شوارع القاهرة بالليل، سائقو سيارات الأجرة والنساء، سيارات الشرطة بأصواتها المزعجة، جدعنة الرجال (ولاد البلد)، النيل، والميادين، والمقاهي، عربة الفول، وحركة الناس في الصباحات المشرقة، النساء المكافحات، البلطجية وكبار السن وطوابير الخبز، هذه الصور وغيرها ترسم ملامح السينما التي يقدمها أحمد عبد الله السيد، الذي أخرج عدداً من الأفلام الروائية الطويلة، ويستلهم تفاصيلها وشخصياتها من واقع الحياة اليومية في القاهرة، المدينة الكبرى المكتظة بالسكان، حيث ازدحام الشوارع والأسواق والمواصلات، والازدحام على لقمة العيش، وبالتالي تكثر الصراعات وتتولد المفارقات بين عوالم مختلفة ومتناقضة من البشر.
برؤية شاعرية تقلّل من وطأة صور العزلة والوحدة والفراغ، والديستوبيا؛ يطرح المخرج أحمد عبد الله السيد أحداث فيلمه "19 ب" (2022)، موظفاً موسيقى تصويرية دافئة تنساب على الأحداث، وتتضافر معها العديد من الأغاني الرومانسية الشجيّة التي تعبر عن الشخصية الرئيسة، وما تستشعره إزاء ما تمرّ به من مواقف صعبة لم تتوقع حدوثها، وما يدور في خلدها ويعبّر عن روح إنسانية عميقة تتحلّى بها، سواء في تفاؤلها بالقادم من الأيام، أو في صراعها الداخلي الناتج عن مرورها بمأزق حاد تسعى للخروج منه. ورغم الحياة البائسة التي تعيشها، إلا أنها راضية بها وقانعة بمصيرها، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.
الشخصية وأبعادها الإنسانية
تلك هي شخصية الحارس المسن محور الأحداث الذي يحنو على حيوانات أليفة تعيش معه في البيت نفسه، فيطعمها ويدلّلها ويحميها من عنف وتهوّر من غَلَبت الوحشيّة على إنسانيتهم فيضربون ويسمّمون الكلاب بغير رحمة. استطاع سيد رجب أن يقدم الشخصية بهدوء وصبر دون افتعال، وأن يتقمصها جيداً، ويعبّر عن أبعادها الإنسانية ومكنونها الذي يجنح إلى الخير. وقد ساعد على إبراز مكونات الشخصية وثرائها الإنساني؛ توظيف الضوء والظلال من ناحية، واختيار زوايا التصوير الملائمة من ناحية أخرى، والتركيز على تعبيرات الوجه وانفعالات الشخصية تجاه ما تواجهه من صراع يهدد بقاءها، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد مدير التصوير مصطفى الكاشف.
تأتي دلالة اسم الفيلم (19 ب) كون الرقم يتكون من أكبر وأدنى عددين، وهو ما يمثل الشخصيتين الّلتين تمحورت حولهما الأحداث، الأول صاحب البيت المحب للخير، والآخر الغريب الدخيل الذي يفرض نفسه ووجوده بالقوة، أما الباء فهي رمز البيت الذي يجمع بين الشخصيتين ويشهد صراعهما
كما قامت مصممة الملابس ناهد نصر الله باختيار ملابس معبّرة للشخصيات من الواقع الذي يعيشون فيه، فحملت بؤسهم وشقاءهم وعبرت عن حياتهم.
يتمحور الفيلم حول شخصية حارس فيلّا مُهملة، يعيش حياة بسيطة مستمتعاً بمفرداتها العادية رغم بؤسها الشديد، ورغم الوحدة والعزلة عن الناس، فهو يعيش بمفرده داخل الفيلا شبه المهجورة والمكونة من طابقين، وتقع في شارع يعجّ بالحركة، توفي صاحب الفيلّا، وظل الحارس مستمراً في عمله ومقيما بها، حتى أصبحت بيته وعالمه، يحرسها على أمل أن يأتي الورثة أبناء المتوفَّى الذين هاجروا من سنوات طويلة إلى الخارج ولا يهتمون بها. وتكشف حركة الحارس داخل البيت الواسع أو في الحديقة، وصعوده الدرج في الظلام عن قدر الوحدة التي يعيش فيها.
كما يكشف التراب وعدم نظافة المكان ورداءته عن انه مهمَل منذ فترة طويلة، ولا يهتم بنظافته أحد، فضلاً عن أن البيت آيل للسقوط، وبعض الأسقف تم تدعيمها بأعمدة من الخشب لمنعها من السقوط، سينفلت أحدها ليقع جزءً متهدما على رأس نصر (أحمد خالد صالح)، ويتخلص الحارس من الكابوس الذي لازمه لأيام.
المواجهة بين شخصيتين متناقضتين
حياة الحارس بسيطة ليس بها سوى الصدق وحب الناس، يتسامر أحياناً مع ابنته يارا (ناهد السباعي) التي تأتي لزيارته من حين لآخر، وأحياناً يحكي مع صديقه الوحيد سُكّر (مجدي عطوان) حارس العمارة المجاورة، فيما يقضي أوقات فراغه الطويلة في رعاية القطط والكلاب التي تملأ البيت، وعبرت الأحداث عن ذلك في كثير من المشاهد، حيث يحنو عليهم، يطعمهم، يضع اللبن للقطط، ويداعب إحدى الصغيرات، وتعاونه أحياناً في رعايتهم جارته الطبيبة (فدوى عابد) المحبّة للحيوانات.
تجمع أحداث الفيلم بين شخصيتين بينهما قدر كبير من التناقض، وهو ما يولد حبكة فيلمية شديدة التأثير من خلال الاختلاف الكبير بين الشخصيتين، الحارس ونصر، فالأول رجل مُسن، خيّر، يقوم بأعمال جيدة من أجل جيرانه، ويطعم الحيوانات بحب، وثمة ألفة بينه وبينهم، بينما الآخر، شاب أحمق، يعتدي على حقوق الآخرين، ويتعامل مع الجميع بغير رحمة، ويحاول التدخل في الحياة الخاصة للحارس، محاولاً الاستفادة من البيت بشتّى الطرق.
مظاهر البؤس والديستوبيا
يحمي الحارس البيت، ويضع حجراً أمام الباب بهدف عدم دخول غرباء، يبقى ساكناً به رغم مخاوف ابنته عليه، البيت له أبواب شاهقة وأشجار سامقة، وارفة، يوحي بعزٍ قديم، ودليل على أصالة ساكنه، كما أن حركة المياه وصوتها باستمرار تكشف عن وجود الحياة في المكان، رغم الحيطان المتآكلة والشروخ في السقف والجدران، بما يعدّ تعبيراً عن تحدي الحياة التي تفرض سيطرتها واستمرارها في مواجهة الموت الذي يبدو في الفراغ، وهجر المكان، وشكل الأسقف والحوائط والدَّرَج وعدم صلاحيتهم للاستمرار، فالحياة موجودة ومستمرة رغم كل ما يبدو من مظاهر البؤس والديستوبيا.
على الرغم من أن البيت متداعٍ، فلا يقبل الحارس أن يتركه، وبرغم الصراع مع شخصية نصر؛ لا يترك البيت، فيقول لابنته التي تطلب أن يذهب معها: "أسيب البيت لمين، أنا عندي كلاب وقطط، لو سبتهم مين يأكلهم، عنتر مين يأكله"، قاصدًا الكلب، فالحارس يتعايش بحب مع الكلاب القطط، بينما لا يستطيع التعايش مع الشاب الذي يقوم بأعمال مريبة من أجل المال، فيزداد الحب والأمان داخل البيت حتى بين حيوانات من فصائل مختلفة، فنجد القطط والكلاب يأكلون مع بعض وقال أحد مساعدي نصر متعجباً "إزاي بياكلوا مع بعض... سبحان الله".
شخصيتان من عالمين مختلفين
يتنامى الحدث الدرامي مع بدء المواجهة والاصطدام بين الشخصيتين، شخصية حارس العقار، وشخصية نصر، فهما شخصيتان متناقضتان، ومن عالمين مختلفين، الحارس يقوم بعمله على أكمل وجه، فيقيم بالبيت ولا يتركه، ويرفض دخول الغرباء، ويتسلم مرتبه كل شهر من خلال مكتب البريد، والآخر سايس، يعمل في نفس الشارع، وقد خرج لتوّه من السجن بعد قضاء عقوبة ثلاث سنين. يبدأ الصدام برفض الحارس أن تُصفّ إحدى السيارات أمام باب الفيلّا، ويضع حجراً كبيراً مكانها، ليباغَتْ بعدها بالحجر نفسه موجوداً داخل الفيلا، مما يدل على أن أحدهم، وهو نصر، يرفض موقف الحارس ولا يخشى ما يفعله.
يعطي هذا المشهد أكثر من دلالة، من حيث التعبير عن استقواء نصر وبدء المواجهة مع الحارس للكشف عن أطماعه في البيت من جهة، وعلي مستوى الصورة، حيث تعبر صورة الحجر داخل البيت عن وجود الشخص نفسه ودخوله البيت كأمر واقع يصعب تغييره أو التخلص منه.
وبالفعل، يدخل نصر البيت ويطلب من الحارس أن يستثمر المكان بتخزين البضائع، ويهدده بأنه في حالة رفضه سيقوم بإبلاغ الشرطة عن سرقته لتيار الكهرباء، مما يضع الحارس في موقف مُربك، ومأزق لم تنجح الحيلة في التخلص منه. وحينما طلب من محامي العائلة والمسؤول عن الفيلا بالتدخل؛ وكشف عن الخطر الذي يحيط بالبيت ومطامع بعضهم فيها، قال المحامي إن علاقته بأصحاب البيت انقطعت منذ زمن بعيد وأن المرتب يدفعه له من ماله الخاص تقديراً له ومن أجل العِشرة القديمة.
خيال المشاهد واستكمال المشهد
من الإشارات المهمة التي حملها الفيلم، أنه كلما احتد الصراع بين نصر الذي يتعامل كبلطجي يفرض نفسه على البيت وبين الحارس، كلما سمعنا صوت أبواق سيارات الشرطة تنطلق هنا وهناك للتدليل على الدولة الغائبة وعدم متابعة المجرمين ووضعهم نصب أعينها، خاصة أن الأحداث تعبر عن واقع الحياة اليومية في الوطن العربي من خلال القاهرة باعتبارها مدينة كبيرة مزدحمة بالسكان وتكثر بها الصراعات.
من الإشارات المهمة التي حملها الفيلم، أنه كلما احتد الصراع بين نصر الذي يتعامل كبلطجي يفرض نفسه على البيت وبين الحارس، كلما سمعنا صوت أبواق سيارات الشرطة تنطلق هنا وهناك للتدليل على الدولة الغائبة وعدم متابعة المجرمين ووضعهم نصب أعينه
يعتبر مشهد دفن الكلب عنتر بعد نفوقه، مشهداً إشارياً لأحداث النهاية، حيث قام الحارس بالحفر في حديقة الفيلا لدفنه. وبعد مصرع نصر إثر وقوع جزء من السقف عليه، نتيجة اشتباك بينه وبين الحارس؛ جاء المشهد التالي والحارس يجلس مع صديقه سُكر دون أن يبدو شيئاً عن رحيل السايس، ما يكشف عن نهاية تدعو المشاهد للتفكير والخيال والربط بين الأحداث، وهذا مقبول بنائياً وموضوعياً، لكن مشهد والدة الطبيبة في السيارة ونظرتها للحارس بحنين، لم تفصح عنها المشاهد التالية ولا السابقة مما يجعلها ناقصة، حتى إن كان المقصود هو وجود علاقة قديمة بينهما. والمشهد على أي حال لم يضف شيئاً.
تأتي دلالة اسم الفيلم (19 ب) كون الرقم يتكون من أكبر وأدنى عددين، وهو ما يمثل الشخصيتين الّلتين تمحورت حولهما الأحداث، الأول صاحب البيت المحب للخير، والآخر الغريب الدخيل الذي يفرض نفسه ووجوده بالقوة، أما الباء فهي رمز البيت الذي يجمع بين الشخصيتين ويشهد صراعهما.
3 جوائز دولية للفيلم
حصد الفيلم ثلاث جوائز من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ 44، هي جائزة الاتحاد الدولي للنقاد "الفيبرسي"، وجائزة أفضل فيلم عربي، وجائزة هنري بركات لأفضل إسهام فني وحصل عليها مدير التصوير مصطفى الكاشف.
قدم المخرج أحمد عبد الله السيد من قبل عدة أفلام روائية طويلة هي: "هليوبوليس"، و"ميكروفون"، و"فرش وغطا"، و"ديكور"، و"ليل خارجي"، كما شارك مجموعة من المخرجين في إخراج فيلم "18 يوم" الذي تناول أحداث كانون الثاني/يناير 2011، ولم يسمح بعرضه حتى الآن، كما شارك مجموعة من المخرجين في إخراج الفيلم الوثائقي "تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي" والذي عُرض في دور العرض، ويتناول أحداث كانون الثاني/يناير 2011.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...