"أعيش غريباً
مثل قصيدة مترجمة"
هكذا يصف حسين بن حمزة نفسه في مفتتح ديوانه الثالث "كمن يريد أن يمحو"، وصف يبدو متمماً لسيرة الشاعر التي تفصح عنها صفحة البيانات في مقدمة الديوان، فالسيرة تصفه بأنه "مولود في سوريا" من دون أن تقول أنه سوري، ثم تحكي انتقاله إلى بيروت "للعمل محرراً وناقداً في الأقسام والملاحق الثقافية"، وأخيراً تعلن أنه "يقيم في ألمانيا منذ العام 2017".
من المواقع الجغرافية المذكورة أعلاه تحضر بيروت وحدها كمحل لنشر الطبعة الأولى من ديوانه الأول "رجل نائم في ثياب الأحد" (1997)، بينما تصدر الطبعة الثانية من دار "أثر" السعودية (2018)، وكذلك عنها ديوانه الثاني "قصائد دون سن الرشد" (2019)، وأخيراً يصدر ديوانه الجديد عن دار "راية للنشر" التي تتوزع مقراتها بين حيفا الفلسطينية والشارقة وبيروت.
لا سوريا –إذن- بلد الميلاد، ولا ألمانيا بلد الاستقرار "النهائي؟" تحضران كبلد للنشر، هل هذا جزء من "العيش غريباً"؟، أهو السبب أو النتيجة؟ أم أن الغربة أصلية، جذرية لا علاج لها تماما كـ "قصيدة مترجمة"؟ فالشعر، أشد الفنون التصاقاً باللغة، يستحيل تذوقه كاملاً عبر الترجمة، سيعيش ولكن غريباً، سيغترب مهما عاش، خاصة إذا كان التمسك بحضوره غالباً، حتى أن غلاف الديوان، هو أيضاً عن لوحة لشاعر، ليست سوى للصوت الشعري السوري البارز -والفنان التشكيلي- منذر المصري.
"صراع" الديوان الرئيسي هو صراع مع "المحو"، ومناجاة مستمرة مع القصائد الصغيرة/ القصيرة، التي تكونت من الست أو السبع كلمات نفسها التي "كتبتُ بها كل قصائدي"
غير أن الديوان يسارع – من نصوصه الأولى- إلى محاولة تصوير الغربة كخيار أيضاً، عبر إبداء شعور الحب إلى وجهها الآخر "العزلة"، يقول:
"أحب أن أقرأ قصائدي لشخصين أو ثلاثة
لا أكثر
أن يخفضوا رؤوسهم قليلاً لكي يتلذذوا بنبرتها الخافتة
ويلتقطوا الاستعارات المدفونة فيها
أن يبدو المشهد وكأننا نتبادل نخب صداقة حميمة
وأنني بدلاً من قراءة القصائد أقطّر كلماتها في آذانهم".
غير أن "صراع" الديوان الرئيسي، لو جاز هذا التعبير، وفي شكله الظاهر على الأقل، هو ما يكشفه عنوانه ببساطة؛ إنه صراع مع "المحو"، مناجاة مستمرة مع القصائد الصغيرة/ القصيرة، القصائد التي تكونت من الست أو السبع كلمات نفسها التي "كتبتُ بها كل قصائدي!"، القصائد المدونة على "قفا فواتير الهاتف والكهرباء/ على إيصالات البنك والأقساط المدرسية/ على قصاصات احتفظت بها وتهرأت في جيوبي/ على أطراف الطاولات والكراسي/ على الهوامش الشاغرة في صفحات الجرائد والكتب/ على تذاكر المسرح والسينما"، ثم وكأن السكن في كل تلك الهوامش ليس كافياً؛"يعلن الشاعر "أضعتُها"، إن المنشور في "كمن يريد أن يمحو"، هو النصوص التي نجَت.
سيرة الشاعر تصفه بأنه "مولود في سوريا"، ثم تحكي انتقاله إلى بيروت "للعمل محرراً وناقداً في الأقسام والملاحق الثقافية"، وأخيراً أنه "يقيم في ألمانيا منذ العام 2017". لا سوريا -إذن- بلد الميلاد، ولا ألمانيا بلد الاستقرار النهائي يحضران كبلد للنشر، فهل هذا جزء من "العيش غريباً"؟
إنه جدل يستمر طوال الديوان، بين أن يقول أو لا يقول، الصوت والصمت، الكتابة والتخلي عنها أو "إضاعتها"، والحلم بأن لا تزيد القصيدة ربما عن كلمة واحدة تعني كل شيء، أن يقول الشاعر "الزرقة لا البحر" فتنتهي القصيدة.
ثمة احتمال آخر لا يستبعده الديوان، بأن يكون الأمر مجرد "كسل"
"ليس لي جلدُ على صعود القمم
مسترخياً على السفح
أتفرج على متسلقين أشداء
يتدحرجون كالصخور إلى الوادي"
أهي الحكمة أيضاً؟
لأن صراع الشاعر مع قصيدته -قصرت أو طالت- هو صراع مع الذات، فإن هذه القصيدة الصغيرة، الهشة، الهامسة، لا تكتفي بنفسها، إنها تحاول بإصرار خجول -وماكر- أن تستوعب ما هو أكثر، فالمرأة -مثلاً وأولاً- قصيدة تكاد تذوب أو تتلاشي مثل ظل؛ في نص "ولادة" لا نعرف إن كان الحديث عن حبيبة أو عن قصيدة:
"نحيلة
وصغيرة
وهشة
كأن الله
خلقها فقط
يإيماءة"
إنه تداخل تام أو اندماج، لا ينفصل إلا قليلاً في قصيدة "امرأة من الساحل":
"كانت من مدينة بحرية
ولذلك لم يكن غريباً
أن يُسمع وهي نائمة
هدير موجات
تلعق صخور الشاطىء
أو صيحات نوارس
تنقض من الأعالي
على أسماك تعوم في أحلامها"
ثم تتضح العلاقة بينهما أكثر، بين المرأة والقصيدة، في نصّ يتراوح بين البوح والشكوى، والاتهام:
"في الحب يؤجل الشعر
القصائد تتكاثر في السر
أحياناً تبدأ قصيدة ما باستعارة آسرة
ولكن الحب يمنعها من النموّ
أحياناً يفلت مقطع كامل
ولكن الحب لا يمنحه فرصة أن يبتعد
ويعيش كومضة مستقلة
الحب يقتل أي محاولة
القصائد الثمينة والكاملة ستكتب فقط في الهجران
كل امرأة هي مرثية مؤجلة
وكل رجل أيضاً!"
علامة التعجب هنا جزء من القصيدة، والديوان مليء بعلامات التعجب، كأنما يتعجب الشاعر نفسه مما تكتبه أنامله أو من "الومضات" التي تخطر له، فيخطّها سريعاً على الهوامش وتذاكر السينما، ويضيّعها غالباً.
غير أن الغربة لا تبقى طوال الديوان مجازية، ولا إحساساً داخلياً، تحضر بمعناها الحرفي وبما لم يكن ممكناً توقعه: "لم أتخيل أن شيئاً أو شخصاً ألمانيًا/ سيُذكر في قصيدة لي"، يقول في مجموعة نصوص بعنوان "ألماني يتجول في قصائدي"، حيث نكتشف أن اللاجئين "يفضّلون السكن في الطوابق الأرضية"، ولكن ليس لأن ذلك "يشعرهم بالاستقرار في أرض المنفى"، يعلق الشاعر ويسأل اللاجئين -مع القاريء- كأنما ليقول إنه ليس منهم، فهو محض "زائر عابر":
"أتسكع في برلين
لغة ريلكة تنساب فجأة على لساني
كانزلاق عربات المترو
في جوف المدينة المزدحمة".
حتى لغة "المنفى" نفسها لا تزال ضيفاً على اللسان، كأنها لم تصبح حقيقة بعد، أو ربما لأن صاحبها لا يزال يأمل أنه "بعد أن تنتهي الحرب/ سأعود إلى عملي القديم/ التفكير بقدميك اللتين تدهشان العشب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف