورقية. تحترم القارئ فلا يخذلها. في حين تتراجع أرقام توزيع المطبوعات العامة والثقافية، تثبت مجلة "الثقافة الجديدة" برئاسة تحرير طارق الطاهر جدارة جيل جديد من الصحفيات الشابات. عائشة المراغي اجتهدت وعكفت، بدأب وأناة، على تحقيق ودراسة "خرافات أيسوب المصري" للكاتب المصري عبد الفتاح الجميل بمناسبة مئوية رحيله، وزّع الكتاب هدية مع عدد تموز/يوليو. وفي ذكرى مئوية وفاة سيد درويش، أيلول/سبتمبر، أهدت المجلة قراءها ملحقاً ثريّاً عنوانه "سيد درويش وسرّ الخلود" أعدته الشاعرة إسراء النمر. أما عدد تشرين الأول/أكتوبر فخصص بالكامل لطه حسين، "سيرة عقل مصري". نفدت الطبعة الأولى، وأدركتُ نسخة من الطبعة الثانية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image