عاش منبوذاً مكروهاً، ولم تمنع المطاردة أحمد بن يحيي الراوندي من النقد والتشكيك في الثوابت المؤسسة للإسلام، كاشفاً عن تناقضات حادة داخل الرائج من الأفكار، وأنماط معرفية سلبية تتحكم في طريقة تفكير المسلمين، فبنشاطه التشكيكي المبكر أقلق التراثيين من بعده، لدرجة أن البعض استاء من موته بصورة طبيعية، ونجاته من القتل.
مؤلفاته ضاعت بالكامل، ولم يتبق له سوى أفكار تسربت عبر كتابات خصومه الذين تولوا الرد عليها، أبرزها كتاب "الانتصار" وضعه عبد الرحيم بن محمد الخياط (ت 300 هـ) لتفنيد كتاب "فضيحة المعتزلة" الذي كتبه ابن الراوندي لنقض كتاب "فضيلة المعتزلة" للجاحظ (ت 255 هـ) وكتاب "المجالس المؤيدية" لهبة الله الشيرازي (ت 470 هـ) الذي نقل فقرات كامله عن كتاب "الزمرد" لابن الراوندي.
أفكاره الجريئة والمستفزة ظلت سارية عبر المصادر التاريخية، معلنة عن إبطال دعاوى الأنبياء، ورفض المعجزات، ونقض منطق القرآن الكريم والحديث النبوي، والتشكيك في وجود إله كلي القدرة، وكلي الخيرية، أمام استمرارية معاناة الأبرياء.
تقلباته الفكرية
اتفقت المصادر التاريخية والكلامية على مهاجمة ابن الراوندي، واختلفت في تحديد تاريخي ميلاده ووفاته، لكنه عاش في العصر العباسي، معاصراً للجاحظ، بين عامي (205 هـ و245 هـ) تقريباً، واختلفت في اسمه، "سموه الريوندي والروندي والراوندي هكذا دونما تحقيق ولم يفرقوا بين نسبته إلى ريوند التي كانت من قرى مرو الروذ في خراسان، وبين تلك التي نعرفها من المصادر الجغرافية أعني راوند من قرى أصبهان"، وفقاً لما ذكره المؤرخ العراقي عبد الأمير الأعسم في كتابه "تاريخ ابن الريوندي الملحد"، وفيه انحاز لتسميته بالريوندي.
مضى ابن الراوندي في انتقاداته الصارمة أبعد من أستاذه وصديقه أبي عيسى الورّاق (ت 247 هـ) وإليه ينسب الفضل في كثير من الأفكار الإلحادية والتجديفية التي قال بها ابن الراوندي.
في كتابها "تاريخ الشك" ترجمة عماد شيحة، وصفت الفيلسوفة الأمريكية جينفر مايكل هيكت، الورّاق بأنه "شكاك من غير ريب" وأن "الدور التحريضي والتهكمي الذي أداه مقلقلاً عن عمد".
انضم ابن الراوندي للمعتزلة، وعُرف عنه التفوق في المسائل الكلامية، وذكره أبو القاسم البلخي (ت.319ه) بصفات عظيمة في كتابه "محاسن خراسان"، نقلاً عن كتاب عبد الأمير الأعسم المشار إليه، منها أنه "لم يكن في نظرائه في زمنه أحذق منه بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله"، وما لبث أن خرج عن المعتزلة وهاجم رموزها بقسوة، قيل لأنهم تنكروا لمعرفته وتنصلوا منه.
في كتابها "تاريخ الشك" ترجمة عماد شيحة، وصفت الفيلسوفة الأمريكية جينفر مايكل هيكت، الورّاق بأنه "شكاك من غير ريب" وأن "الدور التحريضي والتهكمي الذي أداه مقلقلاً عن عمد"
صاحب الشيعة، وألف لهم كتاباً في "الإمامة" انحاز فيه لإمامة علي بن أبي طالب، وصاحب اليهود، ومن القصص الطريفة التي نقلتها "هيكت" في كتابها "تاريخ الشك" أنه ألف لليهود كتابا أسماه "البصيرة" للرد على الإسلام، لقاء 400 درهم، وبعدما أخذ المبلغ، فكر في كتابة رد عليه، فأعطوه 100 درهم إضافية ليكف عن الرد.
بلغت مؤلفاته نحو 114 كتابا، مطابقا لعدد سور القرآن الكريم، وكتب في مجالات عدة، منها الفلسفة والكلام والنحو والدين والسياسة والمنطق، وذكرت "جينفر هيكت": "أن هذه الكتب في محتواها ونبرتها تُشكل قطيعة تامة مع الإسلام".
إبطال دعاوى الأنبياء والرسل
نعمة العقل وحدها كفيلة بنسف منطق بعث الأنبياء، استند ابن الراوندي على هذا الأساس وادعى أن جوهر ما أتى به الأنبياء إما موافقا للعقل فلا حاجة له، وإما مخالفا فوجب التنصل منه، وذكر "إن كان الرسول يأتي مؤكدا لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته، إذ قد غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ، وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنوبته"، بحسب الشيرازي في "المجالس المؤيدية".
لم يترك ابن الراوندي المجال أمام خصومه لبيان مدى مخالفة الأنبياء للعقل أو مطابقتها، إذ أقر وفقاً لـ"المجالس" أن "الرسول أتى بما كان منافراً للعقول مثل الصلاة، وغسل الجنابة، ورمي الحجارة، والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، والعَدو بين حجرين لا ينفعان ولا يضران، وهذا كله مما لا يقتضيه عقل، فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبي قبيس وحرى، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت؟".
أما المعجزات التي سماها بالمخاريق فإن "فيها ما يبعد الوصول إلى معرفته، ويدق عن المعارف لدقته، وإن أورد أخبارها بعد ذلك عن شرذمة قليلة يجوز عليها المواطأة في الكذب"؛ وفقا لـ"المجالس"، ويقصد أنها تحتوى على أشياء غامضة، وتحتمل الكذب.
وبحسب "هيكت" في كتابها المشار إليه، فإن البشر ليسوا في حاجة إلى الأنبياء لتعلم العزف مثلا أو صناعة المزاهر، وأنه "وفقا لابن الرواندي نكتشف ذلك كله من خلال العقل الطبيعي الدراسة والملاحظة والتجربة والخطأ، نستطيع معرفة العالم بأنفسنا".
ملاحظاته في نقض القرآن
في مسألة القرآن، وثق الشيرازي ملاحظاته، ومنها أنه تساءل: "هب أن باع فصاحته طالت على العرب، فما حكمه على العجم الذين لا يعرفون اللسان، وما حجته عليهم؟". وحول بلاغة القرآن، أكدت هيكت أن رأيه مفاده "القرآن ليس بديعاً بأي حال"، وأنه "يذكر أموراً متعارضة ومنافية للعقل، وأنه لا يثير بخاصة إعجاب غير المسلمين".
داخل المتن القرآني، اعتبر ابن الراوندي أن الدفع بتكذيب اليهود والمسيحيين في قضية قتل المسيح نوع من "المباهتة والمكابرة"، بحسب الشيرازي، الذي ساق رأي ابن الراوندي بأن "النبي دفع في وجه ملتين عظيمتين متساويتين، اتفقا على صحة قتل المسيح وصلبه، فكذبهما، وإن كان سائغاً أن يبطل ذلك الجمهور العظيم المتكاثر العدد وينسبها إلى الإفك والزور، كان رد الشرذمة القليلة من نقلة هذه الأخبار عنه أمكن وأجوز".
وبحسب هيكت، يتلخص رأي ابن الراوندي في "إن كنت لا تسطيع الاعتماد على جمهور اليهود والمسيحيين كثير العدد بتأكيد الحقائق فلماذا يجب علينا تصديق حفنة من أتباع محمد نقلت لنا المأثور الإسلامي".
نزول الملائكة للقتال في صفوف المسلمين في معركة بدر (عام2 هـ) كانت محل تهكم بالغ من ابن الراوندي، ساخراً: "إن الملائكة الذين أنزلهم الله تعالى في يوم بدر لنصرة النبي بزعمكم كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطشة على كثرة عددهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين فلم يقدروا على أن يقتلوا زيادة على سبعين رجلاً"، وعن دورهم أثناء الهزيمة في معركة أحد (عام3 هـ) تساءل: "أين كانت الملائكة في يوم أحد لما توارى النبي ما بين القتلى فزعاً؟"، كما ذكره "المجالس المؤيدية".
صورته الشائعة في المصادر التراثية
أفكاره الصدامية ضد الإسلام لم يتحملها أحد، ورددت المصادر التراثية لعنه ووصفه بأبشع الصفات كالخبيث والملحد والزنديق، وروت عنه قصصاً عجيبة.
في صدارة التراثيين، أشاد ابن الخياط مؤلف "الانتصار" بتخلص المعتزلة من ابن الراوندي، وذكر أنه "لولا طهارة المعتزلة وبراءتها من الأدناس، لقد كان عرضها هذا الخبيث عند إظهاره هذا المذهب ولكن الله أظهر براءتها منه، فكانت هي أشد الناس عليه حتى لقد هجره أكثرها فبقى طريدا وحيدا".
مُشككا في عقله، رأى الشيرازي، صاحب "المجالس المؤيدية"، أن "مصيبته بعقله أعظم من مصيبته بدينه"، ورغم مرور أكثر من قرنين على رحيله حكم الشيرازي بأن ما جاء به "نتيجته في الحياة الذل والقتل، وفي الممات الخزي واللعن".
"معتمد الملاحدة والزنادقة"، هكذا نعته أبو الفرج ابن الجوزي (ت.597ه) وذكره في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" حتى "يُعرف قدر كفره"، وروى عنه قصة عجيبة، وهي أن أباه كان يهودياً وأسلم هو، فـ"كان بعض اليهود يقول للمسلمين: لا يفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة"، ومفادها أن بعض اليهود اعترف بفساد التوراة وقدّم النصيحة للمسلمين خوفاً على القرآن، وهو أمر عجيب، في حين أن ابن الراوندي علّم اليهود ونصحهم "قولوا عن موسى أنه قال لا نبي بعدي"، بحسب رواية ابن الجوزي نفسه في "المنتظم".
صورته في الكتابات الحديثة
خلافا للكتابات التي أعجبت بجرأته، حاز ابن الراوندي على تقدير البعض الذي التفت إلى جوانبه الإيجابية، مثل امتداحه العقلانية، وطاقاته المنهجية على نقد الأفكار وتفكيكها.
في كتابه "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" تحدث زكي نجيب محمود عن أثر ابن الراوندي، فذكر أنه "أصبح هدفاً لفاعلية فكرية امتدت بعده لأكثر من مائة عام".
"الاعتماد العنيد على التفسيرات المادية وقدرة البشر"؛ كانت محل إعجاب "هيكت"، لأنه قلّص مساحة الغيبيات، وأعطى للإنسان حقه في اكتشاف الأشياء، وأكد على أننا "نكتشف ذلك كله من خلال العقل الطبيعي، الدراسة والملاحظة والتجربة والخطأ، نستطيع معرفة العالم بأنفسنا"، إضافة إلى أن رفضه لمعجزات الأنبياء لأنه رآها نوعا من "شعوذة استخدمت الحيل وخفة اليد لخداع الجمهور"، هذا الرفض كان مصحوبا بـ"مديح مفرح للعقلانية"؛ وفقاً لـهيكت في "تاريخ الشك".
أفكاره الصدامية ضد الإسلام لم يتحملها أحد، ورددت المصادر التراثية لعنه ووصفه بأبشع الصفات كالخبيث والملحد والزنديق، وروت عنه قصصاً عجيبة
احتل مكانة رفيعة عند عبدالأمير الأعسم، الذي وصفه بـ"المستنير"، و"أستاذ القرن الثالث"، وأن جهوده كانت لـ "تفسير الحياة والدين من وجهة نظر إنسانية"، وأنه "حاول أن يؤسس مدرسة عقلية جديدة لها أسلوبها الجديد، فاتهم لكل ذلك بالزندقة والكفر والإلحاد، فتبرأت منه الفرق الإسلامية كافة لجرأته المنقطعة النظير في الجدل الديني".
نهاية درامية... وأثر ممتد
نجى ابن الراوندي من القتل، وفارق الحياة بصورة طبيعية، لكنه تعرض لممارسات مختلفة أسهمت في ضياع إنتاجه الفلسفي والفكري، وأصبح المنقول عنه في كتب الخصوم ليس على قدر كاف من الثقة، إذ استغل بعض المجهولين شهرته الواسعة، و"تستروا تحت اسمه للتأليف في ما هو محظور البحث فيه في الوسط الفكري اللاديني، فنسبت إليه مؤلفات وكتب عجيبة، ونقلت عنه أفكار لا يقصد منها إلا التخريب في الظاهر"؛ وفقا لما ذكره الأعسم في "تاريخ ابن الريوندي الملحد".
متحدثا عن نهايته، نقل ابن الجوزي عن المعتزلة رواية تفيد أن السلطة السياسية، دون تحديدها، طلبت ابن الراوندي وأستاذه الورّاق، فـ"أما الوراق فأخذ فحبس ومات في السجن، وأما ابن الروندي فإنه هرب إلى ابن لاوي اليهودي، ووضع له كتاب الدامغ في الطعن على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن، ثم لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مرض ومات"؛ ذكره في كتاب "المنتظم".
مطاردة ابن الراوندي حيا وميتا، أشار إليها الأعسم، فذكر أنه "عُوقب عقابين الأول أن سرت عدوى التبرؤ منه إلى كل الفرق دون تمييز، والثاني أنه حورب وطورد حتى مات في منفاه واتهم بعد وفاته بزمن بشتى التهم التي وجدناها توجه في العادة إلى الأحرار المستنيرين في تاريخ الفكر الحر".
أما "هيكت" فرأت فيه "الصوت الخلاق والحيوي"، وصاحب أفكار جريئة سببت له مصاعب جمة، فـ"بلغ من كراهية الناس له أنه بحلول القرن الحادي عشر لم يعد ممكنا إيجاد أي مخطوط من مخطوطات أعماله"، لكن صوته "في تاريخ الشك لم يطوه النسيان أبدا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...