أعرف حكاية.
وقفت تلميذة مراهقة في أحد الفصول الدراسية أواخر التسعينيات، بعد أن رفعت يدها بتأدب، وقالت للمعلّم: "أنا نبية"، وكانت تلك الحادثة المُريبة فاتحة لضياعها الشخصي.
القصة سَمِعْتُها من زميلة سابقة لها، امرأة مرفهة، جميلة، في الثلاثين، مع أطفال رائعين وزوج يخونها بانتظام، ونظرة بعيدة تقول وتحجب الكثير. قالت لي فجأة ونحن نتابع خربشات طفلتها على ورق الرسم فوق طاولة مطبخهم: "ما الذي يريده منا هؤلاء الرجال على وجه التحديد؟".
ما الذي تفعله الساحرات؟
يسأل ماكبث الساحرات الثلاث في المسرحية الشهيرة، وهو يعاني حيرته وقلقه: "أنتن أيتها الشمطاوات، الغامضات، الشريرات، ما الذي تفعلنه؟"، فيجبنه بصوت واحد غير مبال: "بعض الأشياء التي لا يمكن تسميتها".
إنه الحائر المدلل الأبدي، أما جوابهن، فهو وصف موفق لما يريده رجالنا من النساء تقريباً. أشياء لا تقال أبداً، وذلك طبعاً عدا المطالب الشرعية من الجمال والتأدب والطاعة والصيت الحسن!
وقفت تلميذة مراهقة في أحد الفصول الدراسية أواخر التسعينيات، بعد أن رفعت يدها بتأدب، وقالت للمعلّم: "أنا نبيّة"، وكانت تلك الحادثة المُريبة فاتحة لضياعها الشخصي... مجاز
بدأت صديقتي بعدها، أو قبل ذلك ربما، بزيارة " الشوافات" والفقهاء، وأعطوها خلطات وتمائم وأحجبة. كان رجلها يهيم بكل أنثى ترتدي بنطال جينز وتقود سيارتها الخاصة أو تركب حافلة دون عون من أحد، وقد وقع بذلك في حب كل المعلمات والممرضات اللواتي وردن على البلدة الصغيرة دون تحديد. كان هذا هو نمطه على وجه التقريب: المرأة التي تحسب نفسها كل شيء. أما التمائم والأدعية فقد نفعت فقط تجارة "الساحرات" و"الفقهاء" المزدهرة. والآن فلننظر إلى هاتين التسميتين المختلفتين لمهنة واحدة، ولنضحك بتسامح كامل: ساحرات وفقهاء. مرحباً بمكياليك أيها العالم الغريب!
من تحسبين نفسك؟
قال لي أبي في زمن قديم: "من تحسبين نفسك؟"، وكانت تلك أسئلة مشروعة تقريباً حينها، وهو يرى ابنته الصغرى تخرج في كل مظاهرات الحراك الشعبي، وتتكلّم عن أشياء لا تخصّ، برأيه، سوى الآخرين.
ذكرت الصحفية الفرنسية منى شوليه في كتابها "ساحرات، قوة النساء التي لا تقهر"، أن النساء المستقلات كن دائماً يُنبذن من المجتمع الذي يتهيبهن ويشتهيهن ويلعنهن إذ لا يستطيع ترويضهن، ولذلك فسرعان ما تأتي الأوصاف السيئة كصناديق وأغلال أيضاً: الساحرات أو العاهرات أو المسترجلات أو غيرها. ولكن فلنمض قليلاً مع فتنة السحر هذه التي طفت في الجو منذ قليل.
تصبح النساء مخيفات وغير مفهومات ما إن تختفي من حولهن الظلال المتلألئة لأولادهن، وعندها طبعاً تظهر الساحرة
تُقَرب اللغة العربية بين السَّحَرِ: آخر الليل، وبين السِّحْرِ الذي هو فتنة واستمالة للألباب والقلوب. إنه الظلام الغامض للنفس البشرية وتلك الزوايا التي لا يصلها الضوء ولن يصلها. يكتب رجال العصور الوسطى خلال أزمنة ما سُمي بـ"صيد الساحرات" أوصافاً لما يقع في سبت السحرة، بشكل يتجاوز خيال صناع أفلام البورنو المعاصرة بكل تلاوينها. إنهم يرفلون في ثياب الكهنوت غالباً ولكن ذلك لا يمنعهم من التنفيس عما بالداخل قليلاً: حفلات الجنس الجماعي والنساء العاريات اللواتي يضاجعن الشيطان في وضعيات أكروباتية قبل أن يضع علامته الملعونة على أجسادهن.
غير أن ما يهم الكاتبة فعلاً هو ما يتبقى لنا من كل ذلك التراث المُخْجِل والمأساوي؛ صورة النساء اللواتي كن يُسْتدعين للتحقيقات دائماً، وتحوم حولهن الشبهات ويتعرّضن للتعذيب والتنكيل، وحتى القتل عندها: المستقلات جداً، اللواتي لا يُرِدن أطفالاً، وأولئك العجائز المبتهجات اللائي لا يجدن غضاضة في عرض ثآليلهن وتجاعيدهن العميقة للشمس.
ولكن فلنصمت رجاء
كانت قصة النبوة القصيرة الأمد تلك حديثاً للبلدة الصغيرة خلال أشهر. مُنعت الفتاة بعدها من ارتياد المدرسة ومن الخروج تماماً، وكان الجيران يتغاضون لعدة ليال عن صراخها الوحشي. كان الزمن عندها مختلفاً وكتوماً، وفاحت في طيات الأمر كله روائح زنخة لجريمة اغتصاب لا تصدق ولا يمكن ابتلاعها إلا بادعاء الجنون أو الذهان المرضي.
المغتصب كان عَمّاً لها، وفقيها، وقيل بعدها بأنه كان يُنَوّمها باستخدام السحر أو القرآن أو أية حيلة أخرى قبل أن يمارس عليها قذاراته، وبأن إدراكها قد تبلبل تماماً بسبب كل ذلك، وصارت تسمع أصواتاً تُحَدثها من العالم السفلي.
إن نبوّة الرجال لا تأتي إلا من العوالم العلوية مع ذلك، وقديماً وصف العرب ملكة أمازيغية بـ"الكاهنة"، فقط لأنها حاربتهم على رأس شعبها في المغرب الكبير، وأشاعوا بأنها كانت تستميل إليها الآخرين باستعمال السحر، وربما ببعض الجنس الملعون بالتأكيد.
وصف العرب ملكة أمازيغية بـ"الكاهنة"، فقط لأنها حاربتهم على رأس شعبها في المغرب الكبير، وأشاعوا بأنها كانت تستميل إليها الآخرين باستعمال السحر، وربما ببعض الجنس الملعون بالتأكيد... مجاز
هرب العم بعدها إلى مدينة أخرى، ولم يفكّر أحد بالمحاسبة ولا بالقانون، وكان ثمة جنين تم إجهاضه بطرق بدائية ونزيف وآلام ورحم مريض، إذ لا يمكنك إخفاء شيء في مكان كله عيون وقلق سائل مرئي. أما الفتاة فقد اختفت طوال سنوات في أمكنة بعيدة لا يعرفها سوى أهلها المقربين، ثم ظهرت في البلدة فجأة؛ شابة جميلة وغامضة في الثلاثين.
كان العالم قد تغير وهي قد تحولت إلى شخص آخر تقريباً، ولكن البلدات الصغيرة تصمت ولا تَنسى. كانوا يتجنبونها أو ينظرون إليها كلعنة كلما ألقت التحية أو حاولت التقرّب بودّ كامل من الجارات اللواتي لا يسامحنها على شيء غير مفهوم. وعندها طبعاً بدأ الشطر الثاني من حياتها، إنه الشطر حين بدأت تُدَوّخ و"تسحر" رؤوس الجميع.
آكلات الأطفال الغامضات
كانت المرأة قد صارت قوية جداً ومشتهاة بشكل عصي، وبدأت تحسّ في كتفيها بالوقع السحري لنمو الجناحين. خَدّرت سنوات غيابها ذكريات الاعتداء لبعض الوقت، غير أن الحي قد أحيا فيها كل تلك الأمور دفعة واحدة، وشعرت حينها بأنها تريد الانتقام من الجميع دون تحديد. كان فيها جوع عارم ومخيف للحب أيضاً. قالت لي صديقتي بأنها صارت تستميل كل الرجال بقوة غامضة في داخلها، وبأنهم كانوا يعبدونها ويشتمونها في سريرتهم مع ذلك. حدّقت بالفراغ البعيد وهمست: "ليس ثمة شيء أكثر إثارة للرعب من شخص لا يعرف أين يتجه".
كان زوجها واحداً منهم طبعاً، خاصة حين بدأت الشابة تلبس ثياباً عصرية وتقود سيارة والدها المريض الذي استهلك صحته في ستر الفضائح والأكاذيب. قال لها، وهو يعترف لها بخيانته كعادته كل مرة: "واحدة مثلها لا يمكن أبداً أن تنجب الأطفال". كان يسترضي زوجته بشتم عشيقته التي لَفَظته غالباً، ولكن تلك هي نظرة جماعية أيضاً، إذ ما الذي قد تكونه المرأة حين لا تكون أمّاً؟
قال لي المحاور في لقاء إذاعي أدبي بأنه يجب على كل رجل أن يحترم المرأة وهو يتمثل أمه التي يحبها، وابتسم لي ابتسامة واسعة لأنه كان قد عثر على هذه الجملة الطيبة العظيمة في ذهنه. يأتي التكريم للنساء في ثقافتنا بعد الأمومة دائماً، وعندها يمكن أن يشرعن في قول كلمتهن الخاصة أو ترديد صدى كلام رجالهن على الأقل، أما المصيبة الكاملة فهي تخيل امرأة لا تريد أن تحبل.
تَذكُرُ منى شوليه في كتابها الآنف الذكر بأن تلك قد عُدت بشاعة لا تطاق دائماً. نظروا في العصور الوسطى إلى هؤلاء النساء كساحرات وآكلات أطفال، وقالوا بأن ثمة شيئاً أسود في داخلهن يقتل أجنتهن، أما في أزمنتنا فتقوم الدنيا ولا تقعد كل ما فُتح حديث جديد عن الإجهاض، وتظهر كل العفاريت من مخابئها الغابرة. هل يعقل أنك لا تريدين طفلاً؟ بعض المتكلمات من النساء أصلاً، ويكون ما يقلنه تقريباً هو هذا السؤال القلق الناعم: هل تعرفين كم ستندمين إذا فاتك أوان إنجاب الأطفال؟ إنه الظهور المفزع المهيمن الغريب للساعة البيولوجية، ولكن دعنا نضمر في قلوبنا سؤالاً آخر: هل تندم النساء أيضاً أحياناً على إنجاب أطفالهن؟
غير أن هذه قلة أدب مني في الحقيقة، تتصدّى لها الروايات والأغاني والأفلام وصورة وجه الأمهات الحنون الندي بالدموع دائماً لسبب غير معروف. إنهن النساء المثاليات اللواتي لا بأس بأن يشخن وتتجعّد وجوههن إذن محاطات بأحفادهن. والآن فلننظر إلى هذه اللوحة الهزلية مثل لعبة قص ولزق ساخرة: تصبح النساء مخيفات وغير مفهومات ما إن تختفي من حولهن الظلال المتلألئة لأولادهن، وعندها طبعاً تظهر الساحرة.
قالت لي "النبية" بعد أن صرنا مقرّبتين لحد ما: "إنهم يحسبون أنني قد خرجت لهم من قصص ألف ليلة، ومن كل مكان قصي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.