حكايات الحيوان والقصص الرمزية وروايات الخيال العلمي من تراث الفكر السياسي
يفاجئنا كتاب "تراث الإنسان ألف عام من الفكر السياسي" لإبراهيم العريس بكم الأعمال الأدبية التي تشكل جزءاً من الوعي السياسي الإنساني. فمن بين 92 كتاباً يختارها المؤلف لتشكل إرث الفكر السياسي الإنساني عبر مراحله المتنوعة، يظهر 24 عملاً أدبياً، معظمها في مجال الرواية والقصة، ويظهر نوع رواية الخيال العلمي الأكثر توظيفاً من قبل الكتاب للتعبير عن هواجس ومخاوف الرواية السياسية في انتقاد الوضع الراهن والمستقبل الديستوبي.
ويظهر أسلوب الحكاية الرمزية كالأسلوب الأساسي الذي تتبعه الرواية السياسية بغاية التعبير عن الواقع. يستعرض النص لمختارات من الروايات العالمية التي ضمنها الناقد إبراهيم العريس في كتابه عن الفكر السياسي، وتقدم مقاربات لها من أعمال أدبية في الرواية السياسية العربية.
الحيوانات في انتقاد السلطة عبر التاريخ
يتربع كتاب"كليلة ودمنة" على عرش الأعمال الأدبية التي تشكل جزءاً من موروث الفكر السياسي الإنساني، وضعه الفيلسوف الهندي "بيديا"، لكن نسخته الأشهر عرفت في القرن الثاني الهجري أي الثامن الميلادي، على يد "ابن المقفع".
أسلوب التأليف يلجأ إلى الترميز عبر حكايات الحيوانات خوفاً من العقاب، وهنا يقول عنه محمد عابد الجابري: "هناك بعض القصص تدعو إلى طاعة السلطان، وأخرى تنبه من صحبته وميله إلى الطغيان. تضع القصص قواعد وأخلاقيات الحكم على ألسنة الحيوانات، بطلاها كليلة ودمنة من فصيلة ابن آوى، وأشهر شخصياتها الملك الأسد، وخادمه الثور، والحمار. وتبتدأ كل الحكايات بما يقوله الملك دبشليم وهو صورة رمزية عن الفيلسوف بيديا مؤلف الكتاب".
يتربع كتاب"كليلة ودمنة" على عرش الأعمال الأدبية التي تشكل جزءاً من موروث الفكر السياسي الإنساني، وضعه الفيلسوف الهندي "بيديا"، لكن نسخته الأشهر عرفت في القرن الثاني الهجري أي الثامن الميلادي، على يد "ابن المقفع"
القصص التي يتضمنها الكتاب والتي اشتهرت على مر التاريخ، تحمل في مضامينها وتحليلاتها أبعاداً تأويلية أخلاقية، تقارب أسلوب الأمثولة الشعبية أو الحكمة القصصية كل ذلك عبر شخصية الحيوانات. كان الأصل الهندي يتضمن 5 حكايات، ولكنها مع إضافات وترجمات ابن المقفع وصلت إلى 71 فصلاً، ومن أبرز القصص التي أضافها ابن المقفع هي قصة محاكمة دمنة الذي يزرع الشقاق دوماً بين الحيوانات.
في الأدب الحديث، وفي عام 1945، وظف الكاتب جورج أورويل التقنية نفسها في روايته المرجعية في مجال الرواية السياسية، وهي "مزرعة الحيوان". كتبها ضد النظام الستاليني ونمطه السوفياتي الشمولي، ويقول الكاتب بأنه سعى جاهداً في هذه الرواية أن يدمج الجانب الفني والجانب السياسي، أما هدفه السياسي فهو إزاحة الخرافة السوفياتية عن أصول الاشتراكية.
وتنطلق حكايتها حين ينسى المستر جونز صاحب المزرعة باب الحظيرة مفتوحاً، فيجتمع الحيوانات أمام خطبة الخنزير الحكيم "ماجور" الذي يقول بألا حيوان ينعم بالحرية في ظل سيادة الإنسان، وتظهر الحيوانات مستغلة كما هي طبقة البروليتاريا والفقراء، فالحظيرة في هذه الرواية ترمز إلى المجتمع، ويقود الخنزيران نابليون وسيزار ثوة عاتية، بعد انتصارها يأتي السؤال عن قدرة الحيوانات على تنظيم العمل، وتقع الثورة ضحية صراع النفوذ بين نابليون وسيزار، وينتصر نابليون حين يتهم كل تابعي سيزار بالعمالة إلى بني البشر، ويحاكم أتباع سيزار ليؤسس نظام رعب كما هو الحكم الحزبي الاستخباراتي، يقوم على غسل الأدمغة ونسيان المبادئ الأخلاقية، لتنتهي ثورة الحيوانات إلى نظام شمولي.
وفي هذا إشارة إلى تحول الثورة السوفياتية إلى النظام الشمولي القمعي الذي كان قد بدأ بالتخلص من أصحاب الثورة الأوائل كالتروتسكيين، لتنتهي الرواية بينما يردد الحيكم ماجور بأن: "جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها".
ومن أبرز شخصيات الرواية ابن آوى (سكويلر) الإعلامي والبوق الذي يبرر كل أفعال الحاكم (نابليون) وسلوكيات نظامه، والآخر (مينيميس) الذي يكتب النشيد الوطني الثاني والثالث لمزرعة الحيوان، ويذكر أن أورويل ابتكر هاتين الشخصيتين للإشارة إلى نفوذ ستالين في الاعلام السوفيتي والبريطاني على السواء.
القصيدة والرواية السياسية... الأجيال ضحية التطويع الديني، والقيم المفروضة
في عام 1896، كتب مارسيل شووب قصيدة شعرية بعنوان "حملة الأطفال الصليبية" التي يمكن تصنيفها من أبرز الروايات السياسية في تلك المرحلة، حيث تناولت الحملات الصليبية التي جند فيها الأطفال من قبل الكنيسة وآلت سفنها إلى الغرق وفرق الضحايا من الأطفال، وهي تعتبر عمل شعري أدبي ينتقد التجنيد الذي قامت به الكنيسة لوعي الطفولة واستغلالها في غايات الحروب وصراع النفوذ.
انطلق شووب في نصه، من الحملتين الحقيقيتين اللتين حاول القيام بهما رهبان ومحرضون استخدموا فيهما أعداداً كبيرة من أطفال مسيحيين أوروبيين خلال القرن الثالث عشر. ومن المعروف تاريخياً أن أولى الحملتين انطلقت من فرنسا، لتنتهي بكارثة عند مرسيليا، فيما يذكر لنا التاريخ أن الحملة الثانية انطلقت من مدينة جنوى الإيطالية منطلقة صوب الشرق.
يكتب إبراهيم العريس: "كان الأطفال مفعمون بروح الأمل بالقتال الذي جيرتهم عليه الحملات الكنسية وهكذا يبدأ الكاتب بنداءات غيبية تنادي أطفال واحدة من مدن الفلاندر، في عام 1212، بأن يفيقوا ويتوجهوا إلى الديار المقدسة. وهكذا يفيق الأطفال ويتجمعون آتين من كل حدب وصوب متعرفين إلى بعضهم بعضاً، إذ ارتدى كل واحد منهم مسوح الرهبان الحجيج وتقلد صليبه وغطى نظراته بإيمان عميق. وفيما يركض الأهل حزانى يائسين خلف أطفالهم محاولين ثنيهم عما يريدون فعله، لا يأبه الأطفال بتضرعات الأهل، يحمّسهم على ذلك "رهبان قساة" - وفق وصف شووب البديع - لا يهزهم نحيب هؤلاء الأهل، ولا تردعهم أية رحمة أو شفقة عن إيراد الطفولة موارد هلاك محتم". القصيدة الشعرية رؤية إنسانية ناقدة تتساءل عن جدوى الحروب، وحول حقيقة أبعادها الدينية.
وإذا كان مارسيل شووب قد استعمل أجيال الأطفال لأجل انتقاد الحملات الصليبية، فإن نجيب محفوظ استعمل أجيال الأطفال في رواية "أولاد حارتنا" (1959) لانتقاد نظام القيم التقليدية، والسلطة الدينية والسياسية. ويمكن بوضوح تصنيف هذه الرواية من أكثر الروايات العربية أهميةً على مستوى الرواية السياسية، وقد تعرض كاتبها للطعن والاعتداء من قبل القوى الدينية المتطرفة في مصر.
لا تقتصر الرواية السياسية على نقل وجهات نظر وآراء المعارضين للحكومات والأنظمة، بل هي أيضاً يمكن أن توظف في البروباغندا والدعائية السياسية تحت طلب الأنظمة.
وستيهم الكاتب بأنه ابتكر شخصية "الجبلاوي" باعتبارها ترميزاً للذات الإلهية، يكتب الناقد علي يوسف: "سيعلم أن الجبلاوي ترميز للذات الإلهية، فيما يرمز البيت الكبير للسماء والأرض، الحارة هي العالم أو الكون، أدهم هو آدم عليه السلام، إدريس هو إبليس، جبل هو موسى عليه السلام، رفاعة هو عيسى عليه السلام، كما أن معظم الأحداث مستقاة من قصص الأنبياء عليهم السلام، لتصل الصدمة إلى ذروتها مع وفاة الجبلاوي نفسه!".
تمثل الحارة في الرواية المجتمع برمته، ذلك النوع من المجتمع المحكوم بالملكية والقوة والفساد، تتعاقب فيه الأجيال والمالك الجبلاوي غائب عن الرعية، ينوب عنه الناظر الفاسد مع تعاقب الأجيال ينتشر الفساد في المجتمع بسبب ظلم الناظر ومساعدة الفتوات له، ولما كان الحق والباطل في صراع دائم على مدى العصور تظهر شخصيات من المجتمع تحاول إعادة التوازن والعدل إلى الحارة. فالشخصيات الروائية تكرر الفئات الاجتماعية القائمة على أساس حكم السلطة والقوة.
يكتب علي يوسف عن تأويل الرواية: "الفكرة الجوهرية للرواية احتكار السلطة من قبل فئة قليلة وفساد المجتمع بسببها، حيث إن شخصيات الرواية ما تزال تتكرر في عصرنا الحالي الناظر يمثل الحاكم؛ والفتوة الجهاز الأمني والإعلامي؛ والمصلح رجال الفكر والنشطاء الاجتماعيين، والشعب مازال على حاله سواءً في وقتنا الحاضر أو حسبما صوره الأديب؛ شغله الشاغل حياة تسودها الاستقرار وتوفر مقومات العيش الضرورية والرفاهية التي تضفي الجمالية على واقعه. بهذه الأساليب نجح الناظر/الحاكم إخضاع الشعوب، بعضها استسلم لقوة السوط الذي يحمله الفتوات/الجهاز الأمني، وشعوب أخرى ما تزال تحت تأثير الدعاية الواهية التي تقدس الحاكم على الرغم من قباحة أفعاله، بينما المصلح أمثال جبل ورفاعة وقاسم لم يعد له بريق مؤثر فالحاكم يسبقه بخطوات عديدة تجعل من قيام المصلح بدوره أمراً صعب التحقيق".
من أبرز الروايات السياسية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، تظهر رواية "خماسية مدن الملح" (1982-1988) كواحدة منها. ويعتبرها الناقد فيصل دراج من الروايات النادرة التي كشفت لغز الجزيرة العربية، يقول: "لقد وصف عبد الرحمن منيف مدن الملح بتلك المدن التي تذوب حين تسقط الأمطار عليها"، وهي كناية عن المدن التي ظهرت في الخليج العربي في إثر الثروة النفطية والتي أطلق عليها مدن الفقاعة ووادي العيون، فجأة، في وسط الصحراء القاسية العنيدة، تنبثق هذه البقعة الخضراء، كأنها سقطت من السماء، وهي تختلف عن كل ما حولها، ليس بينها وبين ما حولها أية صلة، الجب، كيف انفجرت المياه والخضرة في مكان كهذا".
وتنتقد الرواية حكم الشركات التي أتت لاستثمار الذهب الأسود في وادي العيون الذي يخسر فطريته وتراثه إزاء هذا التحول النفطي. وتتألف الرواية من خمسة أجزاء: التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات.
وكما سنرى في رواية "السوريون الأعداء" لاحقاً، فإن الرواية تمشي على مسارين حكائين الأول حكاية الناس وهمومهم، والثاني حكاية لما يدور في أروقة القصور الملكية، وذلك عبر 3 حقب من الملوك: خريبط المؤسس الذي قضى على القبائل المعارضة بمساعدة البريطانيين، ومن ثم ابنه خزعل، الذي سينقلب عليه أخيه الأصغر (فنر) وينفيه إلى آخر حياته خارج البلاد. تحت أرجلنا يا ابن الراشد، بحار من النفط، بحار من الذهب، والخويا جوا ليخرجوا النفط والذهب. أنتم كبار وأعقل أهل وادي العيون، أنتم الحكومة وعندكم العسكر والسلاح، وإيلي تريدونه يصير، ويجوز بعد ما يطالعونكم النصارى الذهب من تحت القاع تصيرون أقوى، لكن اعلم يا طويل العمر أن الأميركان ما يعملون شيس لله.
وتشكل شخصية "متهب الهزال" في الرواية شخصية المعارض المدافع عن القيم والمبادئ الأخلاقية، ومن خلال حكايته تنعكس حكاية التحولات التي يعيشها أهل الوادي من الأصالة إلى حكم الشركات العملاقة: "بمجرد أن رأى هؤلاء العمال بحركتهم اليومية الدائمة، وبالأدوات التي يحملونها، امتلأ احساساً قوياً بالنهاية، وما كادت تلك الآلات المجنونة تبدأ حتى صرخ صرخة حادة موجعة: حسافاً حسافاً يا وادي العيون".
وتمثل موران المدينة التي تعيش التحول في الصحراء من حالة الرخاوة والتأمل إلى أنماط من مدن الأبنية وأشكال معمارية لا حصر لها تنتشر في كل مكان. أما النهاية الروائية للعائلة المالكة، فإن الأب المؤسس خريبط يموت بعد تركيزه الحكم، ومن بعد ينقلب الأخ على أخيه وينفيه خارج البلاد حتى مماته، ويتعرض الملك الأصفر فنر نفسه للاغتيال على يد أحد أفراد العائلة المجهولين. لكن ما يميز قراءة عبد الرحمن منيف للعلاقة بين السلطة والعامة، هو تجسيده في هذه الرواية لحاجة العامة إلى السلطة، فالمتمرد متعب الهزال يخسر في نهاية المطاف، وتنصب موران ملكاً جديداً هو مانع الذي يبدأ بكتابة الدستور ويعلن عن تنفيذ عدد من المشاريع، والعفو عن المساجين، وتنتهي الرواية بالانتظار الذي أرداه منيف تعبيراً عن تخاذل العامة: "وبدأت موران تتنصت وتتلفت وتترقب من جديد".
رواية الخيال العلمي في خدمة البروباغندا والمعارضة
لا تقتصر الرواية السياسية على نقل وجهات نظر وآراء المعارضين للحكومات والأنظمة، بل هي أيضاً يمكن أن توظف في البروباغندا والدعائية السياسية تحت طلب الأنظمة، رواية "آيليتا" (ألكسي تولستوي، 1922) من الروايات التي توظف الخيال العلمي في غاية تكريس قيم الاتحاد السوفياتي في تلك المرحلة، في رواية "آيليتا" شخصيتان رئيسيتان هما المهندس (لوس)، والطيار (غوسييف).
وهذان المغامران المجازفان، يحدث في أول الرواية ان يصلا معا الى كوكب المريخ على متن صاروخ. وهي تعالج التقدم والنظريات العلمية التي كان يقوم بها الاتحاد السوفياتي في تلك المرحلة، يكتب عنها إبراهيم العريس: "الأهمية في البعد الأيديولوجي الذي أسبغه تولستوي على مغامرة بطليه. وهو في ابتكاراته هذه، اثار تنهدات الارتياح لدى قراء ساهمت هذه الرواية في طمأنتهم الى قوة دولتهم ومكانتها المتقدمة. ذلك ان تولستوي عرف كيف يضفي على بعض أهم مزايا وأماكن وسمات الرواية، أبعاداً رمزية.
من أبرز الروايات السياسية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، تظهر رواية "خماسية مدن الملح لعبد الرحمن المنيف كواحدة منها. ويعتبرها الناقد فيصل دراج من الروايات النادرة التي كشفت لغز الجزيرة العربية.
ومن هنا لم يكن صعباً على المتأمل بحذق ان يكتشف ان المريخ في آيليتا ليس سوى الرأسمالية التي افسدتها ممارساتها السوداء الكأداء، وان أهل الأرض هم شبان سوفياتيون مغامرون مبتسمون واثقون من المستقبل المضيء الآتي: "أنهم هنا لينشروا الافكار والكلام الطيب، وليحرّروا كل المضطهدين في هذا الكون الذي نعيش فيه: وهكذا، عبر هذه الإحالات كان من الواضح ان تولستوي حوّل عمله الخيالي كله الى ما يشبه الدعوة السياسية.
بالمقابل، فإن الرواية السياسية العربية وظفت أيضاً الخيال العلمي لغايات الانتقاد والتوعية على الوضع الحضاري العربي المعاصر، ومن أشهرها رواية "2084 حكاية "العربي الأخير" للروائي الجزائري واسيني الأعرج.
صدرت الرواية في العام 2016، وهي من نوع الخيال العلمي الكابوسي، الديستوبيا، والتي تصف واقع حال منطقة أريبيا وهي المنطقة التي ترمز إلى مستقبل العالم العربي وتتحدث الرواية عن اندثار أمة العرب واضمحلال تاريخها: "سكان أريبيا لم يكن لهم حتى حظ تجميعهم وحمايتهم مثل الهنود الحمر، يتآكلون في عزلة الرمل ويأكل بعضهم بعضاً، والمنتصر منهم يموت اليوم عطشاً وجوعاً في أرض امتصت كل شيء، ولم تعد تنجب إلا الموت". فيما يتربص بهم عن قرب سكان قلعة "أميروبا"، التي ترمز للتحالف الأوروبي الأمريكي الذي استنزف ثروات أريبيا، ويمتص دماء أريبيا كيان مزروع في وسطها يدعى "أزاريا" الذي يرمز لإسرائيل.
ويصور عنها موقع الجزيرة: "يصور واسيني المآلات التي أفضى إليها العرب بشكل قاسٍ وصادم، فهم جياع وعطاشى، ومستعدون لقتل بعضهم من أجل شربة ماء، وتعطف عليهم أميروبا بالطعام والشراب لمن يستطيع أن يصل إلى أسوارها، فيركضون إليها منساقين مستجدين، يدوس بعضهم بعضاً في لوحة تصل إلى الحدود القصوى من البؤس والديستوبيا. وينهي واسيني روايته بشكل مفتوح، فلا أحد يعرف مصير العربي الأخير آدم، ولم يقدم الكاتب بصيص أمل لنجاة أريبيا من الموت المحتم، في ظل وجود الكيان الغريب "أزاريا" في قلب أريبيا، ونهبه لمياهها وخيراتها، والتلذذ بقتل سكان أريبيا الواحد تلو الآخر. ويستوحي واسيني هذه الصور المريعة من التاريخ القريب للعرب".
وجاء في الرواية: "الجسد الآرابي كله أصبح حطباً لحروب لا علاقة له بها، لكنه يدفع ثمنها بمزيد من الغرق والتخلف، في أقل من نصف قرن، مات أكثر من مليون من سكان آرابيا، بالقتل الإرهابي على مستوى واسع، أو بسلاح الغرب الجديد الذي يحرق مدناً بأكملها لملاحقة إرهابي واحد. والباقي تقتله الصراعات".
الرواية السياسية في المراوحة بين العامة والسلطة
من الروايات التي يتضمنها كتاب "الفكر السياسي"، رواية "الصليب السابع" (آنا زيغرس، 1942) وهي تتميز بالفئة الاجتماعية التي تعكسها الرواية والتي لا تتوافر عادة في تاريخ الرواية السياسية التي تناولت الفترة النازية. كانت زيغرس تريد دائماً أن تقول، أنه كان هناك ألمان آخرون، بل ألمان كثيرون وقفوا قبل العالم كله ضد النازية. وواقع أن معسكرات الاعتقال النازية إنما امتلأت بالمعارضين والمناضلين الألمان قبل أن تمتلئ بأي فئات أخرى، وبالتحديد قبل أن تمتلئ باليهود ويصبح من الشائع أن هؤلاء هم وحدهم من كانوا ضحية النازية في دعاية عمت العالم كله طوال عقود.
منذ عام 1941، عبرت هذه الرواية التي تصور بدايات صعود النازية، من خلال أناس وقفوا ضد هذه النازية، إنهم سبعة سجناء وكانوا معتقلين في معسكر نازي للاعتقال. وفور هروبهم أطلقت الإنذارات وأقيمت سبعة صلبان لكي يصلبوا عليها، بمعدل صليب لكل سجين. وتتمكن القوات الأمنية بسرعة من القبض على ستة من الهاربين، ويتم صلبهم على الفور من دون رحمة أو شفقة، أما السابع فيظل هارباً. والهارب الناجي جورج كان مناضلاً شيوعياً.
بعدما كان أول الأمر هادئاً مائع الشخصية، لا يكاد يكون مبالياً بما يحدث من حوله، سرعان ما انكشف عد بدء تعذيبه من الجلادين عن صلابة بأس. فلم يعترف بأي شيء وتلاحق الرواية في القسم الثاني هروب جورج وانتقاله من مكان إلى آخر، مطارداً يلحق به الجلادون ورجال الشرطة والنازيون. بطل الصليب السابع على رغم وحدته وقو شخصيته، ليس بكلاً فرداً، بل هو من ذلك النمط من الأشخاص الذين يحولهم النضال، أبطالاً جماعيين يعبرون عن طبقة كاملة هي الطبقة العاملة. حيث سرعان ما تتحرك المقاومة من فردية إلى جماعية وتترك البطولة الأفراد لتصبح بطلوة شعب وطبقة وفئة معينة من الناس.
يمكن أن تعتبر رواية "السوريون الأعداء" (فوزا حداد، 2014) رواية المرحلة السورية السياسية، فهي تبدأ في قسمها الأول مع أحداث عام 1982 في حماه، لتنتقل في قسمها الثاني إلى مجريات الثورة السورية في 2011-2015. كما يمكن أن تنقسم الفئات التي تعكسها الرواية إلى فئتين؛ الفئة الأولى تمثلها عائلة من عامة الناس وهي عائلة الطبيب الذي يعتقل ويمثل الضمير والمعارضة للنظام السياسي، والفئة الثانية هي رجل الأمن الذي ننتقل في دهاليز وتفاصيل عمله الأمني بين أحداث حماه 1982ومن ثم أحداث وسلوكيات النظام الأمني إزاء أحداث الثورة السورية عام 2011.
في الأدب الحديث، وفي عام 1945، كتب جورج أورويل "مزرعة الحيوان" ضد النظام الستاليني ونمطه السوفياتي الشمولي، ويقول الكاتب بأنه سعى جاهداً في هذه الرواية أن يدمج الجانب الفني والجانب السياسي، أما هدفه السياسي فهو إزاحة الخرافة السوفياتية عن أصول الاشتراكية
وبذلك فإن الرواية تعكس حياة المعارضة السياسية على طول الفترة التاريخية التي تغطيها الرواية، وتعكس بالآن عينه وبمسار سردي آخر علاقات أنظمة الأمن السورية في بعضها البعض، وعلاقتها مع رأس السلطة، وتعقيدات الهرمية الداخلية بين أجهزة الدولة الرقابية والأمنية والمخابراتية.
وتتميز الرواية، كما في عدد آخر من روايات فواز حداد مثل "الشاعر وجامع الهوامش"، و"جمهورية الظلام"، بمناقشتها للمفاهيم المركزية التي تقوم عليها الأنظمة الشمولية، كما هو عليه حال النظام السوري، منها مفاهيم الأبد، الخلود، التوريث، السلطة والشعب والبروباغندا، وصناعة العدو وغيرها من المفاهيم التي تتراوح بين الفلسفية والأخلاق السياسية: "أطلق المهندس على أثره حملة التماثيل، بالإيعاز إلى محافظات المدن والقرى تزيين مداخلها وساحاتها بتمثال الرئيس بطل الحرب والسلام. انتشرت الحملة إلى أوسع وأبعد مما قدر لها، بعد سنوات سيبلغ تعدادها الآلاف. المنظمات الشعبية تساعده دون أن تدري أنها تعمل ضمن مخططاته، تجاوزه المحتالون إلى المبادرة لصناعة لوحات نحاسية دق عليها الوضع الجبهي والجانبي لوجه الرئيس".
يقول الكاتب في الرواية: "صورة البلد انكشفت في العمق، كانت ممزقة تتقاسمها اقطاعيات نافذة تسعى للاستيلاء على مل ما يدر مالا، قد تتشابك المصالح وتتناقض، وتشتد المنافسات والخلافات، تحصد ضحايا ضعفاء، أما الأقوياء فآمنون".
من الرواية
تعالج الرواية فكرة العلاقة بين التاريخ والحاكم الخالد، وتتطرق إلى محاولات الأنظمة الشمولية إلى ابتكار العداوة بين المواطنين/ات، كما توقف النقاد عند أسلوب الرواية في كشفها عما يطلق عليه المفكر الطيب تيزيني دولة الفساد والإفساد وذلك من خلال كشف نظام المراقبة والمعاقبة التي تنفذه الأنظمة الشمولية في حق العاملين معها من خلال ترقية ومعاقبة المفسدين في الآن عينه: "يحتاج طلب المقابلة إلى وقت لكي يصل إلى الرئيس، ويوافق عليه، وقد يتأخر ريثما يستدعيه. لن يعتمد على ذاكرة الرئيس، بل على العم صبحي الموظف القديم في القصر، واحد من جهاز سكرتارية الرئيس. تعرف إليه مؤخراً عن طريق صديق لاه، وعده بتمرير الطلب إليه، لكنه قد يتأخر، الرئيس مشغول جداً في هذه الأيام، سيدبر له مقابلة في غضون الشهر المقبل".
ومن خلال شخصية القاضي (سليم الراجي) تتطرق الرواية إلى النظام القضائي في سوريا وكيف تكون العدالة انتقائية وفق مزاج النظام الحاكم. أدرك الأستاذ رشدي أن الملفات التي أسهمنا بها ستكون سيفاً مسلطاً على أصحابها لضمان عبوديتهم: "الآن فهمت لماذا لا يمكن لأي إصلاح أن يحدث". وفي لقاء تلفزيوني معه يتحدث الروائي (فواز حداد) عن اعتبار الرواية مساهمة فنية أدبية عن كشف السردية التي يفرضها النظام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...