لا تزال مجلة "شعر" منذ صدور عددها الأول في شتاء 1957 ببيروت تثير العديد من التساؤلات والنقاشات التي لا تنتهي حول الشعر العربي الحديث وموقفه من التراث، إلى جانب قضية الترجمة وأمور فكرية أخرى. هذه النقاشات والسجالات دفعت بالعديد من الباحثين والباحثات إلى تسطير مؤلفات عدّة وأبحاث متشعبة، بهدف تناول نتاج شعراء المجلة والدور الذي لعبوه ضمن إطار الحداثة الشعرية.
من بين هؤلاء الباحث الأب جاك أماتاييس السالسي الذي أصدر كتابه الأول "يوسف الخال ومجلته (شعر)" عام 2004 عن دار النهار، بالتعاون مع المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، وفيه طرح سيرة يوسف الخال الثقافية من النشأة حتى إصداره مجلة شعر وما تضمنته من أفكار وسجالات. ليعود عقب ذلك ويصدر كتابه "صدى الكلمة–مقابلات مع يوسف عبد الله الخال 19500 – 1987) عام 2019، عن دار نلسن، والذي ضمَّ محاورات عدّة معه حول قضايا الأدب واللغة والفكر والفن بين اللغتين العربية والفرنسية. كما أصدر كتاباً بعنوان "يوسف عبد الله الخال–الجدول المتسلسل زمنياً لأهم وقائع حياته وكتاباته 1916–1987) عام 2019، عن دار نلسن أيضاً، وفيه وقوف عند أبرز محطات حياته، وتدقيق ما جاء بها من تواريخ ووقائع.
كتاب "خميس مجلة شعر من الشفاهية إلى التوثيق والتدوين" لجاك أماتاييس السالسي وثيقة تاريخيّة من 500 صفحة عن كواليس الحداثة الشعرية في العالم العربي
أما كتابه الأحدث "خميس مجلة شعر من الشفاهية إلى التوثيق والتدوين" الصادر هذا العام عن دار نلسن بالتعاون مع مؤسسة أنور سلمان الثقافية، لعلّه الأكثر مغامرة وطموحاً بين مؤلفاته المذكورة. فقد بذل خلاله السالسي جهداً بحثياً مضنياً للإحاطة بندوة "خميس مجلة شعر"، وما أحاط بها من تفاصيل وتشابكات فكرية. قسَّم السالسي كتابَه إلى أربعة أقسام رئيسية؛ الأول: قراءة في "خميس مجلة شعر"؛ الثاني: محاضر اجتماعات "خميس مجلة شعر" وتقارير عن نشاطاته؛ الثالث: الفهرس التحليلي لمحاضر "خميس مجلة شعر"؛ الرابع: الملاحق.
بدايات الحداثة الشعريّة
يقول السالسي في مقدمة كتابه إن "(خميس مجلة شعر) ظاهرة إنسانية حضارية ثقافية أدبية، ما زال صداها يتردد في الأوساط الفكرية العربية المعاصرة. حملت "حركة مجلة شعر" (1916–1987) وندوة خميسها، برعاية يوسف الخال وقيادته، قضيةً لم يجرؤ أحدٌ من قبل على طرحها بهذه الطريقة الجذرية: قضية التراث وإعادة قراءته وتجاوزه وتحديثه.
رفع شعراء المجلة وندوة خميسها رايةَ الثورة والتمرّد والرفض أمام جمود التراث العربي بهدف خطف الإنسان من جاذبية الماضي، وإثارة حبّ المغامرة فيه، وقذفه نحو رؤيا تضيء أمامه طرُق الخلق والإبداع. لا شك أن هذا الموقف كان تحدياً حضارياً واستفزازاً فكرياً جلب المتاعب لأصحابه، لكن في الوقت ذاته، كان دعوة إلى اتخاذ العقل الناقد معياراً في القضايا الحضارية والثقافية.
في هذا السياق يجب التذكير بأن "خميس مجلة شعر" له نفس الأهمية التي تتمتع بها مجلة شعر كما صرّح يوسف الخال، مع مراعاة الفرق بين نشاطهما ودور الشعراء في كلٍّ منهما. ومثل هذه الظاهرة جديرة بالبحث والمتابعة".
عقدت مجلة شعر اجتماعاتها الأولى في منتدى أوتيل بلازا قبل أن تنتقل إلى نادي المتخرجين في الجامعة الأمريكية ببيروت، وفي مرحلتها الثانية، ابتداءً من ربيع 1958، كان الاجتماع في منزل يوسف الخال أو منزل نديم نعمة
لم يكتفِ السالسي عقب ذلك بتتبع أثر ندوة "خميس مجلة شعر" فقط، بل نجده يعرض مشهداً بانورامياً للإرهاصات الشعرية والتيارات الأدبية والفكرية التي سبقت مجلة شعر نفسها.
أما عن مصادره لتدوين محاضر جلسات الندوة الأسبوعية، فقد أوضح أنه اعتمد على محاضر الاجتماعات المنشورة في جريدتي "النهار" و"الجريدة"، إلى جانب ما نشرته مجلة شعر من نشاطات الندوة في باب "قضايا وأخبار". وكذلك صفحة النهار الثقافية بين عامي 1957 و1964، ثم خواطر يوسف الخال وأدونيس، بالإضافة إلى مراجع أخرى أبرزها "شوقي أبي شقرا يتذكر" و"يوتوبيا المدينة المثقفة" لمؤلفته الناقدة خالدة سعيد.
الاجتماع الأوّل
يمكن القول إن الفصل الثاني هو أهم فصول الكتاب، حيث نتعرف من خلاله على أبرز الملامح الأساسية للندوة وروادها. فقدت عقدت الندوة اجتماعاتها الأولى في منتدى أوتيل بلازا، قبل أن تنتقل إلى نادي المتخرجين في الجامعة الأمريكية ببيروت، وفي مرحلتها الثانية، ابتداءً من ربيع 1958، كان الاجتماع في منزل يوسف الخال أو منزل نديم نعمة. بينما تألف جمهور الندوة من ثلاث فئات أساسية: 1- جماعة مجلة شعر المتمثلة بهيئة تحريرها، 2- رواد من محبي الشعر والأدب، 3- زوار وضيوف.
في مرحلتها الثانية، اقتصرت الندوة على حضور المشتغلين فعلياً بالشعر وقضاياه، والذين تراوح عددهم بين 9 و12 عضواً، قبل أن يتم انتخاب الشاعر أنسي الحاج أميناً للسرّ بالإجماع. كما رافق هذه الندوات حضورُ كوكبة من الضيوف البارزين مثل الشاعر شفيق معلوف، والدكتور شارل مالك، وبعض الزوار مثل إبراهيم العريض، ومصطفى محمود، وستيفن سبندر، وإناسيو سيلونه.
كما حرصت الندوة على عقد أمسيات شعرية للتعريف بحركة الشعر الحديث، وذلك في المنتدى الكبير للجامعة الأمريكية ببيروت، فكان بين المشاركين: نزار قباني، وجورج غانم، وجورج صيدح، ورفيق المعلوف، وبدر شاكر السيّاب. وفي مرحلتها الثانية قدمت الندوة عام 1960 كلّاً من شوقي أبي شقرا، ومحمد الماغوط. كما عقدت الندوة حفلةً تكريمية في ذكرى إيليا أبو ماضي عام 1957.
قسَّم السالسي مراحل ندوة خميس مجلة شعر إلى مرحلتين أساسيتين؛ الأولى في الفترة من كانون الثاني/يناير 1957 حتى 20 آذار/مارس 1958، والمرحلة الثانية امتدت من 3 نيسان/أبريل 1958 حتى توقُّف المجلة ذاتها في خريف 1964. فأشار إلى أن المرحلة الأولى هي عامة/تأسيسية وفيها تفجير الشكل الشعري التقليدي.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة خاصة بالمشتغلين بقضايا الشعر والانفتاح على قضايا كيانية وفلسفية بهدف التوّجه صوب مرحلة جديدة. من أبرز سمات هذه المرحلة اتجاهُ الأعضاء نحو مناقشة المجموعات الشعرية الصادرة عن دار مجلة شعر، وهي 14 كتاباً، منها "البئر المهجورة" ليوسف الخال، و"نداء البعيد" لجورج غانم، و"لن" لأنسي الحاج. لكن النشاطات لم تتوقف عن هذا الحدّ، فقد تمّت دعوة مجموعة من الرسامين والمصورين اللبنانيين والأجانب لحضورِ وقائع الندوة.
اتهامات وجدالات
المفلت في الكتاب هو حرص الباحث على تدوين بعض الأحداث الفارقة والتي غابت عن محاضر الندوة، حيث تطرّق إلى موقف جورج غانم الحاد تجاه أنسي الحاج، وحملة مجلة الآداب التي شنّتها ضدّ "شعر" ابتداءً من شباط/فبراير 1961. وكذلك الخواطر التي سطّرها أدونيس على صفحات جريدة النهار، بعد أن وجه له أكثر من شخص ملاحظةً تفيد بأن روح الشعر في المجلة ليست عربية.
حرص جاك أماتاييس السالسي في كتابه على تدوين الأحداث التي غابت عن محاضر الاجتماعات، كالحملة التي شنتها مجلة الآداب ضد مجلة شعر، وعدم مناقشة الندوة لديوان أدونيس "أغاني مهيار الدمشقي"، وغياب التناول المفصل لتأثير عزرا باوند على الشعر العربي الحديث
وهناك أيضاً غياب مناقشة الندوة لمجموعة أدونيس الشعرية "أغاني مهيار الدمشقي" الفائزة بجائزة مجلة شعر كأحسن مجموعة شعرية صدرت عن دار مجلة شعر عام 1961. كما لم تتناول أيضاً وقائع مؤتمر روما للأدب العربي المعاصر عام 1961، والذي شارك به كلٌّ من يوسف الخال وأدونيس وسلمى خضراء الجيوسي وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ ومحيي الدين محمد وبدر شاكر السيّاب.
كذلك غابت أحداث الخلافات في وجهات النظر التي حدثت لاحقاً بين بعض أعضاء المجلة مثل أدونيس وشوقي أبي شقرا، وغابت عن المحاضر أيضاً مناقشة المسابقة التي أطلقتها جريدة النهار في قصيدة النثر، والتي فاز بها محمد الماغوط مع الأخذ في الاعتبار أن قصيدة النثر ودورها كانت من بين الموضوعات الأساسية المطروحة في نقاشات الندوة. أخيراً غياب التناول المفصّل لتأثير عزرا باوند على الشعر العربي الحديث، وخصوصاً عند يوسف الخال.
ضمّ الكتاب في أحد ملاحقه رسالةً وافية من الناقدة خالدة سعيد، أوضحت من خلالها العديدَ من الالتباسات والتداخلات الخاصة بالندوة والمجلة معاً، إلى جانب مجموعة من الصور النادرة التي أضاءت صفحاته.
هذه القراءة ليست سوى محاولة أولية للوقوف عند النقاط البارزة التي جاءت عبر هذا العمل المرجعي الضخم الذي تجاوزت صفحاته الخمسمائة. فلا شك أن هذا الكتاب يعيد النظر في مفهوم الحداثة الشعرية منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، كما أنه في حاجة إلى المزيد من تسليط الضوء على القضايا والأفكار التي جاءت به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...