بنبرة حزينة وصوت عاجز عن إيجاد حل، ظهر مسيعيد القرمازي (67 سنة) قبل أكثر من شهر على وسائل إعلام محلية تونسية، وهو يطالب المسؤولين بضرورة إيجاد حلول لإشكالية غياب مادة العلف المخصصة للمواشي والعمل على توفيرها للفلاحين، وسط محاولات يائسة لإيجاد كميات العلف اللازمة لتغذية قطيعه المتكون من 20 رأساً، بعد أن تخلى عن 5 منه بالبيع منذ أكثر من شهر.
تسببت التغيرات المناخية وغياب الأمطار والجفاف خلال السنوات الأخيرة، في تقلص مساحات المراعي وارتفاع أسعار العلف وبيعه في السوق السوداء، خاصة في المحافظات الداخلية المعروفة بارتكاز نشاط اقتصادها أساساً على الزراعة وتربية الماشية، ما دفع مربي المواشي للتخلي عن قطعانهم ببيعها، وسط غياب حلول أو استراتيجية واضحة للدولة تساعدهم على تخطي هذه الأزمة.
بسبب الجفاف تظل الأبقار الآن دون أكل لأيام متواصلة، لغياب العلف المركز واحتكاره وبيعه في السوق السوداء.
يقول لرصيف22 القرمازي وهو مقيم في محافظة القصرين وسط غرب تونس: "أمضيتُ عمري في تربية الأبقار. جلبتُ الأبقار الحلوب من ألمانيا، كانت الواحدة تدر قرابة 30 لتراً من الحليب يومياً. لكن بسبب الجفاف تظل الأبقار الآن دون أكل لأيام متواصلة، لغياب العلف المركز واحتكاره وبيعه في السوق السوداء بأثمان باهظة تصل إلى 50 ديناراً (15.5 دولار) للكيس الذي يزن 50 كيلوغراماً، ما أثقل كاهل الفلاح وأصبح عاجزاً عن توفير غذاء ماشيته، وزاد الوضع تأزماً غياب مادتي التبن والقرط بسبب الجفاف".
وتعاني تونس من مواسم جفاف متتالية خلال العقد الأخير، قلّصت مساحات الأراضي الزراعية في عموم البلاد لنسبة تصل في بعض المناطق إلى 40%، وسبب تراجع مخزون السدود من المياه، ما يهدد الأمن الغذائي ومصادر عيش الكثير من المزارعين ومربي المواشي.
ويتابع القرمازي: "لا أرغب ببيع الأبقار التي وضعت فيها جهداً كبيراً على مدى سنوات من عمري، لكن لا أحد يساعدنا على تخطي هذا الوضع الصعب. تقلص قطيع الأبقار في المنطقة إن لم نقل إنه انهار تماماً بعد اضطرار الفلاحين الى بيع مواشيهم أو تهريبها الى قطر مجاور، وهو ما يهدد الثروة الحيوانية في البلاد".
يشارك معاناة مسيعيد جراء الجفاف وغياب العلف، الآلاف من مربي الأغنام في تونس، ما دفعهم للقيام باحتجاجات متواصلة للمطالبة بتوفير العلف وتوزيعه بطريقة عادلة بينهم.
يقول عمار نصري (64 سنة) وهو مربي أغنام يقطن في محافظة القصرين: "يتطلب غذاء الأغنام خلط العلف المركز مع الشعير حتى يكون متكاملاً، وبسبب غياب العلف وتأخر توفير مادة الشعير، يُجبَر الفلاح على إعطاء قطيعه علفاً غير متكامل، وينتظر لمدة ثلاثة أشهر للحصول على كيس شعير واحد لا يفي بالحاجة ولا يكفي قطيعاً مكون من 10 رؤوس أغنام لمدة يومين، لينطلق في رحلة البحث عن كيس شعير في السوق السوداء بثمن يصل إلى 80 ديناراً".
ويتساءل عن مصير الفلاح ووضعه الاقتصادي والاجتماعي الذي أصبح هشاً للغاية، وأصبح قطيعه عبئاً ثقيلاً عليه، بعد أن كان قطاع تربية الماشية مساهماً فعالاً في تحريك العجلة الاقتصادية.
فشل للسياسات العامة
ليس هنالك إحصائيات دقيقة لتطور عدد قطيع الماشية خلال السنوات الأخيرة في تونس، لكن مسؤولاً بوزارة الزراعة التونسية أكد أن القطيع لا يمكن حصره بسبب عدم تعريفه أو ترقيمه ولأنه متحرك. وتعتمد خلايا الإرشاد الفلاحي (وهي إدارات حكومية محلية تابعة لوزارة الزراعة) على بطاقات التلقيح المُعتمدة من الأطباء البيطريين، والتي تستطيع حصر من 70 إلى 80 بالمائة فقط من رؤوس المجترات (أبقار وأغنام وماعز) لمعرفة عدد القطيع.
ويقدر ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى عدد رؤوس الأغنام والماعز في تونس في آخر تحديث لسنة 2021 بنحو 5 ملايين رأس أنثى، في حين يبلغ عدد رؤوس الأبقار قرابة 410 ألف رأس أنثى.
وفي لقاء للرئيس التونسي قيس سعيد بوزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، في حزيران/ يونيو الفائت، تم التطرق إلى توفير الحبوب بمختلف أصنافها والأعلاف بشتى أنواعها والإحاطة بصغار الفلاحين، وأكد سعيد على ضرورة توزيع الحبوب في كافة مناطق الجمهورية بشكل يضع حداً لاختلال التوزيع، كما شدد على ألا تكون الأعلاف حكراً على جهة معينة يمكن أن تتحكم في الأسعار، "فمثل هذه الممارسات غير مقبولة على الإطلاق".
وأشار الرئيس إلى أنه إن لم توزع الأعلاف للجميع على قدم المساواة، فإن الدولة في ذلك الوقت مدعوة لأن تكون الجهة الوحيدة التي تقوم بالتوريد والتوزيع العادل، فحرية السوق تقتضي التنافس النزيه وتتعارض مع كل مظاهر المضاربة والاحتكار.
قد أدى فشل السياسات العمومية للدولة المتعلقة بقطاع المياه والتغيرات المناخيةإلى إهمال منظومة تربية المواشي، خاصة على مستوى دعم الأعلاف، حسب ما أفاد به الخبير في التنمية والموارد الدكتور حسين الرحيلي.
يُجبَر الفلاح على إعطاء قطيعه علفاً غير متكامل، وينتظر لمدة ثلاثة أشهر للحصول على كيس شعير واحد لا يفي بالحاجة ولا يكفي قطيعاً مكون من 10 رؤوس أغنام لمدة يومين، لينطلق في رحلة البحث عن كيس شعير في السوق السوداء بثمن يصل إلى 80 ديناراً
وقال الرحيلي لرصيف22: "على هامش ورشة عمل حول الإنتاج الفلاحي في ظل شح مياه الري وتحديات التغيرات المناخية، نظمت في أيلول/ سبتمبر الماضي، ضمن اللقاء التحضيري للملتقى السنوي حول المياه من تنظيم منظمة نوماد بالشراكة مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمرصد التونسي للمياه، تمت الإشارة إلى أن تراجع الأداء الاقتصادي أدى الى تراجع قيمة الدينار التونسي أمام العملات الأجنبية وبالتالي الارتفاع الكبير لأسعار الأعلاف".
نتيجة لذلك، يجد الفلاح نفسه كما يقول المتحدث أمام غلاء سعر الأعلاف من جهة، و تقلص مساحات المراعي بسبب الجفاف وقلة التساقطات المطرية من جهة أخرى. وترتكز هذه الظاهرة خاصة في المناطق المعروفة برعي المواشي على غرار مناطق الوسط التونسي.
وأضاف أن من تتوفر لديه الإمكانيات المادية الكبيرة هو فقط من يستطيع تربية المواشي، وهو ما يفسر تخلي عدد كبير من مربي الماشية عن قطعانهم سواء بالبيع أو التهريب نحو الجزائر، حيث يوجد فائض على مستوى الأعلاف وعلى مستوى إنتاج منظومة الألبان، وفق حديثه.
التحرك العاجل ضرورة قصوى
وأكد الرحيلي أن آخر أرقام الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري تشير الى أن 30 بالمائة من الأبقار في منظومة الألبان تم التفريط فيها، وهو ما يفسر أزمة الحليب على المستوى الوطني والتي تفاقمت في العام الأخير، مشيراً إلى أن التوقعات تؤكد في حال استمر الوضع كما هو عليه إلى غاية سنة 2030 دون إصلاحات، فسيفقد أكثر من 50 بالمائة من المنظومة، وسيؤدي ذلك إلى انهيارها، والاضطرار إلى استيراد كل الحاجيات الأساسية والحياتية كاللحوم الحمراء واللحوم البيضاء والحليب.
على السلطات أن تبوب القطاعات حسب أهميتها، وتعطي الماء الصالح للشرب الأولوية القصوى، يليها الإنتاج الفلاحي الذي يمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي كإنتاج الحبوب والعلف، والتخلي عن الفلاحات المستهلكة للماء والمعدة للتصدير
كما تحدث الخبير في التنمية والموارد عن استيراد 80 بالمائة من العلف في منظومة الدواجن، وبدأ المنتجون الصغار يشعرون بارتفاع التكلفة وعدم قدرتهم على مواصلة أنشطتهم. كما أن سيطرة اللوبيات الكبرى على المنظومة قد يؤدي الى وجود خلل إما على مستوى الإنتاج أو على مستوى الأسعار، بسبب تشكل المحتكرين الذين يحددون أسعار الإنتاج والبيع ما يُرهق كاهل الطبقات المتوسطة والفقيرة، وسط غياب سياسات حقيقية تهتم بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
واستنكر الخبير عدم اهتمام السلطات التونسية بموضوع التغيرات المناخية، المفترض أن يكون من أهم الأولويات، وانغماس الدولة في المسائل السياسية في إشارة إلى التركيز على المحطات الانتخابية التي يتم إجراؤها في تونس.
وختم: "على السلطات أن تبوب القطاعات حسب أهميتها، وتعطي الماء الصالح للشرب الأولوية القصوى، يليها الإنتاج الفلاحي الذي يمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي كإنتاج الحبوب والعلف، والتخلي عن الفلاحات المستهلكة للماء والمعدة للتصدير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع