تمكّن المسلمون من تحقيق مجموعة من الانتصارات المدوية على كلٍّ من البيزنطيين والفرس في النصف الأول من القرن السابع الميلادي. مكّنت هذه الانتصاراتُ المسلمين من السيطرة على أقاليم واسعة في كلّ من مصر وبلاد الشام وبلاد فارس وشمال إفريقيا. لم يمرّ وقت طويل حتى أيقن الفاتحون بالحاجة الملحة إلى الإعلاء من شأن ثقافتهم العربية أمام ثقافات الشعوب المغلوبة، كما حال الكثير من الفاتحين والنازلين في أماكن جديدة. في هذا السياق، شهدت الحضارة الإسلامية ظاهرة التعريب الثقافي للعشرات من المصطلحات الدينية والتاريخية. لم يكتفِ الفاتحون بتعريب الأسماء فحسب، بل أوجدوا لها جذوراً لغويةً عربيةً أحياناً. كما نسجوا حولها بعضاً من القصص الأسطورية في أحيانٍ أخرى، نذكر بعضاً من أهمّ نماذج هذا التعريب خلال هذا المقال.
إسرائيل واليهود
احتار المسلمون كثيراً في فهم السبب الذي لُقّب من أجله النبي يعقوب بإسرائيل. ذكر شمس الدين القرطبي (المتوفى 671هـ) في تفسيره، مجموعةً من الآراء، فقال: "ومعنى إسرائيل عبد الله. قال ابن عباس إسرا بالعبرانية هو عبد وإيل هو الله، وقيل إسرا هو صفوة الله وإيل هو الله، وقيل إسرا من الشدّ، فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه، ذكره المهدوي. وقال السهيلي سمّي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى، فسُمّي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا، فيكون بعض الاسم عبرانياً وبعضه موافقاً للعرب، والله أعلم".
عمل الكثير من المفسّرين المسلمين للعثور على جذور لغوية عربية لمصطلح اليهود. ذكر ابن جرير الطبري (المتوفى 310هـ) في تفسيره: "قيل: إنما سُميت اليهود 'يهود'، من أجل قولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ".
كان السبب الأهم في ميل المسلمين إلى تلك التفسيرات، أنهم رفضوا التفسير اليهودي لذلك الاسم، وهو التفسير الذي تمت الإشارة إليه في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر التكوين: "فَقَالَ: لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ". جاء في قاموس الكتاب المقدس تعقيباً على ذلك المقطع أن "معنى هذا الاسم العبري 'يجاهد مع الله' أو 'الله يصارع'"، الأمر الذي كان مرفوضاً في الاعتقاد الإسلامي لما فيه من تعارض مع تنزيه المقام الإلهي.
من جهة أخرى، عمل الكثير من المفسّرين المسلمين للعثور على جذور لغوية عربية لمصطلح اليهود. ذكر ابن جرير الطبري (المتوفى 310هـ) في تفسيره: "قيل: إنما سُميت اليهود 'يهود'، من أجل قولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ".
أورد البغوي (المتوفى 516هـ) في تفسيره المسمّى "معالم التنزيل" مجموعةً من الأسباب المفسرة للمصطلح، منها قوله: "لأنهم -أي اليهود- هادوا، أي تابوا عن عبادة العجل، وقيل: لأنهم مالوا عن دين الإِسلام". ومنها: "لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ويقولون: إن السمٰوات والأرض تحركت حين أتى الله موسى التوراة". لم يخرج ابن كثير (المتوفى 774هـ) في تفسيره عن المعاني الواردة في الأقوال السابقة، فيقول: "واليهود من الهوادة، وهي المودة أو التهود وهي التوبة... فكأنهم سمّوا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض".
تغافلت كل الأقوال السابقة عن فهم المصطلح في سياقه التاريخي المرتبط بسيرة بني إسرائيل. يتفق اليهود على أنهم قد عُرفوا بهذا الاسم نسبةً إلى يهوذا، وهو أحد أبناء النبي يعقوب. عُرف سبط يهوذا بكونه السبطَ الأكبر عدداً بين جميع أسباط بني إسرائيل. يتفق الباحثون على أن الأغلبية الغالبة من بني إسرائيل التي رجعت من السبي البابلي إلى فلسطين في زمن الملك الفارسي كورُش الأول في القرن السادس قبل الميلاد، كانت تنتمي إلى سبط يهوذا. من هنا، عُرفت الشعوب العبرانية باليهود.
الشيطان وإبليس وجهنم
عمل ابن منظور (المتوفى 711هـ) في كتابه "لسان العرب" على العثور على الجذور اللغوية العربية التي اشتُقّ منها اسما الشيطان وإبليس. يقول في معنى الشيطان: "شطن عنه: بَعُدَ. وأشطنه: أبعدَه. وفي الحديث: كلّ هوى شاطن في النار، الشاطن: البعيد عن الحق، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره كل ذي هوى، وقد روي كذلك. وشطنت الدار تشطن شطوناً: بعدت".
يتابع ابن منظور مبيّناً معنى إبليس: "أَبْلَس: سَكَتَ. وأَبْلَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه أَي يَئِسَ ونَدِمَ، وَمِنْهُ سُمِّيَ إِبْلِيسُ وَكَانَ اسْمُهُ عزازيلَ... والمُبْلِسُ: اليائسُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي يَسْكُتُ عِنْدَ انْقِطَاعِ حُجَّتِهِ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ جَوَابٌ: قَدْ أَبْلَسَ". يعني ذلك أن أصول كلمتي شيطان وإبليس، ترجع إلى ما يفيد البعد عن الله، واليأس من رحمة الله. تتماشى تلك المعاني إلى حد كبير مع السردية الإسلامية التي تؤكد على أن الشيطان قد طُرد من رحمة الله بعد أن عصاه ورفض أن يسجد لآدم.
تتجلى ظاهرة التعريب الثقافي للمصطلح الأجنبي بالشكل ذاته في تناول مصطلح جهنم، والذي يفهمه المسلمون على أنه النار العظيمة التي يتعذب فيها الكافرون في الآخرة.
أما السردية الكتابية (اليهودية والمسيحية) فتقدّم أصولاً مختلفةً للمصطلحَين؛ ورد في قاموس الكتاب المقدس أن كلمة شيطان هي ترجمة للكلمة العبرية شطن -satan- ومعناها "مقاوم". جرى استخدام هذه الكلمة في العهد القديم للإشارة إلى أي شخص يقوم بدور العائق أو المعترض. في ما بعد تم استخدام الكلمة بعد إضافة أداة التعريف ha-satan، لتشير إلى كائن محدد، وهو الملاك الساقط الذي يمارس مهمة غواية البشر ويدفعهم للوقوع في الخطايا والآثام.
من جهة أخرى، يذكر القمّص ميخائيل جرجس صليب في كتاب "الملائكة، لمشاهير الآباء القديسين"، الجذورَ التي اشتُقّت منها كلمة إبليس. يقول: "هذه كلمه يونانية معربة. أصلها باليوناني 'ديابلس' (ديابولوس) ومعناها مجرّب ومشتكٍ أو قاذف. وهي أكثر استعمالاً في العهد الجديد لعدوّ البشر من لفظة شيطان، لأن معظم اللغة التي كُتب بها العهد الجديد هي اللغة اليونانية".
تتجلى ظاهرة التعريب الثقافي للمصطلح الأجنبي بالشكل ذاته في تناول مصطلح جهنم، والذي يفهمه المسلمون على أنه النار العظيمة التي يتعذب فيها الكافرون في الآخرة. حاول ابن منظور أن يجد معنى عربياً للكلمة، فقال: "الجِهنّامُ: القَعْرُ البعيد. وبئر جَهَنَّمٌ وجِهِنَّامٌ، بكسر الجيم والهاء: بعيدة القَعْر، وبه سُمّيت جَهَنَّم لبُعْدِ قَعْرِها".
يتضح الخطأ الواضح في ذلك التفسير لو رجعنا إلى ما ورد عن مصطلح جهنم في العهد القديم. ورد في قاموس الكتاب المقدس أن كلمة جهنم مشتقة من وادي هنوم، وهو "اسم الوادي الذي يمر إلى الجنوب والغرب من مدينة القدس". شهد هذا الوادي عبادة بعض الآلهة الكنعانية القديمة، وتمت فيه عمليات التضحية البشرية بالأطفال. تسبب ذلك في أن الوادي كان مكروهاً ومنفّراً لبني إسرائيل: "وسَمّى اليهود مكان الهلاك على اسمه، ومن هنا وُلدت كلمة جهنم، أي وادي هنوم، حيث البكاء وصرير الأسنان، وحيث النار الأبدية والعقاب الدائم للخطاة".
أسماء الشعوب المغلوبة، البربر وإفريقيا والكرد
حاول العرب أحياناً أن يثبتوا تفوق الجنس العربي على باقي الأجناس، كما فعل بعض الأجناس الأخرى في إثبات تفوقهم، لأسبابٍ وظروف مختلفة. يظهر إثبات تفوق العرب في القصص الكثيرة الواردة في المصادر التاريخية الإسلامية. عملت بعض تلك القصص على ربط الأجناس الأخرى بالعرب لإظهارهم مظهر التابع، في حين عملت بعض القصص على التنبيه على الأصل الشرير/المكروه لتلك الشعوب.
يذكر عبد الرحمن بن خلدون (المتوفى 808هـ) في كتابه "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر"، قصةً من النوع الأول. يقول ابن خلدون عند حديثه عن الأمازيغ في شمال إفريقيا: "أفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنه الذي سمّاهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة، فأُخذ هذا الاسم عنه ودُعوا به من حينئذ، وأنه لما انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير، فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة وكتامة".
تتغافل الرواية عن الأصول الرومانية والأمازيغية لمصطلحات إفريقيا والبربر، كما أنها -أي الرواية- حملت نقداً ضمنياً للّغة البربرية التي وجد العرب الفاتحون صعوبةً في فهمها.
يذكر المسعودي (المتوفى 346هـ) في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" قصةً من النوع الثاني، وذلك في سياق حديثه عن الأصول الأولى للأكراد. يقول المسعودي: "ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليهما السلام حين سلب ملكه ووقع على إمائه المنافقات، الشيطانُ المعروف بالجسد، وعصم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعلق منه المنافقات، فلما رد الله على سُليمان مُلكَه ووضع تلك الإماء الحوامل من الشيطان، قال: أكردوهن الى الجبال والأودية، فربّتهم أمهاتهم، وتناكحوا، وتناسلوا، فذلك بدء نسب الأكراد". تؤكد الرواية على "النسب الشرير" للأكراد. ويتماشى ذلك مع ما عُرف به الأكراد من مقاومة مستميتة للعرب الفاتحين.
فرعون موسى، الوليد بن مصعب
لم يعرف المؤرخون المسلمون اللغة الهيروغليفية/المصرية القديمة، ولم يتمكنوا من قراءة النقوش المحفورة على جدران المعابد الضخمة. ولكن لم يمنعهم ذلك من اختلاق بعض القصص المرتبطة بالتاريخ المصري القديم، خاصةً في ما يخص فرعون موسى.
شهدت الحضارة الإسلامية ظاهرة التعريب الثقافي للعشرات من المصطلحات الدينية والتاريخية. لم يكتفِ الفاتحون بتعريب الأسماء فحسب، بل أوجدوا لها جذوراً لغويةً عربيةً أحياناً. كما نسجوا حولها بعضاً من القصص الأسطورية في أحيانٍ أخرى
يذكر جلال الدين السيوطي (المتوفى 911هـ) في كتابه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"، قصة هذا الفرعون، فيقول: "إن ملك مصر توفي، فتنازع المُلك جماعة من أبناء الملك- ولم يكن الملك السابق قد عهد لأي منهم بخلافته- ولما عظم الخطب بينهم تداعوا إلى الصلح، فاصطلحوا على أن يحكم بينهم أول من يطلع من الجبل".
يذكر السيوطي أن الوليد بن مصعب كان أول من ظهر على الجبل، "وكان قصيراً أبرص، يطأطئ في لحيته فاستوقفوه، وقالوا: إنا جعلناك حَكَماً بيننا في ما تشاجرنا فيه من الملك، وآتوه مواثيقهم على الرضا. فلما استوثق منهم، قال: إني قد رأيت أن أملك نفسي عليكم؛ فهو أذهب لضغائنكم، وأجمع لأموركم، والأمر من بعد إليكم. فأمّروه عليهم لمنافسة بعضهم بعضاً، وأقعدوه في دار الملك بمنف".
يذكر ابن ظهيرة (المتوفى 910هـ) في كتابه "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة"، قصةً أخرى عن فرعون موسى. يقول: "فرعون كان عطاراً بأصبهان، فركبه الدَّينْ وأفلسَ، فخرج منها هارباً... فأتى مصر... ثم سار في الناس سيرةً حسنةً، وكان عادلاً سخياً، يقضي بالحق ولو على نفسه، فأحبه الناس، فتوفّي الملك فولّوه عليهم".
يظهر في القصتين أن المؤرخين المسلمين عملوا على اختلاق قصة تتوافق وتتماشى مع خلفياتهم التاريخية العربية، ولم يدُر ببالهم أن الدولة المصرية القديمة لم تكن لتُحكم بالطريقة التي حُكمت بها مدنهم. لذلك لم يجدوا صعوبةً في أن يظهروا فرعون في صورة عطار فارسي في بعض الأحيان، أو عابر سبيل وصل إلى حكم البلاد بالصدفة والحظ في أحيانٍ أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه