حين يشعر الإنسان بالهزيمة، يبحث عن تكتلات سريعة حول هوية معيّنة تُشعره بالقوة والدافع للعمل. هذا تماماً ما حدث للأتراك منذ سقوطهم عند أسوار فيينا، مروراً بحروبهم ضد الروس والصفويين والقاجاريين الفرس الممتدة بين القرنين الـ16 والـ19، والتي نتج عنها إضعاف الدولة العثمانية وتفككها واستقلال العديد من الشعوب والدول عنها كاليونان، وشعوب منطقة البلقان في ما اصطُلح على تسميته بالأزمة الشرقية الكبرى.
لذا أدّت هزائم الدولة العثمانية على يد النمسا، في معركة فيينا سنة 1683، وعلى يد روسيا القيصرية في حروب متنوعة عدة منذ القرن الـ17، إلى نشوء وعي اجتماعي تركي بضرورة جمع الأمة التركية العرقية في "دولة عظيمة" تكون بديلاً عن هذا الكيان العثماني متعدد الأعراق والقوميات.
كما أدى صعود قوميات محلية أوروبية تتعارض مع هوية الدولة العثمانية الإسلامية عقائدياً، والتركية قومياً، إلى نشوب الحروب بكثرة في الجسد العثماني حتى أُنهك ذلك الجسد. لذا شُبّهت الإمبراطورية العثمانية في تلك الحقبة الزمنية، بالرجل المريض، بعدما فقدت كل مقومات الإمبراطورية القوية التي اكتسبتها في مرحلة النشوء والانتصارات في البداية، والتي كانت معركة فتح القسطنطينية عام 1453، أشهرها.
"الاتحاد والترقي" والقوميون العرب
نتيجةً لهذه الأزمة العثمانية الحادة، حدثت تطورات عدة في الثقافة التركية، من بينها صعود متزامن للأفكار القومية والعلمانية التي كان مصدرها الثورة الفرنسية أواخر القرن الـ18، وهي الثورة التي أشعلت ما يُسمى بـ"الوعي القومي" وتشكّله الحديث على أسس شعوبية قديمة. لذا صعدت في أواخر القرن الـ19، العلمانية في تركيا حتى تُرجِمَ ذلك الصعود بإنشاء حركة "تركيا الفتاة" التي عبّرت عن مبادئ العلمانية والحداثة التركية، ورفعت شعارات المساواة بين الأجناس والأديان، وكان من بين رموز هذه الحقبة القومية-العلمانية الروائي والشاعر حسين نهال أتسز والأمير صباح الدين والمفكر الألباني إبراهيم تيمو والطبيب الكردي إسحاق سكوتي... وغيرهم، فتحولت الحركة شيئاً فشيئاً إلى حركة قومية تركية متعصبة هي "جمعية الاتحاد والترقي" التي سعت إلى إسقاط الخلافة العثمانية بوصفها ضد المساواة بين الأديان أولاً، ولأنها لا تمجد العنصر التركي ثانياً، برغم أن مؤسسي الحركة الأوائل ودعاتها متنوعو العرقيات والثقافات من ألبانيا وكردستان وغيرهما.
لكن الاضطهاد الذي لاقته الحركة من الخلافة العثمانية أدى إلى تعصّب المعارضين للقومية التركية كسلاح لإسقاط دولة الخلافة.
أدّت هزائم الدولة العثمانية إلى نشوء وعي اجتماعي تركي بضرورة جمع الأمة التركية العرقية في "دولة عظيمة" تكون بديلاً عن هذا الكيان العثماني متعدد الأعراق والقوميات
يقول رؤوف عباس، في كتابه "تطور الفكر العربي الحديث": "عندما قام انقلاب سنة 1908، وتم عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وسيطر حزب الاتحاد والترقي على الحكم، كشف القوميون الأتراك عن نواياهم الحقيقية في سيادة العنصر التركي وتتريك الشعوب العثمانية". ما يشير إلى أن المتعصبين الترك في جمعية الاتحاد والترقي استفادوا من الدعاية العلمانية وشعارات المساواة والعدالة في البداية، والتي تمظهرت في تنوعهم الثقافي والعرقي، ولما حصلوا على شعبية لازمة ظهر وجههم الحقيقي الذي لا يؤمن بالمساواة، ولكن بسيادة العنصر التركي خلافاً لشعارات التأسيس.
تُرجم هذا التعصب القومي التركي إلى صدام مع القوميين العرب، وتجلى في حوادث عدة أشهرها إعدام عشرات المثقفين من صحافيين وأطباء ومفكرين عرب على يد السفاح العثماني "أحمد جمال باشا" سنة 1915، بتهمة التخابر مع إنكلترا في الحرب العالمية الأولى.
جذور القومية العربية
أشعل غياب نظام حُكم عربي في القرون الوسطى وحتى بدايات القرن العشرين ينافس أنظمة الحكم الأخرى الفارسية والتركية، وغياب دولة تجمع بين شتات العرب من المحيط الأطلنطي إلى الخليج، روحاً ثورية بين المثقفين العرب تمثلت في إحدى جوانبها في الرغبة في المقاومة، سواء مقاومة الاستعمار الأوروبي أو الخلافة التركية بوصفهما الطرفين المُحتكّين مباشرةً بالشعوب العربية، الذين يمنعانه من حقوقه في هذه الوحدة.
وساهمت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، في إشعال الرغبة الثورية العربية في الاستقلال، كون هذه الحرب أدت إلى سقوط أعظم ثلاث ممالك في القرون الوسطى وهي العثمانية والقيصرية والنمساوية-المجرية، وهو ما أدى إلى صعود الديمقراطية وعدّها روح العصر، مستفيدةً من صعود الاستعمار الأنغلو-فرنسي الذي بشّر بالديمقراطية والدستور كعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، خلافاً للاحتلال العثماني التركي، الذي لم يكن يعرف هذه الأشياء أو يؤمن بها بعد.
انبرى العديد من الكتّاب والأدباء والنخب للتبشير بهذه الوحدة العربية المفقودة مثل سلامة موسى (1887-1958)، الذي قال عام 1923: "إن فكرة ولايات عربية متحدة فكرة كانت تدور بخلد الكثيرين" ("الفكر العربي في مئة سنة" صـ 71)، أو ما كتبه الأديب محمد محمد حسين (1912-1982)، الذي قال تعليقاً على بيان الجامعة الشرقية سنة 1922، إن الحركة الثقافية العربية الشرقية قامت على أساس تدعيم الروابط بين الشرق وضرورة الاقتباس من الغرب لنهضة الشرق كمنطلق يؤسس لاحقاً لـ"الجامعة العربية" (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ج2، صـ 100، و114).
وكتب جاك بيرك (1910-1995)، في كتابه "التاريخ الاجتماعي للقرية المصرية في القرن العشرين" صـ 525، أنه في "عام 1936 أجريت في القاهرة مسابقات أدبية كان موضوعها دور الدين واللغة والتقاليد في الاستقلال، مما يستحوذ على اهتمام الشعب في هذه الحقبة واعتبار موضوع الاستقلال أو الوحدة العربية من إشكاليات تلك الفترة".
لكن صعود القومية العربية لم يكن سهلاً في بعض مراحله، إذ اصطدم بخصوم رفعوا شعار "القوميات المحلية"، إذ عدّ البعض أن هذه العروبة تعني تحكيم الشريعة الإسلامية. يقول عدنان سعد الدين في كتابه "مذكرات وذكريات ما قبل تأسيس جماعة الإخوان في سوريا وحتى عام 1954": "في أربعينيات القرن الماضي انتشرت كتب ساطع الحصري عن القومية العربية، فوجهنا البعض لقراءتها، فقرأتها أو قرأت بعضها مثل العروبة أولاً، وآراء في القومية والوطنية، ولقد لفت نظري وأنا في صفوف الإعدادية أن الحصري يرد على أنطون سعادة مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي هاجم العروبة باعتبارها عودةً إلى الإسلام من الباب الخلفي، أو باعتبارها غطاءً للدعوة إلى الإسلام".
وفي الوقت ذاته، يمكن القول إن بذور القومية العربية لم تكن صعبة الغرس والانتشار، بل كان انتشارها سهلاً لأنها كانت تعني في جوهرها أمرين اثنين؛ الأول "التحرر من الاستعمار الأجنبي"، كونها تعني وحدة المسلمين أيضاً في ضمير زعمائها، والأمر الثاني "البحث عن الذات"، بعد خفوت نجم الدولة العثمانية نتيجة ضعفها وهزائمها بدءاً من القرن الثامن عشر.
الثورة العربية الكبرى
ومثلما اتجه القوميون الترك نحو التعصب، فعل القوميون العرب أيضاً. لذا اصطدموا بالقوميين الترك في معركة تاريخية شهيرة سُمّيت "بالثورة العربية الكبرى" (1916- 1918)، بقيادة الشريف حسين أمير مكة، وهي مختلفة عن "الثورة العربية الكبرى الفلسطينية" (1936-1939)، التي قامت ضد الصهاينة والمهاجرين اليهود في فلسطين.
والهوية العربية والشعور الجمعي للمتحدثين باللغة العربية كانا المحركين لهذه الثورات ضد الأتراك ويهود أوروبا، وقد كانت الأخيرة المحفز لإعادة مبادئ الوحدة على أساس اللغة وحدها للمساواة بين المسلمين وغيرهم كالمسيحيين واليهود، وتحقيق الدولة العلمانية التي تحقق ذلك مثلما كان يطالب ساطع الحصري، في كتاباته (محاضرات في نشوء الفكرة القومية/ سلسلة أعمال ساطع الحصري صـ 120، و121)، أو على أساس اللغة والدين معاً، وهي المبادئ التي شكلت الجماعات الإسلامية في هذه الحقبة كالإخوان المسلمين، باعتبارها بذرة تكوين الخلافة أو عودتها بعد انهيارها في تركيا حسب ظنّهم، كما كان يكتب في ذلك حسن البنا ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب.
أما عن الثورة العربية الكبرى، فقامت في العام نفسه الذي وُقّعت فيه اتفاقية سايكس بيكو، بين بريطانيا وفرنسا عام 1916، وقبل وعد بلفور الصهيوني بعام واحد، لذلك رآها الإسلاميون مؤيدو الخلافة التركية، مسرحيةً أو مؤامرةً من الإنكليز والفرنسيين ضد الدولة العثمانية الإسلامية لخدمة اليهود، ورفضوا ربطها بالقومية العربية، وهو ما شاع في أدبياتهم وكتبهم عند الحديث عنها فيقصدون بها ثورة "أمين الحسيني" في فلسطين خلال حقبة الثلاثينيات، فالمسلم لا يثور على مسلم وفقاً لمعتقدهم لكنه يثور على "يهودي كافر أو صهيوني". أما الواقع الذي كان يشهد آنذاك تعصباً قومياً على الجانبين التركي والعربي، فلم يناقشه الإسلاميون في أدبياتهم ورفضوا التعرض له لكيلا تتعرض مبادئ الوحدة العربية التي هي جزء من مشروعهم السياسي الأعظم، أي الوحدة الإسلامية تحت راية الخلافة والإمامة، للتجريح والطعن.
كانت الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك، هي الحركة السياسية الأولى التي شكلت "القومية العربية" الحديثة، بعد التنظير لها في الصحف والكتب والمؤتمرات لعقود عدة منذ أواخر القرن الـ19، وبقيام أولى دولها "المملكة العربية السورية"، وزعمائها ملوكاً على سوريا والعراق ولبنان في ما بعد، وهو ما جعل من الفكر القومي العروبي "ثقافةً شعبيةً"، في هذه البلدان الثلاثة
ولم تتوقف الثورة العربية عند حركة الشريف حسين ضد الأتراك، بل شملت معارك ابنه الأمير فيصل ضد الفرنسيين، يوم كان حاكم ما سمّيت "المملكة العربية السورية" التي حكمت عامين (1918-1920)، وأشهر تلك المعارك "ميسلون" التي قُتل فيها الزعيم السوري يوسف العظمة، وانتهت بانتصار فرنسا وإعلان انتدابها على سوريا ولبنان منذ عام 1920-1946 في أحداث سياسية رافقت الثورة العربية الكبرى ودلّت على شعور الوحدة على أساس قومي لغوي، وحنين إلى الاتحاد على أساس مشترك يجمع المسلمين بعد انهيار الخلافة العثمانية.
وكانت الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك، هي الحركة السياسية الأولى التي شكلت "القومية العربية" الحديثة، بعد التنظير لها في الصحف والكتب والمؤتمرات لعقود عدة منذ أواخر القرن الـ19، وبقيام أولى دولها "المملكة العربية السورية"، وزعمائها ملوكاً على سوريا والعراق ولبنان في ما بعد، وهو ما جعل من الفكر القومي العروبي "ثقافةً شعبيةً"، في هذه البلدان الثلاثة، وترافق ذلك مع صعود الحركة القومية التركية بغزوات ومعارك مصطفى كمال أتاتورك، ضد اليونانيين والأوروبيين في العشرينيات لإعادة توحيد تركيا.
خلال تلك الحقبة الزمنية، بدأت تتشكل معالم القوميتين التركية والعربية لتصنع تمايزاً بين العرب والأتراك في وقت لاحق حتى نهاية القرن العشرين، وهو ما قضى على حُلم إعادة دولة الخلافة العثمانية لعقود عدة لتعود الدعوات إليها مع بداية القرن الـ21 بكيفية جديدة سنذكرها لاحقاً.
التعصب القومي وما بعد أتاتورك
منذ نهاية حرب الاستقلال التركية (1919-1923)، وعقد اتفاقية لوزان سنة 1923 التي رسمت حدود تركيا المعاصرة على أنقاض الدولة العثمانية القديمة، تأسس الشعور بالوعي القومي التركي. وما أنجزه الشباب في "الاتحاد والترقي" أو "تركيا الفتاة" صار مشروعاً سياسياً متكاملاً غير قابل للنقد. فالهوية القومية غير قابلة للانتقاد الشعبي والفكري، لأنها تقوم في جوهرها على قدسية الأرض والثقافة، ويتم التعامل معها كاتجاه سياسي لا يمكن المساس به، وهذا الذي شكّل تركيا الحديثة القائمة بالأساس على القومية التركية، التي يُصطلح عليها بالطورانية.
لقد كان مشروع الزعيم مصطفى كمال أتاتورك المعروف بأبي الأتراك، يتخطى حلم "تركيا الفتاة" بالتجمع على أساس تركي، إذ قام بتطوير هذا المشروع بإجراءات أخرى كاستبدال الحرف العربي في اللغة التركية بالحرف اللاتيني، واستبدال الزيّ القديم المعروف بالطربوش، بالزي الإفرنجي الأوروبي، وإدخال التقويم الغريغوري، واستبدال قانون الشريعة العثماني بقانون مدني علماني، وما إلى ذلك من إجراءات كانت تهدف إلى الفصل بين الأمة التركية ونظيرتها في الشرق.
وجرى تفسير إجراءات أتاتورك بالتعصب ضد الإسلام كدين، وهو لم يكن كذلك عند أتاتورك وأنصاره الذين رأوا أن معايير القومية التركية تتحقق بالفصل بين ما هو شرقي عربي، وبين ما هو تركي، وتم تفسير الدين بشكل روحاني حتى أثّر ذلك على دعاة وفقهاء تلك الحقبة، أمثال الشيخ سعيد النورسي ومحمد زاهد الكوثري ومصطفى صبري وغيرهم، حتى جاءت حقبة الخمسينيات حين صعد نجم عدنان مندريس وجرى إدخال الدين الإسلامي في الدولة كجزء من الهوية التركية الذي لا يتعارض مع علمانيتها.
والوعي بهذه القومية التركية حدث بشكل متأخر عن القوميات الأوروبية الأخرى، كالسلافية والجرمانية واليونانية والأرمنية والأسبانية أو غيرها، التي سادت في منطقة البلقان خلال القرن الـ19، وأدت إلى اشتعال ثورات شعبية ضد الدولة العثمانية، فكان الشعور التركي القومي هو رد الفعل الطبيعي على قيام هذه القوميات ضد العثمانيين، والتي كانت سبباً مباشراً لاستقلال هذه الدول عن دولة الخلافة. وهذا ما أدى إلى تطرف القومية التركية ولجوئها إلى العنف ضد هذه القوميات خصوصاً التي ثارت وانتفضت ضد العثمانيين في السابق وأشهرها اليونانية في ما عُرف تاريخياً بالإبادة الجماعية للشعب اليوناني (1914-1922)، ثم الأرمن والسريان في ما عُرف تاريخياً بالإبادة الجماعية للأرمن (1915-1923)، وهي مجازر دافعها الأساسي قومي مختلط بالدين.
واستمر هذا العنف التركي بعد وفاة أتاتورك سنة 1938، ضد الشعوب الأخرى لقيامه على هاجس الخوف والشك المصاحب لرغبات السيطرة والهيمنة. ولعل حادثة "بوغروم إسطنبول" سنة 1955، التي راح ضحيتها اليونانيون وانخفض عددهم في تركيا من 119 ألفاً إلى 7 آلاف فقط، تشرح هذا التعصب التركي بوضوح، حيث وبرغم إرساء دعائم الدولة العلمانية في عصر أتاتورك، إلا أن الثقافة الوطنية كانت تتعامل مع القوميات الأخرى بحساسية مفرطة وخوف مبالغ فيه، أثرا على رؤيتهم إلى شعوب دول الجوار أبرزهم (العرب والأكراد)، فساهمت تركيا في تأسيس "حلف بغداد" عام 1955، لمواجهة المد القومي العربي المشتعل في مصر والشام، بالإضافة إلى العنف ضد الأكراد المشهور تاريخياً بإبعاد الأكراد (1916-1934)، والمذابح التركية التي قُتل فيها نحو 20 ألف كردي سنة 1937، والمستمرة إلى اليوم.
طموح أردوغان التوسعي
ما وضعه أتاتورك ليس مجرد مشروع سياسي لدولة، بل مشروع فكري مستقبلي أسس لمفهوم "الأمة التركية"، وأعطى تعريفات جديدةً للوطن التركي لم يشهدها العثمانيون من قبل. لذلك عندما جاء إسلاميو تركيا بعد وفاة أتاتورك كانوا مُخيرين فيه بين استعادة المفهوم العثماني للوطن، وهو واسع للغاية ويشمل قوميات وشعوباً أخرى في الدولة، وبين الاعتزاز بالقومية التركية التي قامت على مفهومَي "الأمة والوطن"، ويحصر تركيا الحديثة في القومية الطورانية فقط لا غير.
اندفع بعض هؤلاء الإسلاميين لاستعادة المفهوم العثماني للوطن، لكن الجيش التركي الذي نصّبه أتاتورك في القانون العام حارساً للقومية التركية، منع هؤلاء الإسلاميين من هذه الإحياءة، والتاريخ يشهد على ما فعله العسكريون بإعدام عدنان مندريس سنة 1960، وأيضاً قمع نجم الدين أربكان في انقلابات عسكرية.
وعليه، تشكل طابع إسلامي جديد يرى أنه من الحكمة عدم تحدّي الأمة التركية ودستورها الذي ينص في مواده الأولى التأسيسية على العلمانية والقومية التركية (في مادته الثانية)، وعلى مادة علوية فوق دستورية، هي المادة الرابعة، التي لا تجيز نقد المادة الثانية أو تغييرها أو الطعن فيها أو حتى التفكير في طرح مشاريع لتعديلها، وعلى المساواة المطلقة بين الرجال والنساء في القانون (المادة 10)، وحرية العقائد المطلقة (المادة 15)، وعلى مواد أخرى، مثل المادتين 14 و24، تحمي العلمانية وتمنع تماماً استخدام الدين في السياسة بأي شكل.
من هنا تعلّم رجب طيب أردوغان الدرس، ومفاده أنه لكي ينجح كزعيم للأمة يجب عليه الاعتراف بالأمة الحديثة التي شكّلها أتاتورك ووضع صياغاتها الأولى، فأعلن التزامه وإيمانه بالعلمانية وعدم تحدي المؤسسة العسكرية أو القانون العام أو الدستور الذي يمنع توظيف الدين في السياسة.
ما وضعه أتاتورك ليس مجرد مشروع سياسي لدولة، بل مشروع فكري مستقبلي أسس لمفهوم "الأمة التركية"، وأعطى تعريفات جديدةً للوطن التركي لم يشهدها العثمانيون من قبل. لذلك عندما جاء إسلاميو تركيا بعد وفاة أتاتورك كانوا مُخيرين فيه بين استعادة المفهوم العثماني للوطن، وهو واسع للغاية ويشمل قوميات وشعوباً أخرى في الدولة، وبين الاعتزاز بالقومية التركية التي قامت على مفهومَي "الأمة والوطن"، ويحصر تركيا الحديثة في القومية الطورانية فقط لا غير
وأردوغان هو أهم زعيم تركي ربما في تركيا الحديثة بعد كمال أتاتورك، فهو أكثرهم حكماً، إذ بدأ ظهوره كرئيس للحكومة سنة 2003، ولا زال يحكم تركيا إلى الآن بعد تغيير النظام التركي إلى رئاسي عام 2018، وذلك باستفتاء شعبي جرى عام 2017، وسرّ بقائه ونجاحه في الحكم لا يكمن فقط في التزامه بعلمانية الدولة وعدم تحدّي المؤسسة العسكرية، ولكن أيضاً في ثلاثة أمور:
الأول: تصديره خطاباً يجمع بين القوميتين (التركية والإسلامية)، فالخطاب القومي التركي موجّه إلى الداخل لحشد الناخبين، والخطاب القومي الإسلامي موجه إلى الخارج لحشد المؤدلجين من العرب والترك والشعوب المختلفة.
الثاني: استفادته من الأزمة الاقتصادية التركية عام 2001، والتي تسبب فيها القوميون الترك الذين حكموا الدولة في الثمانينيات والتسعينيات (حزب الشعب والحركة القومية والوطن الأم والطريق القويم)، فظهر أردوغان بمشروع تعاون وصداقة مع الاتحاد الأوروبي في مشروع سياسي اشتهر وقتها بـ"تصفير الخلافات"(وكان لخصمه الحالي، حليفه السابق داوود أوغلو الدور الأبرز فيه)، ويزعم فيه أردوغان علاج أخطاء القوميين وقصورهم.
الثالث: إعلان انفصاله عن "حركة الرؤية الدينية الإسلامية" المعروفة "بمللي جوروش" التي تزعمها أربكان، كي ينجح في التواصل مع أوروبا ويحصل على ثقة زعمائها لإنقاذ الاقتصاد التركي، ثم أعلن نفسه في المقابل "حزباً ديمقراطياً إسلامياً يؤمن بالعلمانية كقانون للدولة ونظام للحياة لا يتعارض مع الدين".
طموح أردوغان في الزعامة دفعه إلى تصوير الخطاب القومي الإسلامي هنا على أنه مُكمّل للخطاب التركي وليس نقيضاً له، فهو عندما يحكم تركيا كمسلم يُكثر من شعارات الأسلمة والحنين إلى الإرث العثماني بهدف إثبات عدم التعارض بين الوطنية والدين، وقد حصل بذلك على عاطفة بعض الشعوب العربية المحبة للإسلام كنظام حُكم يرى الدولة العثمانية كخلافة إسلامية شرعية وأبدية، برغم أنه في الواقع رئيس تركي يؤمن بالقومية الطورانية المحلية ويتعصب لها ويتفاعل ضد أعدائها، مثلما رأيناه يُساهم في حرب ناجورنو كراباغ، ضد أرمينيا، مع إخوته الأذريين في القومية التركية، ويعتدي على القوميين الكرد في العراق وسوريا باستمرار ويمارس القمع السياسي والإعلامي ضد أكراد تركيا في الجنوب.
وهو مضطر إلى ذلك، كي لا يخسر الانتخابات أمام خصومه في حزب الشعب والحركة القومية اللذين يمثلان القومية التركية في أوضح صورها.
لكن أردوغان، ومنذ عام 2011، واجه أزمةً كبيرةً، فهو دعم الثورات الشعبية العربية مثل سوريا وتونس وليبيا، لكم من خلال رؤيته ودعمه لحركة الإخوان المسلمين واستضافه قادتها وزعمائها للضغط على الدول العربية لتبنّي مشروعه الديني التوسعي أو التماهي معه، والذي يهدف إلى مد النفوذ التركي بصورة عثمانية تاريخية تعيد إلى الأذهان حلم الإمبراطورية الإسلامية التي بشّر بها الموروث الإسلامي آخر الزمان.
لكن ردة الفعل العنيفة والمقاطعة العربية والصراع بينه وبين دول عربية عدة أبرزها مصر والسعودية، ساهمت في تحجيم هذا المشروع العثماني، فكان ذلك من ضمن عوامل عديدة أخرى ساهمت في تراجع الثورة السورية وانحسارها في سلطة دينية في محافظة إدلب، وكذلك الثورة الليبية التي انتهت إلى دولة أشبه بالنظام الفيدرالي...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...