شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لا تقرأ نيتشه في ميكروباص الجيزة، أو ماركس في ميدان التحرير

لا تقرأ نيتشه في ميكروباص الجيزة، أو ماركس في ميدان التحرير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الثلاثاء 30 يناير 202411:01 ص

أنا أحد هؤلاء الأشخاص الذين أينما قابلتهم لا بد أن تجد بحوزتهم كتاباً، في المواصلات وفي العمل، وعلى المقاهي وعبر الطرقات بين هنا وهناك، أبحث عن أي وقت يمكنني فيه مواصلة القراءة، وسط سرعة وضجيج الحياة.

حتى الآن لا توجد مشكلة غير أسعار الكتب المرتفعة ربما، لكن تبدأ المشاكل تلوح في الأفق عند اكتشافك أن الكتاب مثل العَلَم، أن تحمله معك يعني أنك على وشك التلويح به بطريقة ما، لذلك فإذا لاحظت أن الجالس بجوارك في ميكروباص الجيزة يتفحّص اسم نيتشه وشاربه على غلاف الكتاب الذي تقرأه، أو رأيت أحد أمناء الشرطة يهمس في أذن الضابط عند مرورك حاملاً كتاباً يظهر عليه اسم ماركس ولحيته، بجوار أحد اللجان الأمنية في وسط البلد، فاعلم أن المشكلة قد وصلت بالفعل.

لا مقعد لنيتشه في ميكروباص الجيزة

يحكي لي صديق عن مخاوفه أثناء رحلته القصيرة بالميكروباص قادماً إلى جلستنا، لأنه كان يقرأ حينها "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه. أخبرني أن الأمور مرت بسلام لأن طبعة الغلاف لم تحمل صورة ذا الشارب الشهير، لذا فلم يتعرّف أحد على صاحب الكتاب على ما يبدو، ثم يمازحني بأننا لا يجب أن نحمل معنا كتاباً يتصدّر نيتشه صورة غلافه هنا.

إذا لاحظت أن الجالس بجوارك في ميكروباص الجيزة يتفحّص اسم نيتشه وشاربه على غلاف الكتاب الذي تقرأه، أو رأيت أحد أمناء الشرطة يهمس في أذن الضابط عند مرورك حاملاً كتاباً يظهر عليه اسم ماركس ولحيته، فاعلم أن المشكلة قد وصلت بالفعل

نيتشه يمتلك تلك السمعة التي تمثله شريراً دون الحاجة لقراءة ما كتبه وفهمه، فعلى كل حال أشهر الاقتباسات التي يُعرَف بها هي "الإله قد مات، ونحن من قتلناه"، وهذا كاف لمعرفة ما يُمكن أن يمثله الرجل لجماعة من المؤمنين، أو كما نقول في بلادنا "متدينين بطبعهم"، لديهم ثأر مع من ادعى قتل إلههم، وبما أنه قال "نحن من قتلناه" ولم يقل "أنا من قتلته"، فمن المرجّح أن القارئ الذي يحمل كتابه شريك في الجريمة أيضاً.

نفس الأمر ينطبق على داروين، فمن النادر أن يراك أحدهم تقرأ له أو عنه دون أن يتدخل ليخبرك بأن هذا الرجل ملحد ويعتقد أن أجدادنا كانوا قردة، ثم يسألك هل توافق على ذلك؟، والآن عليك أن تغلق كتابك وتختار بين أن تشرح له ما تيسر من نظرية التطور أو أن تخبره كذباً بأنك تقرأ الكتاب لتزويد نفسك بمعلومات تؤهلك للرد على هؤلاء الملحدين أتباع داروين.

وبعيداً عن الإلحاد، فكل كتاب يمس الدين يجب أن تكون حذراً وأنت تحمله معك طالما حاوطك "متدينون بطبعهم"، فمثلاً عندما كنت أقرأ رواية نيكوس كازانتزاكيس "المسيح يُصلب من جديد"، قال لي رجل جلس بجواري في المواصلات، إن المسيح لم يُصلَب أولاً ليُصلَب من جديد، فأخبرته أن الكتاب لا يتحدث عن الدين بالضبط مثلما يعكس عنوانه، لكنه يروّج لأفكار اشتراكية بعض الشيء. صمت الرجل ولم يحاول معرفة المزيد عن الأفكار، فالحديث مع الغرباء عن الدين والمسيح لا يعني أن "نشطح" بحريتنا ونتحدث عن السياسة والاقتصاد أيضاً.

نفس الـ "كازانتزاكيس" كاد أن يورطني في مشكلة بسبب كتابه "تصوّف... منقذو الآلهة"، كان ذلك عندما اقترب مني أمين شرطة شكّ في محتويات حقيبة وضعتها بجواري في انتظار وصول صديق.

وقف دون أن يتحدث معي، وعينه تتجول بين الحقيبة والضابط المشاهد لما يحدث من الاتجاه المعاكس، فسألته إذا كان يريد أن يعرف ماذا يوجد في الحقيبة، وأخبرته أنها مجموعة من الكتب. فتحت الحقيبة وناولته أول كتاب بها، ثم بدأ يحدثني عن التصوف وأنه بنفسه صوفي بشكل ما، ولحسن الحظ أن عنوان الكتاب كُتِب بطريقة تجعل كلمة "تصوف" كبيرة وبارزة و"منقذو الآلهة" صغيرة للغاية ومهملة، وإلا لكان علي أن أشرح من يكون هذا الكاتب الذي يظن أن الآلهة بانتظاره لينقذها، ولو أراد مواصلة البحث في محتويات الحقيبة لربما كانت المشكلة ستكون حقيقية، لأن بالأسفل كان يوجد ثلاث كتب أخرى، إحداها كان بعنوان "تعاليم بوذا"، وذلك لم يكن ليمرّ مرور الكرام، لكن في كل الأحوال كان من الجيد أن حقيبتي حوت كتباً فلسفية فقط حينما قابلت أمين الشرطة هذا، ولم أضع بها كتباً سياسية مثلاً، فكونه صوفياً قد يغفر لي اهتمامي ببوذا وحتى ظنّي أن بوسع أحدهم إنقاذ الآلهة، لكن باعتباره أمين شرطة فإن اهتمامي بالسياسة وظني أن بوسع أحدهم إنقاذ البلاد، هذه جريمة لا تغتفر.

القبض على القارئ والمؤلف في التحرير

أتذكر ذلك الوقت الذي كان حمل رواية "1984" لجورج أورويل جريمة، حتى أن البعض قد حذّر من شراء الرواية من الأساس، في منشورات عبر السوشيال ميديا تُخبرنا بإلقاء القبض على عدد من القراء بسبب تجوّلهم بالرواية في منطقة وسط البلد.

من المتوقع أحياناً في تلك المنطقة أن يستوقفك ضابط ما للتدقيق في بيانات هويتك الشخصية، وسؤالك بضع أسئلة، وتفتيش هاتفك إذا شعر بالشك ناحيتك، لذلك ففي كل مرّة أقرّر فيها مقابلة الأصدقاء هناك، أكون على استعداد للأسوأ، لماذا؟ لأنني ببساطة أرفع علماً مميزاً بحملي كتاباً، بالنسبة لعلاقة رجال الشرطة بالمواطنين، فذلك ما يُطلق عليه "ريد فلاج".

إحدى تلك المرّات، كنا نسير، أنا وصديق لي، بعد جلسة مناقشة سياسية عادية في أحد المقاهي، وكنا على وشك المرور بجوار تجمّع لبعض الضباط وأمناء الشرطة، فمازحني بأنهم ربما يلقون القبض علي بسبب حديثي المعارض للرئيس قبل قليل، عندها انتبهت أنهم ليسوا بحاجة لمعرفة ما دار بيننا على المقهى لربطنا بالسياسة المحرّمة ضمنياً، لأني كنت أحمل في يدي كتاب كارهة الأنظمة الديكتاتورية الشمولية حنة آرندت "ما السياسة؟"، ربما لن يتعرفوا على حنة لكنهم سيريدون التعرف على من يقرأ عن السياسة، ولسخرية القدر ربما أنقذني انقطاع الكهرباء في ذلك الشارع وقتها ولم يره أحد.

وإذا كنت تظن أنك تتفادى الخطر إذا ابتعدت عن التجول بكتابات تدعو للحرية صراحة، واخترت القراءة في جانب آخر، مثل تاريخ جمال عبد الناصر أو السياسة الروسية أو حتى رسائل هتلر، فإنك مخطيء يا صديقي، لأن الأزمة تكمن في كونك تقرأ أصلاً، 

حتى الآن لم يحدث لي ما حدث مع غيري، ورافقت إلى وسط البلد، مرّات كثيرة، نعوم تشومسكي وحنة آرندت وأنجلز وسلافوي جيجك، وغيرهم من الذين إذا مروا هناك ربما يُلقى القبض عليهم هم أنفسهم، لكني أعرف بأنه لن تسلم الجرة في كل مرّة، والسؤال فقط: متى هي تلك المرّة؟

وإذا كنت تظن أنك تتفادى الخطر إذا ابتعدت عن التجول بكتابات تدعو للحرية صراحة، واخترت القراءة في جانب آخر، مثل تاريخ جمال عبد الناصر أو السياسة الروسية أو حتى رسائل هتلر، فإنك مخطيء يا صديقي، لأن الأزمة تكمن في كونك تقرأ في السياسة أصلاً، ليس لمن وماذا تقرأ وما موقفك مما قرأت.

دليلك لتفادي القلق

لن أفعل ذلك صراحة، لكني أعلم ما هي المحظورات التي يجب علي أن أضعها نصب عيني إذا أردت تفادي المشكلة من الأساس: مبدئياً لا تخاطر بقراءة كتاب في المواصلات العامة يحمل غلافه أي من تلك الكلمات "إله، تطور، المسيح -خاصة إن كان يُصلَب-، بوذا، الجنس، علمانية"، أو أن يكون صاحب الكتاب أحد هؤلاء "نيتشه، داروين، نوال السعداوي، إبراهيم عيسى" بصفة خاصة.

أما إذا أردت التجوّل في وسط البلد دون قلق أن ينتهي تجولك برحلة في سيارة الشرطة، فابتعد عن الأغلفة التي تتحدث عن "السياسة، الشيوعية، الاشتراكية، الديمقراطية، الثورة، العلمانية مجدداً، وبالطبع الحرية"، وبالنسبة للكُتّاب، فحاول ألا تسير هناك برفقة "ماركس، تشومسكي، أورويل، بلال فضل"، وصحيح أن مصر، حكومةً وشعباً، رفعت يوماً ما شعار "القراءة للجميع"، لكن ذلك لا يعني أنه يُمكنك القراءة لجميع الكُتّاب والمفكرين والأفكار، فالشعار يتحدث عن القراءة عموماً كحق، دون الحديث عن حرية اختيار ما تقرأ بسلام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image