شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
في السودان... يجمعون الجثث ليدفنوا المستقبل

في السودان... يجمعون الجثث ليدفنوا المستقبل

مع أنني لم أُولد في السودان، فقد كان لي الحظ أن عشت في أجزاء مختلفة منه طلباً للعلم والعمل. عائلتي، في المقابل، اتخذت من السودان مستقراً لها، وترزح اليوم تحت وطأة حرب طاحنة ونزاع على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، شأنها شأن ملايين السكان. 

اضطرت عائلتي إلى ترك المنزل الذي بناه والداي. ينقبض صدري كلما فكرت في الأمر، إذ تجنّبت أمي ترك هذا المنزل بكل ما أوتيت من قدرة، فقد كان بالنسبة لها أكثر من مجرد بيت تخلد فيه إلى النوم في المساء، أو سقف تجتمع تحته العائلة بين الحين والآخر. كان ثمرةً لمشروع حياة. لم يتسنَّ لي أن أودّع أحداً منهم، ولم أعرف آنذاك أن اللحظات الأخيرة التي أمضيتها على أرضي مع عائلتي قد لا تتكرر. 

مع بدء الاشتباكات في 15 نيسان/ أبريل، واشتداد حدّة القتال، وبينما كانت تتردد صور الشوارع والأحياء وأسماؤها على مواقع التواصل الاجتماعي وفي نشرات الأخبار، تراءت لي صور سكان يسيرون في الشوارع والضحكات تعتلي وجوههم، ثم خُيّل إليّ أنهم يهربون مذعورين من الشارع نفسه. تبادرت إلى ذهني المنازل الجميلة التي يملؤها الحب، قبل أن أراها تتحول إلى رماد وأنقاض. استصعبت الاطلاع على التحديثات التي ترسلها بعثتنا في السودان، وكنت كلما وصل خبر يؤكد سيطرة أحد الطرفين على منطقة ما، يمتزج في ذهني مع مشاهد السكان العالقين في دوامة من الاشتباكات المستمرة التي يصفها لي زملائي وعائلتي كلما تمكّنت من التحدث إليهم.

في البث المباشر، نرى الطائرات الحربية تجوب السماء، وسيارات الدفع الرباعي تقطع الطريق في الأزقة وتقف سدّاً منيعاً في وجه السكان العاجزين عن الوصول إلى الماء والغذاء والرعاية الصحية. يتصاعد الدخان من المناطق التي تعرضت للقصف، فيتداول الناس أخباراً مفصلةً حول أهمية التزام المنزل وعدم الخروج منه، من دون أن يفكر أحد في الوضع الذي يعيشه السودانيون وهم حبيسو المنزل، وكيف أمضوا آخر أيام شهر رمضان والعيد وجميع الأيام بعد ذلك.

اضطرت عائلتي إلى ترك المنزل الذي بناه والداي. كان بالنسبة لأمي أكثر من مجرد بيت تخلد فيه إلى النوم، أو سقف تجتمع تحته العائلة بين الحين والآخر. كان ثمرةً لمشروع حياة

يعاني جميع من حوصروا في الخرطوم وفي مدن أخرى من صعوبة الوصول إلى الرعاية الصحية والغذاء، ويواجهون نقصاً في المياه وانقطاع الكهرباء وشحّ السلع التي تواصل أسعارها بالارتفاع. إلا أن الكهرباء لم تعد منتهى أمانيهم، وصار مجرّد التفكير فيها ترفاً، فهم لا يريدون إلا توفر المياه، وتوقّف أزيز الرصاص إن أمكن.

عندما أُعلن عن وقف إطلاق النار للمرة الأولى، ظننا أن الأطراف ستلتزم به ولو لثلاث ساعات، لكن سرعان ما خابت ظنوننا. استمر القصف المدفعي، وتكرّر الأمر مع الإعلانَين الثاني والثالث عن وقف إطلاق النار. في المرة الرابعة، لم يتفاءل الناس خيراَ بالإعلان. علمت أسرتي حينها أن عمليات الإجلاء كانت مستمرة، ومع ذلك، استمر القصف المدفعي من دون رحمة على مناطق مأهولة بالسكان. حتى المستشفيات لم تسلم من الهجوم، فاضطرت الطواقم إلى إخلاء المرافق.

تزيد التحديات على الحدود من وطأة التوترات في السودان الذي يخوض غمار مرحلة انتقالية صعبة نحو الديمقراطية، منذ الإطاحة بحكم عمر البشير. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن القوى المتنازعة ما زالت تحظى بنفوذ واسع في البلد.

يؤلمني أنني حين غادرت البلد، لم أعرف أنني قد لا أعود إليه، وأن وضعه الأمني سيستمر في التدهور. وفي هذا السياق، تعمد أعداد متزايدة من اللاجئين إلى مغادرة البلد إلى تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان، وغيرها من البلدان.

في المستشفى الذي تدعمه "أطباء بلا حدود"، تعمل الفرق على مدار الساعة لمواصلة أنشطة الطوارئ، إذ عالجت 493 مريضاً تعرّضوا لإصابات بليغة في غرفة الطوارئ، وأجرت 137 عمليةً جراحيةً في ظل ظروف صعبة ومنطقة حرب نشطة. يبقى مستشفى "أطباء بلا حدود" المرفق الوحيد الذي يواصل توفير الخدمات في المدينة، فيما تنفد الإمدادات شيئاً فشيئاً، وتتقلص قدرات الإحالة مع استمرار الاعتداءات.

لم يتسنَّ لي أن أودّع أحداً منهم، ولم أعرف آنذاك أن اللحظات الأخيرة التي أمضيتها على أرضي مع عائلتي قد لا تتكرر

قبل أربع سنوات، كان الناس مفعمين بالأمل. ما نشهده الآن مفجع فعلاً. يتمتع البلد بالكثير من الإمكانات، إلا أن تحوّله إلى ساحة معركة يبعث الألم في النفوس. فعوضاً عن تركيز الشباب على مستقبلهم وبناء دولتهم، ها هم ينشغلون الآن في جمع الجثث من الشوارع ومساعدة الناس على مغادرة البلد.

يذكّرنا القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بما يقاسيه السودانيون خلال مرحلة انتقالية صعبة. على جميع الأطراف المتنازعة إعطاء الأولوية لمصالح الشعب السوداني والسعي إلى التوصل لحل سلمي.

مع اشتداد انعدام اليقين، تؤكد "أطباء بلا حدود" أنها لن تغادر السودان. نستمر في تقييم كيف يمكننا توسيع نطاق استجابتنا لهذه الأزمة، وفي أي المناطق، مع مواصلة تقديم الرعاية الطبية في أنحاء مختلفة من السودان وإطلاق استجابات جديدة عندما تبرز الحاجة إليها، باللجوء إلى القدرات والموارد الموجودة أساساً في البلد، واستقدام إمدادات وموظفين إضافيين.

مع استمرار النزاع على السلطة منذ أكثر من شهرين، وإبرام أكثر من تسع اتفاقيات لوقف إطلاق النار، وعدم الالتزام بأيٍ منها، تبقى قلوبنا مع السكان والمرضى والزملاء في السودان. وفي هذا السياق، أؤكد على الدعوة التي أطلقتها "أطباء بلا حدود" لجميع الأطراف المتنازعة إلى تجنّب مواقع المدنيين وعدم التعرض لهم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard