كانت الصدمة أبلغ تعبير ممكن عن الشعور الذي انتاب الكثيرين من أبناء "الأجيال الشابة" (أيا كان المقصود بهؤلاء)، حين "اعترف" الشاعر مجدي نجيب بأن كلمات أغنية "شبابيك" كانت موجهة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. أوضح الشاعر الكبير الذي رحل يوم الأربعاء 7 شباط/ فبراير 2024 عن عمر ناهز التسعين، في لقاء بالفيديو مع برنامج "وصفوا لي الصبر" ثم في حوارات صحافية لاحقة، أن الأغنية كانت "همسة عتاب" على المعتقل الذي وجد الشاعر فيه نفسه مع آخرين رغم حبهم لـ "ناصر"، "أنا بحبك، بتحبسني ليه؟"، هكذا قال نجيب.
عبد الناصر... وشعراء الستينيات
لم يكن سبب الصدمة أو الاستياء متعلقاً بالموقف من عبد الناصر في ذاته، فالعلاقة المعقدة مع عبد الناصر، والتي بدت كثيراً أقرب إلى علاقة عاطفية يتداخل فيها الحب بالغضب واليأس، كانت سمة غالبة على شعراء الستينيات، بالفصحى أو العامية، وصفهم ممثلين لجيل مصري/ عربي كامل، يمكن تلمسّها في قصائد أحمد فؤاد نجم، وفؤاد حداد، والأبنودي، ونزار قباني وغيرهم.
وفي لقاء غير منشور أجراه صاحب هذه السطور مع الشاعر أحمد شفيق كامل، قال الشاعر إن مشاعره نحو عبد الناصر من القوة بحيث كانت أقرب إلى الفتاة التي كتب لها كلمات أغنيته "إنت عمري".
العلاقة المعقدة مع عبد الناصر، والتي بدت كثيراً أقرب إلى علاقة عاطفية يتداخل فيها الحب بالغضب واليأس، كانت سمة غالبة على شعراء الستينيات، بالفصحى أو العامية، يمكن تلمسّها في قصائد أحمد فؤاد نجم، وفؤاد حداد، والأبنودي، ونزار قباني وغيرهم
لم تكن إذًا مسألة حب أو كره عبد الناصر هي "المفاجأة" في مسألة أغنية "شبابيك"، أو محرك رد الفعل على تصريحات شاعرها، بل لأنها واحدة من الأغنيات النادرة في تراثنا الغنائي، التي خرجت كلماتها عن الوضوح التقليدي والكليشيه، لتدخل عالماً تتعدد فيه المعاني والظلال، كما هو الحال مع أغنية عصام عبد الله لعلي الحجار "في قلب الليل" أو أغنية الأبنودي لمنير "برة الشبابيك".
لكن هذا الجدل "الناصري" سرعان ما خفت، إلا من دورات يحملها "التريند" من حين لآخر، استمرت "شبابيك" كواحد من أجمل نماذج الغناء المصري، باللحن الساحر لأحمد منيب، إذ لم يعد مهماً أن تكون "أنا عاشق سقوني كتير المر، ورا الشبابيك"، إشارة إلى تعذيب المعتقل، أو تعذيب الحب.
المعاني والألوان والظلال
نعرف أن أثر ذلك العذاب بقي داخل نجيب طويلاً، من ستينيات عبد الناصر إلى أنه كتب الأغنية لمنير في ثمانينيات القرن العشرين، ثم إلى العقد الثاني من القرن الجديد، حين "أفصح" عن أسرار الأغنية.
على أية حال، كان ذلك كله إشارة وافية إلى نجيب نفسه، الفنان المتعدد المعاني والألوان والظلال، الرسام والشاعر والمؤلف والصحافي، كأنه يحاول أن يكون "كامل الأوصاف" كعنوان أغنيته لعبد الحليم حافظ، كأنه "الفنان الشامل"الذي سكن في الفن وبدا كأنه يتخفّى فيه، ربما خوفاً من اعتقال جديد، فقد تبحث في إنجازه في أدب الأطفال مثلاً، فتكتشف أن دوره في هذا النص كان الرسم لا الكلمات، وفي ذاك النص الآخر كان الإخراج الصحافي، وفي نص ثالث يكتفي بالقصيدة.
استمرت "شبابيك" كواحدة من أجمل نماذج الغناء المصري، باللحن الساحر لأحمد منيب، إذ لم يعد مهماً أن تكون "أنا عاشق سقوني كتير المر، ورا الشبابيك"، إشارة إلى تعذيب المعتقل، أو تعذيب الحب.
في أغنيته الشهيرة لشادية "قولوا لعين الشمس"، يبدأ من منطقة يحبها ملحنها بليغ حمدي، منطقة التراث الشعبي، مطلع الأغنية الذي نادى به المصريون في بدايات القرن العشرين على إبراهيم الورداني الذي نفذ عملية اغتيال القاضي الذي أصدر أحكام الإعدام في حق الفلاحين في قضية دنشواي. ترجّى الوجدان الشعبي المصري من الشمس ألا تحمى يوم تنفيذ الإعدام في حق الورداني "ما تحماشي، أحسن غزال البر صابح ماشي"، تتحول الكلمات في أغنية نجيب إلى "أحسن حبيب القلب صابح ماشي"، مرة أخرى قد يضطرب المستمع إذا عرف "الحقيقة"، قد تستوقفه مسألة الاغتيال السياسي كما قد توقفه الناصرية، لكن الفن -ذلك الغامض- يتجاوز كل ذلك ويمنح الجمال بشروطه الخاصة بغض النظر عن الخلفيات أو الدوافع.
الساكن في "بيوت الفرح"
في "ممكن"، بعد سنوات طويلة من التعاون الأول مع "الكنج" محمد منير، يفصح نجيب بنفسه عن المساكن التي يفضلها "أسكن بيوت الفرح؟ آه ممكن، أسكن بيوت الحزن؟، لا يمكن"، إنها رغبة واضحة وعارمة، غير أن شيئاً واحداً يعطلها "اشمعنى المعنى بيعرفني، لو باتت في قلوبنا جراح".
في مطلع أغنيته الشهيرة لشادية "قولوا لعين الشمس"، نادى المصريون في بدايات القرن العشرين على إبراهيم الورداني الذي نفذ عملية اغتيال القاضي الذي أصدر أحكام الإعدام في حق الفلاحين في قضية دنشواي
إن الهرب من الحزن، العذاب، السياسة، الأفكار "ممكن. لكن أي شيء يبقى لنا حينئذ؟ خاصة إذا كنا ممن سكنهم الفن أو نحاول أن نسكنه؟
ربما لذلك صنع نجيب لنفسه كل تلك الدوائر وبقي يحوم فيها، يكتب دواوين العامية، يخرج مجلات الأطفال، يؤلف الأغنيات على وقع الماضي أو من وحي اللحظة، يرسم اللوحات ويحقق نفسه في عالم الفن التشكيلي، ويفصح من حين لآخر عن بعض الأسرار.
ربما لهذا استطاع -على نحو ما- أن ينجو، وأن يعيش إلى أن قارب إتمام العقد التاسع، قبل أن يطاله ما يعاقب به الزمن من تطول أعمارهم، توفي نجله الوحيد "ياسر" قبل شهور، ربما هنا فقط، رأى نجيب أن هذه الجراح تكفي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف