في الوقت الذي تفرض الرقابة المصرية فيه قيودها على حرية الإبداع، وتتصادم مع صنّاع الأفلام لتحجيم الخيال وكبح جماحه، يتشوق الجمهور إلى رؤية العمل السينمائي الذي أثار غضب السلطات، وإن أزعجه لاحقاً وعدّه مخالفاً للمرجعية القيمية للمجتمع. يمكن تلمّس هذه الحالة في الأجواء الاحتفالية المصاحبة لطرح فيلم "رحلة 404" في دور السينما، وذلك بعد واقعته المثيرة مع الرقابة التي أخّرت خروجه إلى النور لما يزيد عن عام.
كان من المقرر مشاركة الفيلم، الذي أخرجه هاني خليفة وكتبه محمد رجاء، في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر عام 2022، تحت اسم "القاهرة-مكة"، لكن فجأةً تم سحبه قبل العرض بسبب تحفظات الرقابة المصرية على بعض التفاصيل السردية، ويُشاع أنها تخص شخصيةً مثليةً جنسياً، وأجريت التعديلات المطلوبة ليتم الإفراج عن الفيلم بعد حذف هذه التفصيلة بالكامل وتغيير اسمه.
بالتأكيد يُعزز ما جرى في الكواليس فضول الجمهور نحو الفيلم الجديد، إلا أن "رحلة 404" بصورته النهائية يستحق الاهتمام والمشاهدة لما يقدّم من أفكار تشتبك مع واقع حياتنا اليومية بأسلوب سينمائي جيد.
الحيرة بين مغريات الدنيا
لطالما اقترنت قصة الخلق بالإغواء، سواء في الديانات الإبراهيمية أو الميثولوجيا الإغريقية؛ حيث تسببت التفاحة في سقوط آدم وحواء، وكان الصندوق الذي أهداه الإله زيوس لبندورا وأمرها بعدم فتحه السبب في إطلاق الشرور في الأرض. فالغواية تأتي في صميم حكاياتنا الإنسانية وتتلون بأشكال مختلفة في السرديات السينمائية، نراها في قلب حكاية "رحلة 404" ترافق خطوات الشخصية الرئيسية التي تستعد للسفر إلى مكة لأداء فريضة الحج والتطهر من خطاياها القديمة، إلا أن المغريات تتوالى أمامها وتختبر توبتها وصدق نواياها.
بالتأكيد يُعزز ما جرى في الكواليس فضولَ الجمهور نحو الفيلم الجديد، إلا أن "رحلة 404" بصورته النهائية يستحق الاهتمام والمشاهدة لما يقدّم من أفكار تشتبك مع واقع حياتنا اليومية بأسلوب سينمائي جيد
يمنح الفيلم بطلته، منى زكي، اسمَ "غادة" الذي يرتبط ذكره بسيرة واحدة من أشهر روايات الغانيات "غادة الكاميليا". فقد مارست هذا العمل لسنوات طويلة، لكنها توقفت عنه وقررت تأسيس حياة جديدة دون أن تقطع صلتها تماماً برفاق الماضي. وهي في عملها الجديد تغوي أيضاً، لكن بدلاً من استخدام جسدها، تلجأ إلى عقلها وتوظف مهارات الإقناع في بيع العقارات. كما أن حجابها لا يبدو متحفظاً، إذ تسعى للعيش كإمرأة عادية محاولةً تناسي حياتها الأولى. تسير على الحبل الممدود بين الدنيا والدين، حتى تجد نفسها في حاجة إلى المال قبل السفر، وبين الطرق المشروعة وغير المشروعة لتأمينه تخوض رحلةً ذات خصوصية تكشف الكثير عن أطماع الإنسان وتناقضاته وبحثه المستمر عن الخلاص أو الأمل الذي وجدته باندورا في قعر صندوقها الملعون.
لا يبدأ الفيلم باختبار شخصيته الرئيسية من اللحظة التي تواجه فيها أزمة المال، بل يضعها أمام المغريات منذ المشهد الافتتاحي، حيث نراها تلقي نظرةً خلسةً على عميل شاب في أثناء جلسة عمل، ثم تعجز لاحقاً عن مقاومة الاستماع إلى مقطوعة إيقاعية أرسلها لها أحد الزبائن القدامى. وعلى مدار الرحلة تتخبط بين الضغوط الممارسة عليها كي تعود إلى عملها القديم أو حل مشكلتها بارتكاب خطايا جديدة. ويشتبك السيناريو مع فكرة التوبة عادّاً أنها رحلة داخلية يصارع فيها الإنسان أهواءه باستمرار ويواجه خلالها اختبارات يوميةً.
تميل غادة خلال رحلتها إلى اتخاذ مسارات أخرى بعيداً عن عملها السابق، وكأنها تبحث عن "إثم" أخفّ وطأةً من غيره. وبشكل عام، تُعدّ مسألة درجات الخطيئة والمقايضة على الحسنات من أهم القضايا التي ينشغل صنّاع الفيلم في طرحها عبر الشريط السينمائي، لكونها متعلقةً بنظرتنا إلى الدين وعلاقتنا مع الخالق، حيث يقدّم العمل خطاباً ذكياً حول المراد من العبادات وأثرها الحقيقي على أفعال الإنسان وتعاملاته.
يتجلى ذلك في مشهد غادة ووالدها، الذي يرافقها في رحلة الحج، حينما يسعى إلى إقناعها بالتراجع عن السفر واسترداد المال مستعيناً برأي أحد الشيوخ الذي يقول إن من نوى الحج قد احتُسب له الثواب بنسبة 100%، أما من أدى الفريضة ثم أخطأ قُدّر ثوابه بنسبة 60 أو 70%. صحيح أن النوايا نقطة فاصلة في أعمالنا كافة، وبالتأكيد العدول عن الحج يمثل خياراً منطقياً يعرضه الأب غير المتحمس للسفر من الأساس، إلا أن الحديث يختزل الرحلة الروحانية في نسب مئوية جامدة!
كل هذه الصراعات التي تمر بها غادة، وتشتتها المستمر بين اختبارات الدنيا وصدق التوبة، تتبلور على الشاشة في صورة لونين يعكسان أزمة حياتها ويحضران في تفاصيل بصرية عدة داخل الفيلم، هما الأزرق والأحمر. الأزرق لون الحياة الجديدة بكل ما يرتبط بها من هدوء واستقرار، فيما يمثل الأحمر لون الغواية والخطورة والقرارات الخطأ. يتداخل اللونان في مشاهد متفرقة منها مشهد تواجد غادة في ملهى ليلي يعيد إليها ذكريات الماضي ويربك حاضرها، إذ ينعكسان على آلة الطبلة بشكل متسارع، كما يمتزجان في مشهد اغتسالها في البحر متوشّحةً بحجابها الأحمر بعد إتمام عملية نصب تظن أنها أنقذتها من العودة إلى الدعارة.
شخصيات بين براثن الماضي
ثمة عناصر سردية مشتركة بين الأفلام الثلاثة التي تحمل توقيع هاني خليفة، برغم اختلاف كتاب السيناريو، منها أنها أعمال حوارية بالدرجة الأولى، تستند إلى شبكة متداخلة من العلاقات، ويمثل الماضي جزءاً مهماً من الحكاية ورحلة الأبطال. في "رحلة 404، يصبح الحاضر أسيراً للماضي، حيث القصة بأكملها تدور في فلكه وتتكشف أبعاد الشخصيات ودوافعها من خلال التعمق فيه.
لا تبدو غادة وحدها التي تصارع ماضيها وتحاول الفكاك من براثنه، وإنما من التقت بهم في رحلتها يعانون أيضاً من قبضته. في مقدمتهم، يأتي طارق (محمد فراج) زوجها السابق الذي ظلت تفتش عن عنوانه حتى يساعدها في أزمتها، وحينما وجدته كان في حالة متردية؛ إذ كان المخدّر ينهش في جسده، بينما تتعذب روحه من تجاربه وخطاياه. لا يستطيع مسامحة والدته على علاقاتها المتعددة ولا نفسه عما اقترفه في حقها. يقرر اختبار توبة غادة ليس فقط انتقاماً لما صار بينهما في الماضي، وإنما ليثبت أن والدته كانت لتخطئ مثلها وتالياً لا تستحق الرحمة والغفران.
كذلك ياسر (خالد الصاوي) الزبون القديم، الذي ظهر هو الآخر في وضع بائس على غير عهدها به. بدا فاقداً الاتزان والسيطرة على مجريات حياته ومصدوماً بما فعله الزمن به، يصبّ لعناته على زوجته السابقة وشريكه اللذين استوليا على أمواله، ويتعهد بالانتقام منهما وحتى من ابنه.
أما طارق (محمد ممدوح)، حبيبها الأول الذي أغواها وأفقدها عذريتها ثم تركها ليتزوج بفتاة عفيفة ترضي عقليته الذكورية الرجعية وتدعمه عملياً، فلم يعرقل الماضي مسيرة تقدّمه لكن لم يتركه أيضاً ينعم بحياة هانئة، حيث يعترف لغادة بأنه لم ينسَ قط أنه تسبب في إيذاء الفتاة الوحيدة التي أحبها بحق.
يتشوق الجمهور إلى رؤية العمل السينمائي الذي أثار غضب السلطات، وإن أزعجه لاحقاً وعدّه مخالفاً للمرجعية القيمية للمجتمع. يمكن تلمّس هذه الحالة في الأجواء الاحتفالية المصاحبة لطرح فيلم "رحلة 404" في دور السينما
يتشارك معه هشام (محمد علاء) في كون الماضي ينغّص عليه حاضره، صحيح أنه رجل فهلوي يمارس ألاعيبه المختلفة لنيل ما يريد في الحياة، لكن يمكن تلمّس أزمة عدم تحققه في لقب "دكتور" الذي يحب أن يُنادى به بعدما عجز عن استكمال دراسته الجامعية، أو كما يقول لغادة إن الحاصلين على بكالوريوس الطب يعملون لديه في المبيعات.
تتفاوت الخطايا والمشكلات التي تعيشها الشخصيات والسبل التي يسلكونها لمواجهة الحياة. يتجسد ذلك على الشاشة بأداءات تمثيلية مميزة، وحوار سلس ومحتدم يُعرّي الكثير دون إقحام للمعلومات، وإن مال إلى الإسهاب في سرد تفاصيل معينة مثل حكاية طارق ووالدته التي نعرفها في لقائه الأول مع غادة، ثم يعاد شرحها بوضوح أكثر في اللقاء الأخير بينهما. وبصفة عامة، برع هاني خليفة في تقديم شحنات شعورية عبر الفيلم تجعل المشاهد متورطاً في الحكاية ويبقى أثرها معه بعد الخروج من صالات العرض.
لكن تأتي النهاية مُربكةً بعض الشيء، حيث تنجح غادة في إتمام رحلتها بعدما تعثرت في اختبارات عدة، بصورة توحي بأن النجاة في الحج، وليس في مقاومة الإغراءات والتخلي عن رغبة الاستحواذ على كل شيء خصوصاً مع وجود حلول أخرى أمامها كبيع السيارة أو المحل التجاري. وكأن اسم الفيلم الذي يشير بوضوح إلى وجود خطأ في واجهة الرحلة، والتخبطات كافة التي تعرضت لها البطلة لم تدفعها لإدراك أن التوبة غير مقتصرة على مكان معين.
ومع ذلك، يبقى فيلم "رحلة 404" عملاً جاداً يطرح أفكاراً وتساؤلات قلما تطرقت إليها السينما في وقتنا الحالي، ويغوص في مناطق شائكة يخشى الكثير من المبدعين اقتحامها خوفاً من إثارة الجدل. كما أنه يمثل مغامرةً إنتاجيةً جريئةً كونه يعتمد على بطلة سينمائية موهوبة تتفرد بالحكاية وتتصدر الملصقات الدعائية بعد سنوات من انحصار البطولات النسائية في التلفزيون والمنصات الرقمية، مما يجعلنا نستبشر بظهور أعمال مماثلة خلال الفترة المقبلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع