شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يوميات من غزّة (22)... كما لو أننا جميعاً في قبضة الولايات المتحدة

يوميات من غزّة (22)... كما لو أننا جميعاً في قبضة الولايات المتحدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأربعاء 10 يناير 202411:45 ص

مرحباً يوسف!

أفكر فيك، وأتساءل كيف حالك؟ إذا كنت آمناً، إذا كان لديك طعام، كيف تكون أيامك ولياليك؟ لقد كنت أكتب مقالات وأجري مقابلات مع الفلسطينيين في النرويج، وأحاول أن أخبر بلدي بما يجري، ونحن جميعاً نعرف، والأغلبية العظمى لا توافق على ذلك. حتى والدتي المسالمة تقول إنها تأمل أن يذهب نتنياهو إلى الجحيم.

الجميع في النرويج يرون الحقيقة المروّعة، لكن ساستنا لا يتصرّفون ولا يفعلون ما ينبغي عليهم فعله. الدعوة إلى المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل. يبدو الأمر كما لو أننا جميعاً في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية. الولايات المتحدة هي ضمانتنا الأمنية ضد روسيا العدوانية. وفي هذا الترتيب، علينا أن نقبل ما تطلبه الولايات المتحدة منا. حسناً، اللعنة على ذلك. حان الوقت للدفاع عن أنفسنا والبدء في القيام بدورنا لوقف القتل الجنوني للأبرياء.

من الصعب أن أرى مثل هذه الأوقات، لكنني التقيت بأشخاص طيبين في إسرائيل. من يريد للفلسطينيين حياة كريمة ودولة خاصة بهم وسلام. والغالبية العظمى من الناس في النرويج وأوروبا يريدون نفس الشيء. آمل، وأعتقد أنه في يوم من الأيام، سترتفع أصوات هؤلاء الأشخاص بصوت أعلى من أي طائرة بدون طيار أو صاروخ أو رصاصة. أفكر فيك، وأهتم بك، وآمل أن أراك قريباً.

صديقك أويستين

*****

عزيزي أويستين

تحيّات طيّبات لك ولأطفالك وللعائلة، من غزّة التي تدخل شهرا رابعاً من العدوان الإسرائيلي الإحلالي، الذي ينتهج العقاب الجماعي والإبادة الجماعية وصناعة كل هذا الخراب، ضدنا نحن المدنيين.

يعجبني أكثر قول أمك المسالمة: "فليذهب نتنياهو إلى الجحيم". كم لامست أمك الحقيقة، هذا الرجل المريض نفسياً وجيشه المختل لا يناسبهم سوى الجحيم

لقد كانت رسالتك الأخيرة مؤثرة، مُدرِكة لما يحدث بالضبط في هذا العالم. لقد توقفت مطولاً مع جملة: "يبدو الأمر كما لو أننا جميعاً في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية"، فإذا كانت أمريكا هي الضمان من "عدوانية" روسيا ضد النرويج كما قلت، فالطبيعي أن يتساوق ساسة بلادكم مع توجهات الإدارة الأمريكية، إلى أن تتحرّر بلادكم من قبضة أمريكا ومصادرتها حرية رأيكم في ما يجري، كنظام على الأقل.

يعجبني أكثر قول أمك المسالمة: "فليذهب نتنياهو إلى الجحيم". كم لامست أمك الحقيقة، هذا الرجل المريض نفسياً وجيشه المختل لا يناسبهم سوى الجحيم، ولا زلنا ننتظر من عالم، بلا ازدواجية معايير، أن يقدّم الاحتلال وجيشه إلى المحكمة الدولية، وأن يتخذ العدل مجراه قبل أن يذهب العالم برمته إلى الجحيم، من أجل مكاسب شخصية لنتنياهو وإطالة عمره السياسي.

تأخرت عليك في الرد على الرسالة، لأنه منذ شهر مضى، وجيش الاحتلال بطائراته ودباباته وآلياته، يدكّ كل حي فوق تراب مدينتنا الوديعة خان يونس، ويتقدم بريّاً فيها من شرقها وشمالها، يدكّ البيوت والبيوت حياة، ويدكّ الأراضي الزراعية ويقتلع الأشجار ويخرّب الطرقات، ويمحو في طريقه العناوين والذكريات بقوة الانفجارات المهولة.

ليال كاملة من الأحزمة النارية وقذائف المدافع من الدبابات والزوارق البحرية، منذ غروب الشمس وحتى شروقها لا تتوقف الأصوات المرعبة. تستطيع أن تشعر بالأرض تحتك تهتزّ، كذلك البنايات والشبابيك. أنت إن كنت في بيتك مضطر لأن تترك الشبابيك مفتوحة بسبب ضغط الهواء الناتج عن الانفجارات. شبابيك مفتوحة في هذا البرد؟ لا بأس، فلك أخوة في "الإنسانية" ينامون في الخيام والشوارع، لا يسترهم سوى الشوادر أو القليل من القماش كيفما اتفق، لا اتصالات ولا إنترنت، وعتمة كاملة يتخلّلها وميض من هناك وهناك، تستطيع من خلاله تحديد جهة القصف، لأن الصوت غالباً خدّاع، خصوصاً الصوت الأقوى والأقرب.

في هذا الليل، لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى رسم خارطة ذهنية للأماكن المستهدفة من حولك، وأن تتابع وجوه الهاربين من نيران الإبادة، قاصدين الله وما يأملون بأنه مكان أكثر أمنا في المدينة التي لا مكان آمن فيها، يحملون ما تيسر من أغطية وملابس، وعلى وجوههم كل علامات التعجّب التي لم نصادفها في حياتنا.

في أول ليلة للهجوم البرّي، بعد أن غابت الشمس مباشرة، بدأت الأحزمة النارية بكثافة، وفي غير اتجاه، شارع الأمل العام في حارتنا كان ضاجّاً بالناس، من النازحين في جمعية الهلال الأحمر، وبعض الباعة، والكثير من الأطفال المشاغبين الذين يلعبون مع الهواء، فجأة انفضّ هذا الجمع، عمّ الخوف والصمت الشارع، الكل في ثوان دخل إلى مباني الهلال وكليته ومشفاه، خلا الشارع تماماً، وبدأت أجواء الرعب.

ليلة كاملة من حركة الناس في العتمة، على غير هدى يسيرون، أطفال ونساء ورجال عجزة، الكل يبحث عن وجهة في هذا العماء الكامل.

وقتئذ، بدا واضحاً أن قراراً اتُخِذ بشأن مدينة خان يونس التي، بطبيعة الحال، لم تتوقف النيران من بحرها وسمائها منذ بدأ العدوان على قطاع غزة، ولكن القرار يخصّ هجوماً بريّاً من شرق المدينة، عبوراً على جثث البلدات الوديعة الكائنة بمحاذاة الحدود وما بعدها وصولاً إلى وسط المدينة، الوسط الذي ظل حيوياً ضاجّاً بالناس والبيع والشراء، إلى مساء الليلة التي تغيرت فيها ملامح الحياة في المدينة.

الأصوات ذاتها كل ليلة، تزداد وتيرتها بعد منتصف الليل، وتظل بين قرار وجواب إلى ذروة الحلكة قبيل الفجر، ثم تهدأ. كل شيء يأخذ نفساً عميقاً إلى أن تنفجر الأصوات مرة أخرى من كل مكان!

حتى طال القصف بيتنا ليلة العشرين من ديسمبر الماضي. اختفت الطوابق العلوية منه، كأنها لم تكن من قبل، ولا زلت مندهشاً من كيفية نزول السقف قطعة واحدة إلى الإسفلت، كأن يداً حملته بعناية وأنزلته كما هو. كانت الإصابات طفيفة من الأهل والجيران، ما بين كسور وحروق وجروح. أظن أن قوة الانفجار كانت أفقية، لذا فقد تضرّرت واجهات بيوت الجيران، حتى أن الشظايا وصلت إلى مقر جمعية الهلال الأحمر المكتظ بالنازحين. فيما بعد، قصفوا مبنى الهلال أكثر من مرّة، وأصابوا وقتلوا من النازحين بالكواد كابتر وقذائف المدفعية التي تقترب يوماً بعد يوم، حتى أنك بت تسمع صوت الدبابات بشكل واضح ليلاً. ربما تصل الدبابات التي ما زالت تتقدّم إلى موقع بيتنا خلال الساعات أو الأيام المقبلة.

لا زلنا ننتظر من عالم، بلا ازدواجية معايير، أن يقدّم الاحتلال وجيشه إلى المحكمة الدولية، وأن يتخذ العدل مجراه قبل أن يذهب العالم برمته إلى الجحيم، من أجل مكاسب شخصية لنتنياهو وإطالة عمره السياسي

بعد قصف البيت غادرنا!

هل يوجد مكان آمن كما يدّعي جيش الاحتلال؟ الاجابة لا، لا يوجد مكان آمن، ومع ذلك ابتعدنا كيلومتراً نحو الغرب، تفرّقت العائلة الممتدة إلى خيام ومراكز إيواء، على أمل أن يتوقف قريباً هذا الإجرام بحق ما يزيد عن 2.3 مليون فلسطيني في غزة!

حتى الآن 111 صحفياً قُتلوا لئلا ينقلوا الحقيقة، وكذلك 7898 طفلاً، 748 من المسنين، وهناك 7800 شخص مفقود. هذا الأرقام ليست نهائية بسبب استمرار عدوان الاحتلال الإسرائيلي.

تذكر دائماً أن الفلسطينيين ذهبوا إلى السلام قبل ثلاثين عاماً، ووقعوه عندكم في "أوسلو"، ومنذ ثلاثين عاماً والاحتلال الإسرائيلي يعمل على إفشال عملية السلام، بمزيد من مصادرة الأراضي في الضفة الغربية وإقامة المستوطنات عليها، وفصل الأرض الفلسطينية عن بعضها البعض، وإحكام الحصار الشامل على قطاع غزة منذ ما يزيد عن 17 سنة.

السلام سيكون عندما تعود الحقوق كاملة إلى أصحابها، وعندما يفرض العالم الحل السلمي على هذا الاحتلال المنفلت.

صديقك يوسف


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard