شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"ذنب النجاة يطاردني!".. أثر قمع بلادنا على حياتنا في أوروبا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمهاجرون العرب

الاثنين 29 يناير 202403:33 م
Read in English:

Echoes of oppression: The ongoing struggles of Arab refugees in Europe

يفرون من بلادهم كخيار وحيد لهم للبقاء على قيد الحياة دون التعرض للتعذيب أو السجن أو حتى الموت. 

ورغم النجاة لا زالت عمليات القمع التي طالتهم وأحبائهم في بلادهم تؤثر على حياتهم في أوروبا، وتجعل الخوف ملازماً لهم وحائلاً بينهم وبين الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. 

ما بين الشعور بالذنب الملازم للنجاة من القمع والاستبداد، وصولاً إلى عدم القدرة على الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، يرصد رصيف22 أثر قمع البلاد العربية على حياة بعض اللاجئين العرب في أوروبا.

مشاعر غضب لا تنطفئ 

بعد اعتقال سياسي دام بضعة أشهر فرّ محمد رضوان، ناشط حقوقي، من مصر لتونس ومنها إلى بريطانيا، إلا أن طعم الاستبداد الذي يقول إنه تذوقه في بلدين عربيين أشعلت مشاعر غضب بداخله لم تنطفئ بعد.

في مصر لم يكن رضوان قادراً على الحياة كما قبل السجن، ولمدة ثمانية أشهر بعد إطلاق سراحه كان عاجزاً عن النوم إلا بعد الفجر. "كنت أخشى أن تقتحم الشرطة المنزل وتقبض عليّ مرة أخرى". ولهذا قرر الفرار إلى تونس بعد أشهر من وصول الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد للحكم.

بدأ يتعافى شيئاً فشيئاً، إلا أن الحال تبدل في يوليو 2022، عندما فرض سعيد "التدابير الاستثنائية"، التي حولّت تونس إلى "الديكتاتورية"، فعاد إليه الشعور بعدم الأمان والخوف من الترحيل مع تقييد الحريات واستهداف الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان سواء التونسيين أو الأجانب.

في مصر لم يكن رضوان قادراً على الحياة كما قبل السجن، ولمدة ثمانية أشهر بعد إطلاق سراحه كان عاجزاً عن النوم إلا بعد الفجر. "كنت أخشى أن تقتحم الشرطة المنزل وتقبض عليّ مرة أخرى"

"مع تصاعد وتيرة القمع في تونس قررت الهرب إلى بريطانيا"، يقول رضوان الذي وصل إلى لندن في منتصف العام 2023 لكن للقمع والاستبداد الذي رآه في مصر وتونس أثر باق معه إلى الآن، لافتا إلى أن لديه شعور مستمر بالغضب لكونه غير قادر على أن يكون بجوار أهله ولأنه بعيد عن وطنه.

ويضيف: "لديّ مشاعر غضب لأنني لم أجد مصر التي حلمت بها، وكلما رأيت أي تعاملات هنا تحترم الحد الأدنى من حقوق مكونات المجتمع أشعر بحسرة كبيرة، واتساءل: لماذا بلادنا ليست كهذه البلد".

ويؤكد رضوان لرصيف 22، شعوره بالذنب لكونه يتمتع بحريته الكاملة الآن بما فيها حرية انتقاد سياسات الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية في الوقت الذي يتعرض فيه كثير من بني وطنه للاعتقال لمجرد "تضامنهم مع القضية". 

وبينما يسير في شوارع لندن بحرية دون خوف من الزج به إلى السجن ظلماً، لا يستطيع رضوان نسيان أصدقاء له مازالوا رهن القمع والسجن في مصر، حسبما يؤكد. ويختم حديثه قائلاً: "لم أشك يوما في صحة الدرب الذي اخترتُه بل بالعكس أشعر بالفخر أحياناً لأنني لم أتراجع عن ذلك ولم أستسلم للضغوط التي مورست عليّ خلال الفترة السابقة لخروجي من مصر".

بينما يسير في شوارع لندن بحرية دون خوف من الزج به إلى السجن ظلماً، لا يستطيع رضوان نسيان أصدقاء له مازالوا رهن القمع والسجن في مصر.

يذكر أنه وفقاً لتحليل بيانات وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء، الذي أجرته وكالة أنباء الأناضول، سجل 15 ألفاً و429 من المصريين طلبات لجوء في العام 2022، وهو الرقم الأعلى منذ 2014. 

وتضاعف هذا الرقم قرابة 3 مرات في ظرف عامين، إذ سجل أدنى رقم له خلال الأعوام التسعة الأخيرة في 2020 بنحو 3220 طلباً.

الخوف وذنب النجاة

أكثر من أربعة ملايين سوري فروا من ويلات الحرب في بلادهم إلى الدول المجاورة وأوروبا، كان من بينهم الصحفي دلير يوسف، الذي دفعت به الأزمة السورية التي تعد الأكبر في العالم منذ حوالي ربع قرن للهرب إلى ألمانيا في العام 2011 حاملاً معه ذنباً لم يتخلص منه إلى الآن.

"في العام 2011 خرجت من سوريا حاملاً معي ذنب نجاتي"، يقول يوسف الذي عاد في السنوات اللاحقة إلى البلاد تهريباً عدداً من المرات من أجل كتابة قصة صحفية، لكن الأصل كان كما يؤكد: "العودة من أجل التخلّص من ذنب النجاة". ويضيف لرصيف 22: "أفكر أحياناً إنّني خرجت من سوريا سريعاً، لكن في مرات أخرى أفكر لو أنّني خرجت قبل ذلك بكثير، لو لم أعش تلك الصدمات النفسيّة التي يعيشها المولودون في سوريا، لو لم أعش الخوف الذي ترزح تحته سوريا منذ عشرات السنوات، الخوف من الشرطة، الخوف من الأمن، الخوف من الجيران، الخوف من الاعتقال، الخوف من التعذيب. والانتظار، الانتظار البغيض. انتظار أن تتحسن الحياة، الانتظار في فرع الأمن حتى يأتي وقت التحقيق، انتظار التعذيب، انتظار الفرج، الانتظار في الشوارع، الانتظار الدائم".

"في العام 2011 خرجت من سوريا حاملاً معي ذنب نجاتي"

دلير يوسف، صحفي وكاتب سوري

نحو 14 عاماً قضاها يوسف في ألمانيا، لكنه إلى الآن يفكر أحياناً، بالذين لم يولدوا في بلاد تشبه بلادنا، هل يحملون معهم صدمات وعقد نفسيّة مثل التي نحمل؟ ويقول: "أفكر في حياتي في ألمانيا، والخوف الذي أحمله في داخلي، رغم أنّني مواطن ألماني حالياً. الخوف من فعل الخطأ، الخوف من الترحيل، رغم استحالة ذلك بعد حصولي على الجنسيّة الألمانية، الخوف من البيروقراطية، الخوف من العنصرية الممنهجة في المؤسسات الألمانيّة، الخوف من النازية الصاعدة، الخوف من كلّ شيء". ويختم يوسف حديثه قائلاً: "أسأل نفسي، هل ولد الخوف معنا في تلك البلاد؟ هل هناك مكان في العالم أستطيع العيش فيه بلا خوف؟".

يشار إلى أن عدد طالبي اللجوء السوريين لدى دول الاتحاد الأوروبي في 2022 بلغ نحو 131 ألفا و700 طلب، وهو الرقم الأكبر عربياً وحتى دولياً بالنظر إلى الأوضاع السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد منذ 2011.

 "أسأل نفسي، هل ولد الخوف معنا في تلك البلاد؟ هل هناك مكان في العالم أستطيع العيش فيه بلا خوف؟"

وقد تضاعف عدد طالبي اللجوء السوريين في 2022 مقارنة بعام 2020 الذي سجل 64 ألفاً و540 طلباً، وهو الرقم الأدنى منذ بداية الدراسة في 2014، علماً بأن ذروة طلبات اللجوء كانت في 2015 عندما تم تسجيل أكثر من 371 ألف طلباً.

انتكاسة وعدم اندماج

نحو ثلاثة سنوات قضتها الصحفية بسمة مصطفى في ألمانيا، بعد فرارها من مصر بعد سجنها على ذمة إحدى القضايا السياسية، ولكنها رغم ذلك تشعر بأنها مقيدة الحرية وعاجزة عن الاندماج في المجتمع الجديد الذي انتقلت إليه هرباً مما تصفه بـ"البطش والاستبداد" في بلادها.

تعيش بسمة في مدينة برلين برفقة زوجها وابنتيهما، وتقول لرصيف 22، إن أثر التجربة التي مرت بها في مصر جعلها تشعر بالخوف والقلق الشديد عند رؤية الشرطة في الشهور الأولى لها بألمانيا. وتعود بذاكرتها إلى العام 2021، حينما توجهت لتغطية أول تظاهرة لها في برلين وكانت لدعم المهاجرين.

"حينما وصلت لمكان المظاهرة تفاجأت بعدد كبير من رجال الشرطة، أتذكر وقتها أنني لم أستطع التنفس جيداً، وكنت أنظر حولي كثيراً، وخشيت أن أخرج الكاميرا والتقط الصور بها حتى لا يأخذها أحد مني، وكان كل تركيزي ألا أتعرض للضرب وألا يتم القبض عليّ".

"علاقة ابنتي الاثنتين بالشرطة هنا كانت معقدة، في البداية كانتا تصرخان بمجرد رؤية الشرطة في الشارع وتختبئان ورائي بسبب ما حدث معنا في مصر".

أثر القمع الذي طال بسمة لم ينعكس عليها وحدها حسبما تؤكد: "علاقة ابنتي الاثنتين بالشرطة هنا كانت معقدة، في البداية كانتا تصرخان بمجرد رؤية الشرطة في الشارع وتختبئان ورائي بسبب ما حدث معنا في مصر".

لكن هذه الأزمة تلاشت مع مرور الوقت حتى حدثت انتكاسة جديدة في يوليو 2022، عندما شاركت الصحافية الشابة في تظاهرة مناهضة لرئيس بلادها الذي كان في زيارة إلى ألمانيا، وألقت بياناً مناهضاً لسياساته لحظة التقاطه صوراً تذكارية مع المستشار الألماني أولاف شولتس، أمام مبنى مجلس الوزراء، وكلها ثقة بأن شيئاً لن يحدث، هي الآن في ألمانيا…

"فجأة الموقف تحول وكأني في أحد شوارع القاهرة". وتوضح بسمة أن مصريين اثنين نعتتهم بـ"المواطنين الشرفاء" تعديا عليها بالسب والضرب في حضرة الشرطة الألمانية. 

بسمة كانت تتوقع تتدخل الشرطة لصالحها إلا أن ما حدث عكس ذلك، حيث تقول: "الشرطة حمت الشخصين اللذين تعديا بالضرب عليّ بمجرد تدخل دبلوماسي مصري لصالحهما، ورفضت سماع روايتي للواقعة رغم كوني الشخص المعتدى عليه ".

الصحفية بسمة مصطفى

وزاد الوضع سوءاً مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث قمعت الشرطة الألمانية التظاهرات التي تتضامن مع فلسطين وتطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وفق بسمة التي تقول: "مشاهد قمع مظاهرات فلسطين كانت صدمة كبرى بالنسبة لي. الوضع كان شبيهاً بأحداث الثورة في مصر". وتشير إلى أنها في آخر مظاهرة شاركت فيها تجمدت من الخوف وقررت الانصراف. "خشيت أن أتعرض للضرب وحالتي الصحية لا تحتمل ضربة واحدة (تقاوم السرطان)".

في ختام حديثها تؤكد بسمة أنها عاجزة عن الاندماج مع المجتمع الألماني، حيث تقول: "أنا ومن شبهي جئنا من تجارب لا يستطيع المواطن الأبيض استيعابها، ومطلوب أن نتعافى منها، وسط متطلبات كثيرة يجب أن نقوم بها جبراً في سبيل أن تستقر حياتنا، ولهذا أرى أن مفهوم الاندماج يضيع وسط دوامة هذه المتطلبات لأن كل شخص منا لا يريد في تلك الأثناء سوى المزيد من الوقت حتى يُنهي المهام الأساسية المطلوبة منه للحياة أو النجاة أما موضوع الاندماج فيأتي لاحقاً!",

"مشاهد قمع مظاهرات فلسطين كانت صدمة كبرى بالنسبة لي. الوضع كان شبيهاً بأحداث الثورة في مصر"

يذكر أنه بحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنه بحلول نهاية عام 2022، بلغ عدد اللاجئين الذين تستضيفهم الدول الأوروبية 12.4 مليون شخصاً. وتعد تركيا أكبر دولة مضيفة للاجئين في جميع أنحاء العالم، مع وجود 3.6 مليون لاجئ على أراضيها بحلول نهاية 2022. 

أما ألمانيا فهي ثاني أكبر دولة مضيفة للاجئين في منطقة أوروبا، حيث تستضيف ما يقرب من 2.1 مليون لاجئ بحلول نهاية العام 2022.

وفي العام 2022 وصل عدد طالبي اللجوء في دول الاتحاد الأوروبي إلى حوالي مليون شخص تقريباً، ولكنه قد يتجاوز المليون خلال عام 2023، حسب وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء. وهذا أعلى رقم منذ عام 2015 الذي شهد أزمة لجوء وقدوم عدد كبير من طالبي اللجوء بشكل استثنائي.

ومن بين القادمين خلال عام 2023 هناك أكثر 350 ألف شخص دخلوا الاتحاد الأوروبي بطريقة غير نظامية خلال أحد عشر شهراً، حسب وكالة حماية الحدود الأوروبية "فرونتكس".

وتأتي سوريا والعراق والمغرب على رأس قائمة 10 دول عربية سجل مواطنوها أكبر عدد من طلبات اللجوء عربيا لدى دول الاتحاد الأوروبي في 2022، وفقاً لتحليل بيانات وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء الذي أجرته الأناضول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard