في نهاية مثالية، استفاد ملك الهند دبشليم من فلسفة الحكيم بيدبا، فرجع عن استبداده، واختاره وزيراً له، فجلس بيدبا في "مجلس العدل والإنصاف، يأخذ للدني من الشريف، ويساوي بين القوي والضعيف، وردَّ المظالم، ووضعَ سننَ العدل، وأكثر من العطاء والبذل"، ثم "تفرّغ لوضع كتب السياسة ونشط لها، فعمل كتباً كثيرةً، فيها دقائق الحيَل. ومضى الملك على ما رسم له بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية"؛ وفقاً لما ذكره عبد الله بن المقفع، في مقدمة كتابه الذي ترجمه عن الفارسية القديمة (الفَهلَوية) إلى العربية بعنوان "كليلة ودمنة".
نجاح سيرة بيدبا داعب طموحاتِ ابن المقفع (ت 142هـ)، وربما هو من خلق سيرته فنياً في "كليلة ودمنة"، لو صحت نسبة تأليف الكتاب إليه، لتكون نموذجاً إصلاحياً فعلياً أمام الأدباء والمفكرين والعلماء. وعلى نهجها سار ابن المقفع، فجاءت كتابته في أبواب الوعظ الخلقي، للفرد وللجماعة، وبصورة خاصة للسلطان وللحكام والأمراء، إذ إن عقليته ركزت دائماً على الإصلاح، إصلاح الفرد لذاته بتتبع الحكم والمواعظ الحسنة والأخلاق النبيلة، وإصلاح السلطة بتوجيه النصح المباشر إليها حيناً بما يجب أن تفعله كي تصون نفسها وكي تخدم الرعية، وحيناً آخر بتوجيه التقريع والإدانة في صورة التلميح عبر قصص وخرافات جرت على ألسنة الحيوانات والطيور.
متفائلاً بنجاح الحكيم بيدبا، ومعوّلاً على دور الحكمة في تقييد الظلم واستعادة العدل، مضى ابن المقفع في حياته مقترباً من ذوي السلطة، رافعاً شعار الإصلاح، فانتهى به المصير إلى نهاية بشعة، ليتأكد له في النهاية أن خيال الأدباء والمفكرين حول تحقيق العدل في مؤلفاتهم ليس سهلاً أو ممكناً في الواقع.
اخترع المعاني وابتدع السِّيَر
وُلد ابن المقفع لعائلة فارسية، واسمه برزويه بن داذويه. رحل مع أبيه إلى البصرة، العامرة بالعلماء والبلغاء، ونشأ على ديانة أبيه، وعمل كاتباً لداود بن يزيد بن هبيرة، وكان يزيد أميراً على العراق في عهد الأمويين، فلما تولى الحكمَ العباسيون، قُتل يزيد وابنه داود ومن كان معهما، ولم يكن ابن المقفع حينئذٍ لامعاً.
مضى ابن المقفع في حياته مقترباً من ذوي السلطة، رافعاً شعار الإصلاح، فانتهى به المصير إلى نهاية بشعة، ليتأكد له في النهاية أن خيال الأدباء والمفكرين حول تحقيق العدل في مؤلفاتهم ليس سهلاً أو ممكناً في الواقع
في عهد العباسيين، عمل كاتباً لعيسى بن علي، عم أبي جعفر المنصور (ت 158 هـ)، وأسلم على يديه، وأصبح اسمه عبد الله، ولُقّب بابن المقفع لأسباب منها أن أباه كان عاملاً في الخراج، فأخذ منه مالاً، فضربه الحجاج الثقفي (ت 95 هـ)، فتقفعت يداه أي تيبّست، ويبدو أنها قصة مختلقة لما في المصادر من إشادة بالغة بأخلاق أبيه، ويرجح البعض أنه نسبةً إلى صنعة أبيه "لأن أباه كان يعمل القفاع ويبيعها"؛ وفقاً لابن خلّكان في "وفيات الأعيان".
تعلّم ابن المقفع العربيةَ وبرع فيها، ووصفه عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ)، بأنه "كان مقدماً في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السيَر، وكان جواداً فارساً جميلاً". وبرغم إشادته به، إلا أن الجاحظ انتقده في علم الكلام، بأنه "لم يكن يحسن منه لا قليلاً ولا كثيراً، وكان ضابطاً لحكايات المقالات"، ضارباً المثل برسالة الصحابة المسماة "الهاشمية": "تجده جيدَ الحكاية لدعوى القوم، ردي المدخل في مواضع الطعن عليهم"؛ أي أنه ماهر في نقل آراء المتكلمين، لكنه لا يحسن الردّ عليها، وذلك وفقاً لكتاب "رسائل الجاحظ"، تحقيق عبد السلام هارون.
"لم يكن أكثر من مستشرق يحسن اللغة العربية والفارسية"؛ هكذا رآه طه حسين، إلى جانب أن "حظه كان عظيماً من الثقافة اليونانية، فهو أول من ترجم كثيراً من كتب أرسطو في المنطق والجدل والقياس والمقولات". أما جودته في العربية فهو "لم يكن عظيمَ الحظّ من الفصاحة والنحو العربي". محدداً المَواطنَ الأكثر ضعفاً في لغته، كما ذكر أن "له عبارات من أجود ما تقرأ في العربية، وبنوع خاص في الأدب الكبير، وفي كليلة ودمنة، ولكنه عندما يتناول المعاني الضيقة التي تحتاج إلى الدقة في التعبير يضعف فيكلف نفسه مشقّةً، ويكلّف اللغة مشقّةً، فلاحظ الأصمعي أنه كان يلحن فيضيف 'أل' إلى كل وبعض، وأخذ عليه الجاحظ أنه لم يكن يحسن كل ما يحاوله من الفنون"، وفقاً لكتابه "حديث النثر والشعر".
وبحسب عمر فروخ في دراسة بعنوان "عبد الله بن المقفع وكتاب كليلة ودمنة"، فإنه "إذا اعتبرنا الآثار الباقية من تأليفه، وضح لنا طابعه الشخصي أتمَّ الوضوح، ورأينا فيه رجلاً حسن العقل لا شك في ذلك، حسن الخلق إلى مدى بعيد"، إذ ترك ابن المقفع مجموعةً من الكتب في الأخلاق والإصلاح بقي منها: "كليلة ودمنة"، "الأدب الكبير"، "الأدب الصغير"، "رسالة الصحابة"، "الدرة اليتيمة"، وآثار أخرى مفقودة.
الهروب إلى الرمز والخرافة
خلافاً للشائع، فإن البحث الحديث لفت إلى احتمال تأليف ابن المقفع لكتاب "كليلة ودمنة"، وليس ترجمته من الفهلوية إلى العربية، كما هو مشهور وأقرّ به ابن المقفع نفسه.
في دراسته المشار إليها، عرض عمر فروخ لهذه الآراء، إذ دفعت الأجواء العربية في الكتاب لأن يرى البعض أنه "نشأ في بيئة إسلامية خالصة"، وأن دبشليم وبيدبا "أعلام منسوبة إلى زمن لم تكن فيه، وأمكنة لا تعرفها"، وأن كراهية ابن المقفع لأبي جعفر المنصور، ورغبة عصره في الكتب المنقولة "حملاه على أن ينحل كتاب كليلة ودمنة لبيدبا الفيلسوف الهندي، وأن يقول إنه نقله من اللسان الفهلوي إلى اللسان العربي".
رأي ثانٍ أورده فروخ، استبعد أن يكون الكتاب مؤلفاً مستقلاً لابن المقفع، لكنه "استقى القصص من الأدب الفارسي والهندي، ثم ساقها سياقاً هو أوجده، واستخلص منها العبَر التر يريدها هو، وأضاف إليها وحذف منها"، أي أنه "استقى روح الكتاب من مصدر أجنبي ثم صاغه صياغةً عربيةً تلائم البيئة العربية". وانتهى فروخ إلى أن الكتاب "موضوع في لغته وأسلوبه ونسقه، على أساس فكرة عامة، وقصص كان بعضها شائعاً في جميع أنحاء المشرق من فارس إلى الهند إلى اليابان".
أنت زنديق وقد أفسدت الناس
دخل ابن المقفع دار سفيان بن معاوية المهلبي (ت 169 هـ)، أمير البصرة، ولم يخرج، وقيل قتله سفيان بصورة بشعة، قائلاً: "ليس عليَّ في المثلة بك حرج، لأنك زنديق وقد أفسدت الناس"، كما ذكر ابن خلكان في "وفيات الأعيان". وبرغم عدّ سفيان الزندقةَ سبباً للتمثيل به، فإن المصادر التاريخية والدراسات الحديثة استبعدت أن تكون الزندقة السبب الحقيقي للتخلص منه.
خلافاً للشائع، لفت البحث الحديث إلى احتمال تأليف ابن المقفع لكتاب "كليلة ودمنة"، وليس ترجمته من الفارسية القديمة إلى العربية، كما هو مشهور وأقرّ به ابن المقفع نفسه.
مُشيراً إلى حسد الخصوم، رجَّح محمد كرد علي، في كتابه "رسائل البلغاء"، أن ذلك قد يكون سبباً في رميه بالزندقة، وهي (أي تهمة الزندقة) باطلة لأن "كلام ابن المقفع في الدين يدلُّ على شدة تَمَسُّكه وفرط ميله"؛ وهذه التهمة في نظر كرد علي مناسبة للقضاء على الخصوم، فمثلاً "معارضة القرآن أكثر ما تُنسب للزنادقة المشهورين بالأدب، وأفضل من يشيع ذلك أناسٌ يقصدون إهلاك عدوّهم بأي وسيلة كانت".
رافضاً التهمة أيضاً، ذكر عمر فروخ أنه "يكفي أن يتساءل الإنسان عن الغاية من فرض ديني حتى يُرمى بالزندقة"، ولكن "السبب الحقيقي إذن لمقتل ابن المقفع كالسبب الحقيقي لنكبة البرامكة أو لمصرع أبي مسلم (الخُراساني)، لا يمكن أن يكون واحداً بل يجب أن يكون مجموعةً من الأسباب السياسية أُلبست ثوباً دينياً من الزندقة أو غير الزندقة".
قدر مؤسف بين كتاب الأمان ورسالة الصحابة
طلب عيسى بن علي وأخوه سليمان من ابن المقفع كتابةَ رسالةِ أمان لأخيهما عبد الله الذي خرج على المنصور في الشام، وهُزِم وهرب، وذلك بطلب من الخليفة، فكتب ابن المقفع كتاباً قال فيه: "ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله، فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته"، وفقاً لابن الجوزي في كتابه "المنتظم"، فاشتد ذلك على المنصور، فأمر سفيان المهلبي بقتله، فأحبّ الأخير هذا لأن ابن المقفع "كان ينال من سفيان ويستخفّ به حتى عزم على أن يغتاله"، كما ذكر كرد علي في "رسائل البلغاء".
وبالعودة إلى ابن الجوزي في "المنتظم"، فقد "خاصم سليمان وعيسى ابْنا عَليّ، سفيانَ بْن معاوية المهلبي وأشخَصاه إلى المنصور، وقامت البينة العادلة بأن ابن المقفع دخل دار سفيان سليماً ولم يخرج منها". وهنا وقعت محاكمة مقتضبة كان القاضي فيها المنصور نفسه الذي قال لعمّيه ولشهودهما: "أرأيتم إن قتلت سفيان به؟ ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت، وأشار إلى بابٍ خلفه، وخاطبهم: ما تروني صانعاً بكم، أأقتُلكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قتله كان برضا المنصور"، وفقاً لكتاب "رسائل البلغاء".
رفض عمر فروخ أن تكون رسالة الأمان سبباً، لأن "الأمان هذا لا يُرسل إلا بعد أن يطّلع عليه الخليفة ويوقّعه"؛ عارضاً لأسباب أخرى منها أنه "كان يسعى لقلب الدولة العباسية مع بعض الفرس لنقل الخلافة إلى العلويين. وقيل إن ابن المقفع عرَّض بالمنصور في كتابه كليلة ودمنة". أما طه حسين فقد رفض روايات كتاب الأمان، وذكر أن "لابن المقفع رسالةً أخشى أن تكون هي التي قتلته؛ لأنها توشك أن تكون برنامج ثورة، وهي موجهة إلى المنصور؛ لأن فيها ذكراً لأبي العباس السفاح إذ يقول فيها: وقد كان أبو العباس رحمه الله. ونحن نعلم أن ابن المقفع مات أيام المنصور، ونحن نعلم أنه كان كاتباً لعيسى أخي عبد الله بن علي الذي ثار على المنصور، وكلفه ضروباً من المشقّة".
رددت المصادر التاريخية روايات حول مقتل ابن المقفّع، مثل أنه "ألقي في بئر وردمت عليه الحجارة، وقيل أُدخل حماماً وأغلق عليه بابه، فاختنق، وقيل بل قطعت أطرافه عضواً عضواً، ثم ألقي في تنور وأطبق عليه"
ولم تكن رسالة الصحابة عاديةً، بل كانت توجيهات وإصلاحات خاطب بها الخليفة المنصور؛ منها مثلاً أنه طالبه بوضع قانون موحد وملزم للقضاة، للخروج من الاضطراب والتناقض في الأحكام الفقهية، وضرورة مراقبة المجالس العامة والأندية والأسواق بهدف التأديب والإصلاح.
أُحيط به فانتحر
رددت المصادر التاريخية روايات حول مقتله؛ مثل أنه "ألقي في بئر وردمت عليه الحجارة، وقيل أُدخل حماماً وأغلق عليه بابه، فاختنق، وقيل بل قطعت أطرافه عضواً عضواً، ثم ألقي في تنور وأطبق عليه"، وفقاً لمقدمة فيكتور الكِك لمسرحيته "ابن المقفع، أديب العقل".
بعيداً عن هذه الروايات، ذهب فيكتور الكك إلى أنه لما أُحيط بابن المقفع من قبل الجند انتحر، وذكر في مقدمته المشار إليها: "وقد وقفت على مصدر عربي في مكتبة للمخطوطات بطهران قرأت فيه قولاً لمؤلفه يتعلق بموت ابن المقفع، وهو قول بالغ الأهمية جدير بالتأمل مفاده أن سفيان بن معاوية لما ظفر بابن المقفع وأراد حمله إلى المنصور قتل نفسه، وقال بعضهم إنه شرب سمّاً، وقال بعضهم إنه خنق نفسه".
استند الكك في رأيه إلى رواية في كتاب "المقالات والفرق"، لمؤلفه سعد بن عبد الله أبي خلف الأشعري (ت 301 هـ)، وشرح الكك: "قدم عهد كتاب المقالات والفرق يضفي على مقالته قوةً ويزيد فيها ثقةً لأنه يسوق الرواية بلهجة غير مشككة، وسائر المصادر التي جرى الحديث فيها على مقتل ابن المقفع متأخرة عنه زمناً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا