شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
تمرّد وتعددت هوياته في كتب التاريخ …

تمرّد وتعددت هوياته في كتب التاريخ … "الثائر بأمر الله" أبو ركوة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 5 أكتوبر 202302:52 م

في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله، كانت الدولة الفاطمية على موعد مع ثورة تزعّمها رجل من بني أمية يُدعى "أبو ركوة"، جمع الناس حوله في مدينة برقة، مستغلاً في ذلك سوء الأوضاع السياسية والاجتماعية، فحقق انتصارات جزئيةً على جيوش الخلافة، واتجه بجيشه إلى مصر عازماً القضاء على الدولة الفاطمية.

وتعددت روايات المؤرخين الخاصة بنسب أبي ركوة، فمنهم من قال إنه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الأموي، ومنهم من قال إنه يقرب هشام بن الحكم الأموي صاحب الأندلس، ومنهم من قال إنه الوليد بن هشام ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل، والذي كان مرشحاً للحكم بعد وفاة أخيه الحكم بن عبد الرحمن، لكنه قُتل في مؤامرة، حسب ما يذكر الدكتور محمد حسين محاسنة، في دراسته "ثورة أبي ركوة ضد الخلافة الفاطمية (395-397 هـ/ 1005-1007 م)".

هروب أبي ركوة من الأندلس

أياً كان نسب أبي ركوة، فهناك اتفاق على أنه ينتمي إلى البيت الأموي. وبحسب محاسنة، وُلد هذا الرجل في الأندلس سنة 354 هـ/ 965 م، وعاش فيها فترةً من الوقت إلى ما بعد وفاة الخليفة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر، حيث بدأت مطاردة الظاهرين من أفراد البيت الأموي الذين يُخشى من تطلعهم إلى الوصول للخلافة.

في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله، كانت الدولة الفاطمية على موعد مع ثورة تزعّمها رجل من بني أمية يُدعى "أبو ركوة"، جمع الناس حوله في مدينة برقة، مستغلاً في ذلك سوء الأوضاع السياسية والاجتماعية

وكان الحكم المستنصر قد أوصى لابنه هشام المؤيد، بولاية العهد قبل وفاته، فلما توفي كان هشام صغيراً وعمره 12 سنةً، فعُقدت له البيعة سنة 366 هـ/ 976 م، وكان ينافسه على الخلافة عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر الذي كان يرى أنه أحق بها من هشام الصغير.

وفي تلك الأثناء، كان يتولى تدبير أمور هشام المؤيد، حاجبه المنصور محمد بن أبي عامر، فأخفاه عن الناس، واستأثر بالحكم، وقام بقتل المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، ثم تتبّع أهله ومن يصلح منهم للحكم، فقتل بعضهم، وهرب البعض الآخر، وكان أبو ركوة بين من هربوا من قرطبة خوفاً من القتل بسبب ملاحقة المنصور بن عامر، وكان عمره وقتها عشرين سنةً، كما يروي محاسنة.

وسُمّي أبو ركوة بهذا الاسم، لأنه كان يحمل ركوة ماء في أسفاره بصورة دائمة، وكان يستخدمها للوضوء، وهذه هي طريقة أهل الصوفية.

بداية الثورة

خرج أبو ركوة بحالة سيئة يجوب البلاد، وتوجه في بداية الأمر إلى مدينة القيروان، وأقام فيها مدةً من الوقت، واهتم بالتعليم، ففتح فيها مكتباً يُعلّم الصبيان فيه القرآن الكريم، ثم توجه إلى الإسكندرية، ثم إلى أرياف مصر والفيوم، ودرس الحديث في مصر، بحسب محاسنة.

وأخذ أبو ركوة يتجول بعد ذلك في بلدان المشرق، فسافر إلى الحجاز بقصد الحج، ثم إلى اليمن فالشام، ومن هناك عاد مرةً أخرى إلى مصر، ثم نزل على قبيلة بني قرّة (في الأراضي الليبية حالياً)، وكان بينهم معلم يعلّم الصبيان.

وفي ذلك الوقت، كانت العلاقة سيئةً بين بني قرّة والحاكم بأمر الله، بعدما جرّد حملةً عسكريةً إليهم عام 395 هـ/ 1005 م، بقيادة أبي الفتيان التركي لتمردهم عليه، فعامل هذا القائد من وقع في قبضة يده من بني قرة بغلظة بالغة، وحبس جماعةً من أعيانهم، وقتل بعض رجالهم، وأحرقهم بالنار.

سُمّي أبو ركوة بهذا الاسم، لأنه كان يحمل ركوة ماء في أسفاره بصورة دائمة، وكان يستخدمها للوضوء، وهذه هي طريقة أهل الصوفية.

واستغل أبو ركوة هذه الظروف وعمل على استمالة بني قرّة، وأعلن أنه من بيت الخلافة الأموية، ودعا للقائم من ولد هشام بن عبد الملك، أي من ولد أبيه بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، ثم دعا لنفسه، فوافقوه وبايعوه بالخلافة سنة 395 هـ/ 1005 م، ولقّب نفسه بـ"الثائر بأمر الله المنتصف من أعداء الله"، كما تلقّب بلقب "أمير المؤمنين الناصر لدين الله"، والكلام لمحاسنة.

ثم دعا أبو ركوة القبائل العربية والبربرية في المناطق المجاورة، فاستجابت له قبائل لواتة ومزاتة وزناتة، في وقت كانوا فيه بحاجة إلى رجل يجمعهم ويلتفون حوله ضد الخطر الذي كانوا يحسّون به من دولة الخلافة الفاطمية وتزمت الحاكم بأمر الله في معاملتهم.

وكان الناس يدخلون عليه في كل يوم، ويسلمون عليه بالخلافة، ثم يجلس بينهم ويقول: "أنا واحد منكم، وما أريد شيئاً من هذه الدنيا ولا أطلبها إلا لكم، وليس معي مال أعطيكم إنما لي عليكم طاعة، وإن نصرتموني نصرتم أنفسكم، وإن قاتلتم معي أخذتم حقكم بأيديكم"، حسب ما نقل محاسنة عن عبد الرحمن بن خلدون في كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر".

وبحسب محاسنة، ظل أبو ركوة يطوف قرى برقة ويأخذ البيعة منهم، حتى قوي أمره وتخوف منه عامل برقة وكان يُدعى "صندل"، فكتب إلى الحاكم يخبره بخبر أبي ركوة واجتماع القبائل إليه والتفافهم حوله، فأمره الحاكم بالكف عنهم وعدم التعرض له حتى يكثر أتباعه.

ولما كانت دعوة أبي ركوة حديثةً، فقد كان بحاجة إلى الأموال لينفق منها على الحاجات المختلفة، لهذا جمع له أعوانه مئتي ألف دينار، وصادر أموال رجل يهودي اتُّهم بشيء من الودائع، فأخذ منه مئتي ألف أخرى، ثم سكّ النقود من الدراهم والدنانير وكتب عليها ألقابه، ثم خطب في الناس يوم الجمعة، وتجرأ على الخلافة الفاطمية، فلعن الحاكم بأمر الله في خطبه، واتفق من وقف إلى جانبه من بطون القبائل العربية والبربرية على الجهاد في سبيل الله، وأن يكون لأبي ركوة وأنصاره ثلث الغنائم، ولبني قرّة وحلفائها الثلثان.

هزيمة جيوش الخلافة

سار أبو ركوة في جموعه قاصداً الوالي الفاطمي في برقة، واشتبك معه في معركة هزمه فيها، وأجبره على الفرار إلى الإسكندرية، واستولى على ذخائره وأمواله، حسب ما ذكر الدكتور عبد الله محمد جمال الدين، في كتابه "الدولة الفاطمية... قيامها ببلاد المغرب وانتقالها إلى مصر".

وانزعج الخليفة الحاكم لِما حدث لواليه، ورغب في التخلص من هؤلاء الثائرين على حكمه، فجهز جيشاً في خمسة آلاف فارس، وجعل عليه قائداً تركياً يُدعى ينال الطويل، وأمدّه بالزاد والعطايا ومنحه مئة ألف دينار.

وبحسب جمال الدين، أخطأ الخليفة الحاكم باختياره "ينال"، لقيادة هذا الجيش، وباختيار معظم جنوده من "كتامة"، التي كانت مستوحشةً منه، لأنه هو الذي تولّى قتل رؤسائها بأمر الحاكم، ولم يكن متوقعاً أن تخلص تحت قيادته.

وأياً كان الأمر، فقد سار القائد الفاطمي إلى الإسكندرية، وتقدّم منها إلى مكان يُعرف بـ"ذات الحمام"، وبينه وبين برقة صحراء شاقة قليلة الماء يحتاج السالك فيها إلى الطعام والماء.

ولما عرف أبو ركوة أن الجيش الفاطمي سيعبر الصحراء إليه، خرج من برقة في ألفي فارس، فردم الآبار وغور الماء، وعرّض العسكر الفاطمي بذلك لمأساة.

وبرغم ذلك التقى الجيشان، وقتل الفاطميون عدداً من جيش أبي ركوة أول الأمر، غير أن أمراً حدث فتّ في عضد الفاطميين، ومكّن عدوّهم من الانتصار، تمثّل في استقطاب أبي ركوة لعدد من جماعة الكتاميين، فانتصر جيش أبي ركوة وأسروا قائد الجيش الفاطمي نفسه وقطّعوه إرباً، وامتلأت أيديهم من المغانم والأموال، فأخذوا المئة ألف دينار التي كانت مع ينال وقويت نفوسهم، وترددت سراياهم تنهب وتسلب، كما يروي جمال الدين.

وعلم الخليفة بما حدث لعسكره فتألم، وزاد من ألمه أن الجنود والشعب في مصر فرحوا وسُرّوا بما جرى، وكان ذلك دافعاً للخليفة في أن يتقرب إلى الناس ويعدل في سياسته، ففتح بابه للناس، وشرح لهم جرائم من قتلهم، وكيف كانوا أصحاب جنايات خفيت على الجمهور، ونهج معهم نهجاً جديداً واستشارهم في ما يجب فعله.

وبناءً على ذلك، استدعى الحاكم بأمر الله جنوداً من قبائل الحمدانية ببلاد الشام، وكذلك جنوداً من بلاد الديلم، وبلغ عددهم ستة عشر ألفاً ما بين فارس وراجل، ومنحهم الأموال والمعدات وخلع عليهم، وخرج بنفسه لوداعهم وظل معهم حتى عبروا إلى الجيزة، واختار الخليفة لقيادة ذلك الجيش الفضل بن عبد الله، ومنحه خمسمئة ألف دينار، وسلاحاً وثياباً.

وباء ومؤشرات مجاعة

ويذكر الدكتور أحمد السيد الصاوي، في كتابه "مجاعات مصر الفاطمية... أسباب ونتائج"، أن ثورة أبي ركوة تزامنت مع انتشار وباء في مصر، وانخفاض مستوى النيل، ومن ثم تخوف الحاكم بأمر الله من حدوث مجاعة في ظل انتشار الوباء، لذا اتخذ إجراءات عدة حتى لا تسوّل لأحد نفسه أن يستغل هذه الملابسات مجتمعةً، ويحتكر سلعاً أو يرفع الأسعار.

ومع ذلك، ارتفعت الأسعار عندما تحرّك أبو ركوة نحو مصر، وهدد الإسكندرية، ثم أعمل السلب والنهب في ريف مصر، متعاوناً في ذلك مع الأعراب الذين دأبوا على الإغارة على سكان الدلتا، متمردين بذلك على السلطة المركزية التي أبوا أن ينضووا تحت لوائها بشكل مطلق.

وخلال الإعداد للحرب اضطر الحاكم بأمر الله إلى التخلي عن تشدده في أعمال الحسبة، فأقبل المصريون على الانضمام إلى جيشه، خاصةً بعد أن عرفوا بالتخريب الذي أحدثته جيوش أبي ركوة، ووضعوا أموالهم كلها تحت تصرف الخليفة، بل توقفت الأسعار عن الزيادة كدليل على صدق معاونة المصريين للحاكم، يقول الصاوي.

نهاية الثورة

ويذكر الدكتور عبد المنعم ماجد في كتابه "الحاكم بأمر الله... الخليفة المفترى عليه"، أن هناك روايات تاريخيةً ذكرت أن الحاكم وقتذاك عزم على الفرار إلى الشام، ونقل خزائنه إلى بلبيس شرق مصر، إلا أنه أشير عليه بالعودة فعاد، وعلى النقيض تذكر روايات أخرى أنه تميّز بالثبات والشجاعة، فكان يدعو الناس للجهاد، ويخطب على المنابر.

أياً كان الأمر، فقد هزم جيش الحاكم أبا ركوة في الفيوم، فانسحب أبو ركوة إلى الجيزة للاستيلاء عليها، بحكم أن جنود الحاكم في الفيوم، فجاء إلى أبي ركوة عامل الجيزة فهزمه، وبناءً على ذلك اضطر أبو ركوة إلى العودة إلى الصعيد، منتظراً أن يأتيه المدد من كل مكان، لا سيما من عرب الصعيد.

وبحسب ماجد، رجع أبو ركوة بأكثر من سبعين ألفاً بين فارس وراجل لمقاتلة الفضل بن عبد الله، الذي كان قد رجع إلى القاهرة، فحدثت موقعة فاصلة في مكان يُعرف بـ"رأس البركة"، فهُزم أبو ركوة ومن معه من العرب، وقُتل أكثر البربر، وتفرقت الطوائف التي انضمت إليه وجاءت إلى الحاكم تائبةً، ولم يفلت إلا نفر قليل من النساء والصبيان حُملوا أسرى إلى القاهرة، وأُطلق سبيلهم، لا سيما أن الجدري والوباء كانا قد تفشيا فيهم.

يذكر الدكتور حسن خضيري أحمد في كتابه أنه برغم فشل ثورة أبي ركوة في القضاء على الدولة الفاطمية، إلا أنها أشاعت الرعب والفزع، وأدت إلى غلاء الأسعار، وندرة الأقوات

وفي تلك الأثناء هرب أبو ركوة إلى النوبة، وتم القبض عليه، ولما وصل أبو الفضل به إلى القاهرة احتفل الحاكم بأمر الله بهذا النصر المشهود من مكان مرتفع، فشهّر بأبي ركوة على جمل، وقد ألبسه طرطوراً طويلاً وخلفه قرد يصفعه على رأسه.

وعندما أُنزل أبو ركوة من جمله كان ميتاً، وإن كانت هناك روايات أخرى تذكر أن عنقه ضُربت، ثم رُفع على الأعواد وصُلب، وأُشعل العود الذي صُلب عليه، وكان ذلك في جمادى الآخرة 397 هـ/ شباط/فبراير – آذار/مارس 1007 م، كما يروي ماجد.

تداعيات ثورة أبي ركوة

ويذكر الدكتور حسن خضيري أحمد في كتابه "علاقات الفاطميين في مصر بدول المغرب (362-567 هـ/ 973-1171 م)"، أنه برغم فشل ثورة أبي ركوة في القضاء على الدولة الفاطمية، إلا أنها أشاعت الرعب والفزع، وأدت إلى غلاء الأسعار، وندرة الأقوات، فضلاً عن آثارها النفسية السيئة على قطاعات الشعب المصري، ويتجلى ذلك من وصف تقي الدين المقريزي، في كتابه "اتّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء"، حيث ذكر "والناس جلوس في الشوارع، وعلى أبواب الدور... عظم البكاء والضجيج على شاطئ النيل لكثرة القتلى في العسكر".

وينقل خضيري عن المقريزي قوله أيضاً "وتزايد سعر الدقيق وروايا الماء، وازدحم الناس عليها". كما تركت الثورة آثاراً سنيةً معاديةً للفاطميين في مناطق نفوذهم في المغرب الأدنى.

وبحسب خضيري، كان على الخليفة الحاكم أن يعيد موازينه في السياسة المعادية لأهل السنّة في مصر، فبعد القضاء على هذه الثورة، أمر بمحو أمره بسبّ السلف ولعنهم، والذي أمر بنقشه في سنة 395 هـ/ 1004 م على جدران المساجد، كما أصدر أوامره إلى أصحاب الشرطة بالقبض على من يسبّ السلف. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image