مما لا شك فيه، أن الحضارة الإسلامية قد قامت على أكتاف العديد من الشعوب والأمم والأعراق، تلك التي عرفت الإسلام في القرون الأولى، فانصهرت في بوتقته شيئاً فشيئاً، وتأثرت به، قبل أن تسهم في تشكيله والتأثير في ثقافته الجمعية فيما بعد.
أفغانستان، تلك البلاد القابعة في وسط القارة الأسيوية، كانت إحدى البلاد التي قدمت الكثير من المبدعين إلى الحضارة الإسلامية، إذ ظهر منها العديد من المفسرين والمحدثين والفقهاء والصوفية، هذا فضلاً عن بعض المصلحين السياسيين والحكام من أصحاب الشوكة والنفوذ.
"الناس عيال في التفسير عليه"... مفسر القرآن مقاتل بن سليمان
ولد مقاتل بن سليمان في منطقة بلخ الواقعة في الشمال الشرقي لأفغانستان، وانتقل في سن مبكرة للإقامة في العراق، حيث حطّ رحاله في البصرة، وعاش فيها حتى توفى في 150هـ.
ترجع شهرة مقاتل إلى أنه قد عُرف بتفسيره للقرآن الكريم، والذي جمعه في كتابه المشهور المسمى بـ"تفسير مقاتل"، ورغم تلك الشهرة فقد ضعفه الكثير من أصحاب الجرح والتعديل، لما ذكروه عن وضع مقاتل للحديث ونقله من كلام اليهود والمسيحيين، ونسبته هذا الكلام فيما بعد للرسول.
بحسب ما وصفه الباحث المصري الدكتور علي سامي النشار في كتابه المهم "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام"، "فقد اختلفت الأنظار فيه، فذُكر أنه كان مفسراً سنياً، وقيل إنه مفسر زيدي، واعتبره الشافعي أكبر مفسر، وأن الناس عيال في التفسير عليه، ولعنه أبو حنيفة، وأجمعت الكتب على أنه كان مشبهاً ومجسماً، وأنه أخذ من علم اليهود والنصارى ما يوافقه لتدعيم تفسيره المشبهي والمجسمي للقرآن، وأنه كان ضعيفاً في الحديث، وأنه قبل الحشو وضمنه مذهبه."
واحد من أصحاب الكتب الستة... المُحدّث أبو داود السجستاني
في سجستان الواقعة في جنوبي أفغانستان، ولد أبو داود سليمان بن الأشعث في بدايات القرن الثالث للهجرة، وتلقى علومه الأولية قبل أن يغادر بلاده في رحلة واسعة في عواصم العالم الإسلامي المشرقي طالباً لعلم الحديث النبوي، واستقر في نهاية عمره بالبصرة حيث توفى فيها في 275هـ.
تتلمذ أبو داود على يد العديد من المحدّثين المشهورين في زمانه، ومن أشهرهم كل من الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعد أن أتقن علوم الحديث، بدأ في الرواية، وتتلمذ على يديه مجموعة من أشهر علماء الحديث، من أمثال الترمذي والنسائي.
ويُعدّ كتاب "سنن أبي داود"، أشهر الآثار المكتوبة التي خلفها أبو داود طوال حياته، فهذا الكتاب تم ترسيمه كواحد من أهم ستة كتب في الحديث الشريف عند أهل السنة والجماعة، كما أن هذا الكتاب يحتل أهمية خاصة فيما يتعلق بالأحاديث التي بُنيت عليها الأحكام الفقهية الإسلامية.
يٌعدّ جلال الدين الرومي أحد أشهر الأعلام الذين انحدروا من أفغانستان، هذا إن لم يكن أكثرهم شهرة على الإطلاق
في كتابه الموسوعي "سيَر أعلام النبلاء"، تحدث المؤرخ شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ عن علم أبي داود السجستاني، فكان مما قاله في هذا: "كان أبو داود مع إمامته في الحديث وفنونه من كبار الفقهاء، فكتابه يدل على ذلك، وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دقائق المسائل في الفروع والأصول، وكان على مذهب السلف في اتباع السنة والتسليم لها، وترك الخوض في مضائق الكلام."
"نسخت كتبه كتب من تقدمه من المشايخ"... القاضي عبد الجبار المعتزلي
في منطقة أسد آباد، الواقعة في أقصى شرق أفغانستان، ولد القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي في القرن الرابع الهجري، وعاش لفترة طويلة في الري ومات فيها في عام 415هـ.
القاضي عبد الجبار كان واحداً من كبار المتكلمين والأصوليين في زمانه، وعُرف بعلوّ قدره ومكانته فيما جمع من علوم ومعارف، الأمر الذي جذب إليه أنظار كبار المسؤولين في الدولة البويهية التي عاصرها، وكان منهم على سبيل المثال الوزير المشهور الصاحب بن عباد، الذي أرسل إلى القاضي عبد الجبار ليدعوه إلى تولي منصب القاضي بالري، فوافق عبد الجبار على تقلد هذا المنصب، وعُرف وقتها بلقب "قاضي القضاة"، وهو اللقب الذي يكاد ينفرد به القاضي عبد الجبار دون بقية القضاة على مرّ القرون.
القاضي عبد الجبار كان معتزلي المذهب، وقد ترأس الفرقة المعتزلية في زمانه، ومن أهم أعماله أنه قد قام بتدوين عقائد المعتزلة في كتب منظمة، فحفظ تراثهم الفكري من الضياع والفقد، ومن أهم تلك الكتب كل من "شرح الأصول الخمسة"، و"تثبيت دلائل النبوة"، و"المغني في أبواب العدل والتوحيد"، وهي الكتب التي لا يستغني عنها من يبحث في المذهب المعتزلي، ومما يعبر عن أهميتها البالغة ما ذكره ابن المرتضى عنها في كتابه "طبقات المعتزلة": "نسَخَت كتبُه كتبَ من تقدَّمه من المشايخ".
شيخ الإسلام... أبو إسماعيل الهروي
في نهايات القرن الرابع الهجري، عرفت أفغانستان ظهور الصوفي الكبير عبد الله الأنصاري، وهو الذي اشتهر بعد ذلك بأبي إسماعيل الهروي لدى العرب و"الخواجة عبد الله الأنصاري" و"شيخ هراة" في التراث الفارسي، وتوفي في 481هـ.
الأنصاري، والذي يعود نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري، تلقى تعليمه في نيشابور على أيدي العديد من شيوخها البارزين من أمثال أبي الحسن الخرقاني وأبي بكر البيهَقي، قبل أن يتصدى للتدريس وينال شهرة كبيرة بين عموم الطلبة في شتى أنحاء خراسان.
يعد كتاب "منازل السائرين"، من أهم كتب الهروي، وقد حظي هذا الكتاب بعناية العديد من العلماء اللاحقين، ومنهم على سبيل المثال ابن القيم الجوزية (المتوفى 751ه)، الذي قام بشرحه في كتابه "مدارج السالكين"، والذي اعتاد أن يشير فيه للهروي بلقب "شيخ الإسلام"، اعترافاً بفضله وعظم مكانته ومقامه، وكتاب "مناجات نامه"، وهو عبارة عن ابتهالات أو حوارات مع الربّ، وهو تحفة فريدة في الأدب الفارسي، وذو قيمة أدبية ومعرفية كبيرة.
أيضاً من بين الأمور المهمة اللافتة للنظر في سيرة الهروي، أنه كان حنبلي المذهب، ولم يتعارض هذا مع تصوفه وزهده، وكان كثيراً ما يصرح باعتناقه لمذهب أحمد بن حنبل، ومن ذلك قوله: "أنا حنبليٌ ما حييْتُ وإنْ أَمُتْ... ووصيتي للناسِ أنْ يَتَحنْبَلوا".
ومما تجدر الإشارة إليه أن الكثير من العلماء قد أشادوا بالهروي، وأسهبوا في الحديث عن مكانته العلمية، ومن ذلك ما ذكره جلال الدين السيوطي (المتوفى 911هـ)، في كتابه "طبقات المفسرين" عندما وصفه بقوله: "كان إماماً كاملاً في التفسير حسن السيرة في التصوف على حظ تام من معرفة العربية والحديث التواريخ والأنساب، قائماً بنصر السنة والدين من غير مداهنة ولا مراقبة".
فاتح الهند ومحطم الأصنام... السلطان محمود الغزنوي
ولد السلطان أبو القاسم محمود بن سبكتَكين الغزنوي في منطقة غزنة الواقعة في شرقي أفغانستان، وعاش لما يقرب من التسع وخمسين عاماً، جاب فيها بلاد الأفغان والفرس والهند، وخاض العشرات من الحروب والمعارك، حتى توفی أخيراً بداء السلّ في عام 421هـ.
السلطان محمود الغزنوي كان واحداً من أشهر السلاطين والحكام الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري، إذ تمكن من توسيع حدود الدولة الغزنوية التي تسلم قيادتها من أسلافه، ففرض سلطانه على بلاد أفغانستان وبلاد ما وراء النهر وسجستان وخراسان وطبرستان وجزء كبير من بلاد الهند، وهو أول من أطلق على نفسه "السلطان" ليبدي استقلاله عن الخلافة العباسية، إلا أن الخليفة لم يعترف به إلا بتسميته "الأمير".
تعود شهرة محمود الغزنوي إلى كونه قد نشر الإسلام في الكثير من المناطق الوثنية التي لم تكن قد عرفت الدين الإسلامي بعد، كما أنه قد نصب نفسه مدافعاً عن أهل السنة والجماعة في مملكته، فأعلى من شأنهم واضطهد أعداءهم من أهل البدع والفرق، الأمر الذي قربه من الخلافة العباسية في بغداد، ومنحه الشرعية اللازمة لتوسيع رقعة ملكه.
من أهم ملامح المشروع الإصلاحي الذي عمل عليه جمال الدين الأفغاني أنه قد سعى بقوة لنشر الوعي القومي بين الشعوب الإسلامية
من الأمور التي أسهمت في شهرة محمود الغزنوي، عدله ورعايته للعلماء والأدباء والشعراء المعروفين في عصره، من أمثال كل من الفيلسوف ابن سينا، والفيلسوف أبي الريحان البيروني، والشاعر الفارسي الفردوسي الذي يُقال إنه قد كتب ملحمته الشهيرة الشاهنامة بتكليف من محمود الغزنوي، كما أنه وبإنشائه كثيراً من الحدائق والقصور والجوامع والفنادق، وجلب العلماء من المناطق الأخرى إلى مدينته، حول غزني إلى مركز للأدب الفارسي وإحدى أهم المدن في أسيا الوسطى والشرق الأوسط.
بعد وفاة الغزنوي، تمكنت دولته من الصمود لبضع سنين، ولكنها ما لبثت أن انهارت بعد هزيمة القوات الغزنوية في معركة داندانقان الحاسمة في 432هـ ضد القوات السلجوقية التركية.
مولانا... الصوفي جلال الدين الرومي
يٌعدّ جلال الدين الرومي أحد أشهر الأعلام الذين انحدروا من أفغانستان، هذا إن لم يكن أكثرهم شهرة على الإطلاق. ولد الرومي في بَلْخ الواقعة في الشمال الشرقي من أفغانستان، وبعد فترة قصيرة من ولادته اُضطرت أسرته للهرب ناحية الغرب فراراً من اجتياح القوات المغولية لتلك النواحي.
استقرّ الرومي في قونية، وعمل لفترة طويلة بتدريس الفقه الحنفي، واشتهر أمره فقصده الطلبة من جميع النواحي للدراسة على يديه. وقع هذا قبل أن يتغير حاله رأساً على عقب بعد قدوم شمس الدين التبريزي إلى قونية. التبريزي –الذي يقال إنه كان عالم دين على المذهب الشيعي- اقترب كثيراً من الرومي، وتمكن من التأثير فيه، لدرجة أنه قد شجعه على ترك عالم الفقه الجامد لينطلقا معاً في رحلة صوفية روحية لا نهاية لها. بعد هذا التحول، تغير الحال بالرومي ليصبح شاعراً صوفياً بامتياز، وعرفه المريدون باسم "مولانا"، وهو الاسم الذي تُنسب إليه الطريقة المولوية.
من الأمور التي أسهمت في شهرة محمود الغزنوي، عدله ورعايته للعلماء والأدباء
كتب جلال الدين الرومي الكثير من القصائد الشعرية، باللغات الفارسية والتركية والعربية، والتي تُرجمت جميعها –فيما بعد- للعديد من اللغات الحية. من أشهر تلك القصائد، ديوانه الشهير "ديوان شمس"، والذي كتبه بعد أن اختفى صديقه المقرب –شمس التبريزي- عن الأنظار، كذلك كتب الرومي كتاب "المثنوي"، وهو أشهر كتبه على الإطلاق، وقد وصف هذا الكتاب مراراً بأنه "قرآن العجم"، في دلالة واضحة على عمق تأثيره في نفوس الشعوب الفارسية والتركية.
ورغم أن وفاة جلال الدين الرومي قد وقعت منذ ما يزيد عن السبعة قرون، إلا أن الكثير من الدول لا تزال تتنازع مع بعضها البعض حتى اللحظة على نسبته إليها، الأمر الذي فسره المفكر المصري عباس محمود العقاد في كتابه "جلال الدين الرومي" بقوله: "... لا جرم أن تتفتح الأبواب للتنافس عليه –يقصد الرومي-، بحجة من الحجج، لكل منافس يحرص على هذه الدرة النفيسة، وإنها في الحق لَذخيرة للحضارة الإسلامية والإنسانية، يأخذ منها من شاء من بني الإنسان بنصيب موفور."
ناسخ المصاحف... الفقيه الملا علي القاري
ولد الفقيه نور الدين علي بن سلطان محمد، والمعروف باسم الملا علي القاري في القرن العاشر الهجري في منطقة هراة الواقعة في غربي أفغانستان، وأمام حالة التوسع الصفوي الشيعي في تلك النواحي، اضطُر القاري إلى الهجرة، لأن الصفويين كانوا آنذاك يستهدفون علماء أهل السنة والجماعة.
هاجر القاري إلى مكة، وعاش مجاوراً البيت الحرام، وتلقى العلّم على يد الكثير من علماء الحجاز، وكان يتعيش على مهنة نسخ وبيع المصاحف، ولم يكن يقبل التودد إلى الحكام والولاة للحصول على جوائزهم، وظل على تلك الحالة من الزهد والتقشف حتى توفي في عام 1014هـ.
الملا علي القاري، كان فقيهاً حنفياً، يعتنق المذهب الماتريدي في العقائد، كما أنه كان ينتهج النهج الصوفي، وقد كتب عدداً كبيراً من المؤلفات التي نالت حظاً من الشهرة والذيوع، ومن أهمها كل من "منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر"، و"شرح نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر"، و"شرح مسند أبي حنيفة".
أستاذ الأساتذة... المصلح جمال الدين الأفغاني
ولد جمال الدين الأفغاني في منطقة أسد آباد الواقعة في أقصى شرق أفغانستان، لأسرة تعود إلى أصول علوية هاشمية. بعد تركه لدياره، تنقل الأفغاني كثيراً بين كل من العراق ومصر والحجاز والأستانة وعواصم الدول الأوروبية.
الأفغاني شد الأنظار إليه في كل مكان کان يحط فيه رحاله، وذلك بسبب إتقانه للكثير من العلوم والمعارف، ومنها على سبيل المثال كل من علم الفلك، والرياضيات، والتصوف، هذا فضلاً عن العلوم الدينية الشرعية التقليدية.
من أهم ملامح المشروع الإصلاحي الذي عمل عليه جمال الدين الأفغاني أنه قد سعى بقوة لنشر الوعي القومي بين الشعوب الإسلامية، فتتلمذ عليه العديد من رواد النهضة العربية الحديثة، من أمثال الشاعر محمود سامي البارودي، ورجل الدين محمد عبده، والأديب إبراهيم المويليحي.
في مصر، عارض الأفغاني استبداد الخديوي توفيق بالسلطة، وفي عهد الخديوي توفيق تم إصدار قرار بنفي الأفغاني إلى الهند فمكث بها لفترة، وبعدها سافر إلى باريس ليصدر منها جريدة "العروة الوثقى"، وليترأس تحريرها رفقة تلميذه المقرب محمد عبده. كما أنشأ جمعية بالاسم نفسه لدعوة الأمم الإسلامية للاتحاد والتضامن، وظل على حاله من الكفاح والنضال حتى توفى في 1315هـ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم