شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"اللا منتمي"... عندما أصيب ماوريسيو ساري بالالتهاب الرئوي فأقلعتُ عن التدخين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 17 فبراير 202412:31 م


"تباً، إنها نزلة البرد اللعينة أتت في موعدها بلا تأخير، ورغم كل المحاولات المضنية للهروب منها، إلا أنها لم تخلف الموعد"؛ كانت تلك الهلوسات تنتابني عندما استيقظت من النوم في ليلة شتوية من ليالي ديسمبر، مُحمّلاً بسخونة مفرطة في الجسم وجفاف شديد في الحلق، وضيقٍ شديدٍ في التنفس، كأن السماء قد أطبقت بنجومها ومداراتها فوق صدري اُلملبّد بالدخان والنيكوتين.

كانت ليلة مليئة بالغربة والكآبة. نصحني الطبيب بالابتعاد المؤقت عن التدخين، لأن تذوّق التبغ في حالة الإعياء الشديدة تلك قد يدخل ضمن نطاق العمليات الانتحارية غير مأمونة العواقب، وحاولت مجادلته بأن الابتعاد عن التدخين سيقف حائلاً في وجه الكتابة أيضاً، باعتبارها عملية معقدة، تبدأ بجرعة نيكوتين قوية مع غروب الشمس، ولا تنصرف شياطينها إلا بجرعة نيكوتين أخرى تُخفّف من وطأة الصُداع النصفي المُصاحب لشعاعِ الفجر الأول، لكنه لم يقتنع، وقال بصوت حاسم: "صحتك هي الأهم في الوقت الحالي"، فلم أجد مفرّاً من مجاراته وطاعته.

جلستُ أمام التلفاز في محاولة يائسة لإيجاد تسلية تتساوى في نفسي مع التدخين والكتابة، وبعد حديث طال مع النفس، لم أجد سوى كرة القدم أنيساً أسعد بصحبته منذ كنتُ في الثامنة من عمري، لأنها، ورغم أن الفراق بيننا يطول أحياناً، تستقبلني في كل مرّة بنفس الحماس والشغف.

حسناً، إنها مباراة "نابولي" و"إنتر ميلان" في الدوري الإيطالي، ويا للحظ العاثر، نابولي متقدم بهدفين للاشيء بعد مرور خمس دقائق فقط من بداية المباراة، ما ينبأ بانتصارٍ أكيد لأبناء الجنوب، وبالتالي ستصبح تجربة المشاهدة غير ممتعة على الإطلاق. شددت كفي ممسكاً بجهاز التحكم عن بعد وعازماً على تغيير القناة، وقبل ضغط الزر بثانية واحدة، ثُبِت الكادر على مشهدٍ غريبٍ للغاية: إنه المدير الفني لنابولي.

رجل بدين ذو هيئة لا تليقُ بواجهة إعلامية لنادٍ يبحثُ عن المزيد من المداخيل المالية. تفحّصتُ قسماته جيداً، ولم ألتفت إلا لشيء واحد أثار في نفسي الحنين: إنها السيجارة المعلّقة في فمه، يلتهمها بشغف ونهم كما يلتهم الأسد فريسته. شعرت بالتماهي معه ومعها، فارتخت عضلات كفي، وقرّرت استكمال المباراة لأعرف من هو هذا الرجل.

ماوريسيو ساري، اسم سيعلق في ذاكرتي للأبد، وها أنا ذا أقرّر الكتابة عنه بعد سنوات جمعت فيها الكتابة بكرة القدم، وكان هو أحد أسباب هذا التحوّل، ولذلك ستجد فيما يلي ثلاثة بورتريهات قصيرة، كتبتها في أوقات مختلفة عن هذا الرجل المُلهم، وعن تأثيره علينا كعشاق لكرة القدم في العالم العربي، ومع اختلاف الظروف والأجواء، فلا يربط بينهما إلا بعض المقتطفات من كتاب "اللامنتمي" لكولن ولسون، ومن قصيدة "ذاكرة الغرابيل" لإيهاب البشبيشي.

استيقظت من النوم في ليلة باردةٍ كسابقتها، لأكتشف بالصدفة البحتة أن ساري مصابٌ بالالتهاب الرئوي، وعلى شفا إقالة أخرى من يوفنتوس، وساعتها فقط؛ تأكدت أن الحياة أقسى من أن يقف أمامها محض دخان متطاير... مجاز

البورتريه الأول: نسترد زماننا المفقود

"اللامنتمي هو مشكلة اجتماعية، إنه الرجل الموجود في الحفرة". كولن ولسون

هل تريد أن تصبح ثرياً هكذا بلا سبب أو سياق، وبغض النظر عمَّا ستفعله في سبيل ذلك؟ حسناً، تخيل أنك فاحش الثراء فعلاً، بل وتعيش منذ سنوات طويلة في نعيم مادي ووظيفي ليس له مثيل، هل هذا كافٍ بالنسبة لك؟ الآن ما هو موقفك إن تسلّل إلى نفسك إحساس دفين بالغُبن وعدم الانتماء لحياتك أو وظيفتك، لأنها تبعدك يوماً بعد يوم عن أحلامك وطموحاتك الحقيقية؟ ماذا لو شعرت بالزهد في تلك الحياة البرجوازية الروتينية المليئة بالأموال بعدما أثبتت لك التجربة أنها لا تُعبر عنك بشكل مباشر؟

ماذا ستفعل في تلك الحالة؟ هل تقرّر التمرّد على حياتك السابقة لتبدأ حياة ناصعة البياض دون حساب العواقب؟ أم ستنسجم مع ما أنت فيه، لأن قطار العمر والمسؤوليات لم يعد مؤهلاً لدخول مغامرة جديدة؟ وماذا ستصبح إن قرّرت التمرّد؟

"أتكون ما شاءت لكَ الكتبُ الكريمة والوصايا؟

أم ما يَرَى السُّحَّارُ مِن خلف الكتائبِ والسرايا؟

هل ما تَقَلَّبَ في الترائبِ والعلائقِ والعضايا؟

أم ما تَحنَّطَ في الكهوفِ مع الهياكلِ والعظايا؟

ما حَطَّ من أحلامنا طيراً ونَقَّرَ فى النوايا؟

أم ما تَشابَحَ من مخاوفَ في الصدور وفي الزوايا؟"

والأهم؛ ماذا سيتبقى منك بعد ذلك؟ كانت تلك هي الأزمة الحضارية التي فجرها الأديب البريطاني كولن ويلسون في كتابه "اللامنتمي" وأوجزها الشاعر المصري إيهاب البشبيشي في "ذاكرة الغرابيل"، حيث كتب ويلسون عن شخصٍ متمرد ومتفرد بصبابته وعنائه، يمتلك ذكاءً نادراً يُمكنه من إدراك مواطن الفوضى والضعف في هذا العالم، فإذا به لا يستطيع الانسجام مع محيطه الرأسمالي أو العائلي، الأمر الذي أوجزه البشبيشي في قوله: "إني كما أنا لستُ أيّاً مِن أولئكَ".

فهل عَلمَ أي منهما أثناء نبشه في دهاليز النفس البشرية، أن الإجابة قد تأتيهما من حيث لا يحتسبان؟ وأن هناك مدرب كرة قدم إيطالياً، سميناً غير مهندم، سيكون سباقاً في الإجابة على كافة الأسئلة؟ هل علم أحد منهما بوجود ماوريسيو ساري؟

ربما؛ فقد كتب إيهاب في لحظة من اللحظات ما يلي: "في الشارع المسدودِ من جهتيهِ/ إلا حارةً تُفضى إلى بعض الأزقةِ/ فالمدقِّ المنتهِى تحت الرديمِ/ فعطفةً تُفضى إلى سِكَكِ الطفولةِ/ فالـحواديتِ التي تهتاجُ جنِّــيَّاتُها/ والوقتُ مشتعلٌ من الجهتين، إلا لحظةً بالكادِ تَكفى كي أقولَ لصاحبي: تُــهنا/ تُهنا وليس بوسعنا إلا...".

إلا كرة القدم طبعاً، حيثُ كان على الشاب المولود لأسرة "نابلولياتنية" تعمل في البنوك، أن يتمرّد على مساراتها الوظيفية الآمنة، فكان يقضي الساعات متسكعاً بين الأندية المحلية، آملاً أن ينال فرصةً تعوّضه ما فاته من سنوات طويلة قضاها بين الأوراق والأرقام الجامدة، وسنوات أطول بدأ من خلالها النزوح إلى التمرّد، بعد أن قضاها متمسكاً بالعشب الأخضر في الدرجات الدُنيا والساحات الشعبية.

وقبل أن تعلو أصوات العائلة مطالبةً برأسه؛ لأنه دنّس سُمعتها بارتدائه الزي الرياضي دون البذلة الإيطالية المنمقة، أطلَّ عليهم رئيس نادي "أريتسو"، أحد أندية القسم الثاني، من مخدعه، معلناً التعاقد مع الرجل كمدير فني جديد للفريق الراغب في الصعود لدوري الأضواء.

كانت خطوة محفزةً لساري كي يتقدم باستقالته من وظيفة المحاسب البنكي، ويتفرّغ لخوض غمار التجربة متسلحاً بشيئين فقط: صديقه فرانشيسكو كلسونا، بائع القهوة الذي أغرته كرة القدم، وحزمة من لفافات التبغ لا تتسعُ لها نصف الشُعب الهوائية لسكان كوكب الأرض.

أما في الجهة المقابلة، فقد كان هذا العرض بمثابة جحيم على عائلته التي لم تشعر يوماً بانتماء ولدها لها، فأقسم البعض أنه مسحور، أو أن طائفاً من الشيطان مسّه، وأوحى إليه بترك الوظيفة ذات الدخل الثابت من أجل البحث عن سراب كرة القدم، وباعتبار أن هذا هو ما يُقال عادةً بعد أي محاولة للانسلاخ عن القيود المجتمعية، فيمكن التأكد من أن تلك الكلمات والاتهامات الباطلة قد عملت على تأصيل شخصية "اللامنتمي" لديه، بعدما عمد في رحلة هروبه من ماضي أسرته الناجح والسعيد، إلى محاربة الخيالات الشعبية المستقرة في الوجدان الجمعي، لأنه -وببساطةٍ قد لا تليق بموظفي البنوك- لم يكن "ينتمي" إلى هذا النوع العائلي أو المجتمعي من النجاح.

ولأن القدر أراد أن ينصف حالماً في لحظة سعيدة، تزامنت تلك الأحداث أيضاً مع سلسلة فضائح "الكالتشيو بولي" وهبوط يوفنتوس إلى "السيري بي" عام 2006، ولأن "مصائبُ قوم عند قوم فوائد"، استطاع ساري أن يستغل أنظار الجماهير والإعلام المتجهة نحو كتيبة بوفون وبافل نيدفيد، لينقلها باحترافية نحوه شخصياً بعد تعادله معهم بنتيجة 2-2، في مباراة حماسية أصبحت بعد ذلك حجر العثرة الوحيد في طريق عودتهم إلى دوري الأضواء.

ولم تتوقف المفاجآت عند هذا الحد، فبلغ السيلُ الزُّبَى عندما استطاع باقتدار أن يهزم "البيغ ميلان" في ذهاب ربع نهائي الكأس، لتنتهي المباراة بصعود صعبٍ للروسونيري في مباراة الإياب بعد تعديلهم للنتيجة، وصعود صاروخي لساري نحو تدريب "إمبولي" حيث بدأ المجد، ومن إمبولي إلى نابولي وتشيلسي ثم يوفنتوس ولاتسيو... هذا هو زمانك يا ماوريسيو.

وعلى أمل أن يُصبح زماني في لحظةٍ ما بعد ذلك، تجسّدت تلك الرحلة بالكامل في ذهني ريثما كنت أقف بمنتهى الهمة لتقديم استقالتي من العمل الذي لا أحب، بعد أعوام من كنس التراب تحت السجاد، لأنني فاشل في كل مهنة غير الكتابة، ولأنني أريد أن أصبح أنا يا أبي، ولأن الأرض لم يزل بها مكان آخر لتحقيق الأحلام.

كانت خطوة محفزةً لساري لخوض غمار التجربة متسلحاً بشيئين فقط: صديقه فرانشيسكو كلسونا، بائع القهوة الذي أغرته كرة القدم، وحزمة من لفافات التبغ لا تتسعُ لها نصف الشُعب الهوائية لسكان كوكب الأرض... مجاز

البورتريه الثاني: "ساريزمو"

للحظة، تصدّر اسم جياني بيريرا، الكاتب الايطالي الشهير، عناوين الصحف العالمية لأسباب لا علاقة لها بكرة القدم، بعدما أكد أن أبناء شعبه لا يليق بهم لعب الكرة الهجومية والممتعة، لأنهم يعانون من نقص البروتين بشكل طبيعي، أي أنهم يولدون بهذا المرض الخبيث ويظل ملازماً لهم طوال حياتهم، وبالتالي فهم أضعف بدنياً من جميع البشر، وليس لهم يد في ذلك.

وبناء عليه فقد أقرَّ بنفسه الطريقة الدفاعية الخائفة والمرتعشة، والمُعتمدة على الدفاع بخطين من اللاعبين لا يبرحون أماكنهم أياً كانت الظروف، كطريقة لعب مثالية للشعب الإيطالي، بدلاً من اللعب في مساحات مفتوحة لا يستطيعون خلالها الركض أو الالتحام.

وأمام براعة تلك الكلمات وصياغتها الأدبية، لم تجد الكرة الإيطالية إلا الانصياع لما يقوله الرجل، لدرجة تأصّلت فيها الفكرة داخل عقول اللاعبين والمدربين، واستمرت خلالها كرة القدم الإيطالية سنوات طويلة في تصدير صورة ذهنية عن نفسها باعتبارها لعبة دفاعية محضة، لا قِبل لها بالهجوم أو الكرة الجميلة والحالمة، أنتجت خلالها أجيالاً متعاقبةً من اللاعبين الخائفين من اتخاذ القرارات الصحيحة، والمنزوين خلف ستار "الكالتيناتشو" و"الغرينتا".

إلى أن ظهر ساري على الساحة، ضارباً بتلك المعتقدات البالية عرض الحائط، ومتمرّداً على هذا الإرث بخلق فلسفة جديدة أطلق عليها النقاد اسم "ساريزمو"، وهي طريقة لعب طوباوية تهدف إلى تحقيق الكمال في جميع مراحل اللعب، من خلال اتخاذ موقف استباقي يبنى على مبدأين أساسيين: حيازة الكرة كشكل أولي من أشكال التكامل، وتحريكها بسرعة وفاعلية عن طريق التمريرات القصيرة الحادة والسريعة.

الأمر الذي يمكن تلخيصه في كلمتين: "الاستحواذ" وما يتبعه من مفاهيم تخص التمرير السريع والضغط الشرس لاسترجاع الكرة، و"الفاعلية" المنحصرة في الوصول إلى مرمى الخصم عن طريق التمريرات السريعة والعمودية، ما سيجعل من الإيطالي علامة جودة خاصة، ويشتهر بين لاعبيه بعد ذلك بلقب "مستر 33"، بعد قيامه بوضع 33 سيناريو لتحركات وتمريرات الفريق بالحالة الهجومية.

لقد ذكر ويلسون من قبل أن اللامنتمي عادةً ما يدرك طبيعة الحياة الاجتماعية، ويختبر بنفسه أنها تقف على أساس واه من الاضطراب والتخبّط والسطحية، لذلك فهو مشغول دائماً بالبحث عن الحرية بمعناها الروحي العميق، أي أنه يريد أن يكون متحرّراً بشكل كامل حتى يتسنى له ممارسة الحياة وفق ضوابطه الخاصة، ولذلك؛ عمل ماوريسيو على معالجة الخلل في منظومة الكرة الإيطالية التقليدية، من داخل السياق الاجتماعي المتأصل في العقول، كذلك تعمد تحسين الاضطراب داخل أروقة الكرة الإيطالية، بنفس الأسلوب الذي قاده سابقاً للتمرّد على عائلته، وعلى مفاهيم مجتمعه البالية، فهل لنا من رجل يتمرّد على مفاهيمنا البالية، علنا نستطيع الفكاك من هذا الغبن المحيط بنا من كل جانب؟

هل نجد ماوريسيو ثائراً، عربي الهوى والهوية، يبعثنا من الرماد مرةً أخرى كما في أسطورة العنقاء الشهيرة؟ لا نعلم، ولكن لأن الأمل هو عدو الإنسان الأول وحبيبه في الوقت ذاته، فها نحن نمني النفس، بما يلي:

"تُهنا وليس أمامنا إلا الوراءُ

أوالتوقفُ والتناذرُ فوق قارعةِ المصيرِ

أوالتوغلُ في مَهَبِّ الخوفِ

تَجلدُنا ذواكُرنا

وتَندهُنا غواياتٌ مُنَفِّرَةٌ

وآونةٌ مُدلَّاةٌ بأبوابِ المدائنِ كالمقاتيلِ".

البورتريه الثالث: دخان

لقد أثبت الإيطالي منذ البداية استعداده للإبحار كما تشتهي نفسه، فلا علاقة له بما تحمله السفينة، ولا تؤثر فيه الرياح إلا شذراً، فيفعل ما يريد، متى يريد، وكما يريد، ولا ينصب تركيزه إلا على شيء واحد فقط: ابتكار جملة تكتيكية تتراقص لها القلوب، و تشرئب لها الأعناق.

تلك الحالة المنمقة من الحرية، ومثلما كانت مفيدة له في أثناء رحلته للبحث عن الذات، والاشتباك مع الواقع، بل والانقضاض عليه بأفكار جديدة وخلَّاقة، كانت أيضاً سبباً رئيسياً في بعض المصاب الذي لحق به مؤخراً، بعدما أصبح شخصية عامة يتهافت عليها المعلنون، فلم يفهم كيف سيتعامل مع هذا التغير الجذري في حياته، وهمَّ سريعاً بإعلان الحرب على الأساليب الرأسمالية الحاكمة لآليات اللعبة.

وإليك سؤال بإمكانه إيضاح تلك الحالة: هل أُقيل ساري من منصبه في تشيلسي بسبب النتائج المُتعثرة؟ قولا واحداً: لا، كما لم يكن السبب هو الارتباك الإداري الواضح في سياسات المالك رومان ابراموفيتش، أو الانفلات الأخلاقي والتكتيكي لبعض اللاعبين، أو بسبب تعنته نفسه إزاء فلسفته وأسلوبه، وكل ما في الأمر أن قوانين الاتحاد الإنجليزي تمنعُ التدخين في الملاعب بكل حزم، وحتى نضع الأمور في نصابها، فسبب الإقالة لم يكن عملية التدخين نفسها، بل ما يرتبط بها من وجود شخصية غير مهندمة، لا ترتدي الزي الرسمي إلا قليلاً، ولا تمتلك جسداً رياضياً مفتول العضلات يُمكن النادي من بيعه كواجهة إعلانية.

ولي أنا شخصياً تجربة مشابهة في هذا الصدد قد تبين لنا بعض الأمور؛ ففي منتصفِ سنوات الجامعة، عرضَ علي أحد الأصدقاء وظيفة مدرب للناشئين في إحدى الأكاديميات، وكانت فرصة العمر بالنسبة لي، لذلك آمنت بها وأقدمتُ عليها بجوارحي رغم انعدام الخبرة، فكنتُ الأصغر سناً والأكثر شغفاً باعتراف الكثيرين من زملائي، لدرجة أن بعض الأفعال العادية، مثل التحضير الجيد للوحدات التدريبية، وعدم الإقدام على أي خطوة ذهنية أو نفسية أو حتى تكتيكية دون دراسة وافية لكل الجوانب وبناءً على دراسات المتخصصين، كانت تثير في نفوس البعض اندهاشاً وإيماناً بأن هذا الشاب لم يأت هنا من أجل اللهو.

وفي ليلة من ليالي ديسمبر المطيرة، تمت إقالتي، هكذا بلا مقدمات، لأن رئيس النادي أمسك بي مُتلبساً بسيجارة أثناء التدريب، فأصدر قراره، بناءً على فرضية مفادها أن أهالي اللاعبين قد لا يثقون في إدارة تسمحُ بهذا الفعل المدمر للصحة علناً أمام الأطفال، وبالتالي ستقل المداخيل والإعلانات.

كنت أقف بمنتهى الهمة لتقديم استقالتي من العمل الذي لا أحب، بعد أعوام من كنس التراب تحت السجاد، لأنني فاشل في كل مهنة غير الكتابة، ولأنني أريد أن أصبح أنا يا أبي، ولأن الأرض لم يزل بها مكان آخر لتحقيق الأحلام... مجاز

لم أحزن، لأنها كانت النهاية المنطقية الوحيدة لتلك القصة، فأنا لم أكن أهلاً لتلك الوظيفة من البداية نظراً لانعدام الخبرة والدراسة والتجربة، ولكني شعُرت بفخر شديد كذلك، لأن أسباب إقالتي كانت تتماس مع أسباب إقالة ساري، ورغم مقتي لتلك الأساليب الرأسمالية التي لا تنظر حقاً للصحة العامة، بل تحولنا إلى سلعة تباع وتشترى، وتجعل من الكفة راجحةً للمُعلنين والإعلانات ولو على حساب المتعة الشخصية، وجعلت من الجميع قابلاً للبيع حتى شخصية الإنسان وصورته، لكنني احترمتها في تلك اللحظة، لأنها جعلتنا، أنا وساري، متساويين في الإقالة، رغم اختلاف الظروف.

حيث كان على تشيلسي أن يقيل ساري من منصبه رغم أنه رجل متحقق صاحب نجاحات ضخمة لأنه لم يكن على القدر التسويقي للفريق الأزرق، ولأنه يتصرف بعفوية تجعله يقطع فلتر السيجارة واضعاً إياه في فمه طوال المباراة باعتباره جزءاً منه ومن شخصيته، وهذا ما لا يرضي المعلنين والاتحاد الإنجليزي، لماذا؟ لأن اللامنتمي نادراً ما يعبأ بما يمليه عليه الكون من أساليب للعيش، ولا يتمسك إلا بما يريد فعله في اللحظة الحالية فقط، حتى وإن جار هذا على حياته الباقية.

"لكننى منذ انزوَى التاريخُ

منذ فقدتُ ذاكرتي وخاصمتُ السماءَ

تَشُلَّ أحلامي خرافاتي

وألفُ إجابةٍ خطأٍ لأسئلةِ خطايا

لا تُغادرُني

تحاصرني

تُطِلُّ عَلَىَّ من رَوعِ المرايا

هارباً أجتازُ أرصفةَ السنينَ

مُشَرَّداً عيني عليكِ

تَشُدُّني ترحيلةٌ

وتَرُدُّني تغريبةٌ

أبَداً لنفْس الشارع المسدود من جهتيه

إلَّا شهقةً بالكاد تَكفِى

كي أقول لصاحبي: تُهنا"

خروج

وهكذا يا سادة، نظرتُ إلى رحلتي كاملة، وظلت تقاطيع وجه ساري تطاردني: من الوظيفة المستقرة، إلى البحث عن الذات من خلال الكتابة وكرة القدم، من ليلة المرض الباردة تلك وحتى وقتنا هذا، وأنا جالس على مكتبي المتواضع أخط تلك الكلمات بمنتهى الجدية، يتبقى فقط شيء أخير: لقد اتخذت قراراً واعياً بالإقلاع عن التدخين فجأة، بعد أن استيقظت من النوم في ليلة باردةٍ كسابقتها، لأكتشف بالصدفة البحتة أن ساري مصابٌ بالالتهاب الرئوي، وعلى شفا إقالة أخرى من يوفنتوس، وساعتها فقط؛ تأكدت أن الحياة أقسى من أن يقف أمامها محض دخان متطاير.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image