بدأت معاناة أميرة في تغذية ابنتها منذ الأسابيع الأولى بعد الولادة، إذ حارت الأم في التعرف على أسباب التقيؤ المتكرر والإسهال الشديد كلما أرضعت ابنتها. وكشفت جولات متعددة في عيادات أطباء الاطفال ومراكز التحاليل عن أن طفلتها مصابة بحساسية تجاه بعض الأصناف الغذائية، التي تنتقل إليها من طعام أمها عند الرضاعة. ولأن البرامج الطبية المخصصة للتعرف على الحساسيات الغذائية للأطفال عبر الرضاعة الطبيعية غير موجودة ضمن البرامج الطبية المعتمدة في مصر، لم تجد أميرة سبيلاً لمعرفة الأغذية التي تثير ردة الفعل العنيفة تلك في جسد الطفلة جراء ما تتناوله في طعامها، ولا كيف تتعامل مع تلك الحساسية مع استمرار الرضاعة، فتراجعت الأم عن قرارها بالاعتماد على الرضاعة الطبيعية في تغذية ابنتها وبدأت في تقديم اللبن الصناعي المخصص للرضع المصابين بالحساسيات الغذائية لابنتها، مضيفة عبئاً جديداً لميزانية الأسرة.
تراوح أسعار حليب الأطفال مرضى حساسية اللاكتوز (الألبان)، في مصر، بين 320 و 375 جنيهاً مصرياً للعلبة التي تحتوي على 400 غرام حليب، ونحو ضعف السعر للعلبة المكونة من 800 غرام، ويحتاج الرضيع بدءاً من الشهر الثاني لنحو ست علب حليب شهرياً، وبدءاً من الشهر الرابع يكفيه عشر علب شهرياً في المتوسط، ما يعني أن تكلفة إطعام طفل في الشهر الرابع من العمر تتخطى ضعفَي الحد الأدنى للاجور في مصر البالغ 3500 جنيه.
تظهر الحساسية ضد أنواع من الطعام غالباً بعد فُطام الأطفال، إلا أن الأطفال المصابين بالحساسية منذ الولادة، ويثير حليب الرُضع أو الرضاعة الطبيعية لديهم ردود فعل جسدية مخيفة لوالديهم، آخذة أعدادهم في الازدياد. فما هو التحرك السليم في ظل غياب برامج الكشف المبكر عن حساسية الطعام لدى الأطفال؟
ليس الحليب وحده
كبرت ابنة اميرة وصارت في الرابعة من العمر ولا تزال الحساسية مستمرة، ما دفع الاسرة لوضع برنامج غذائي خاص: "منعنا البيض والألبان ومشتقاتها والسمن والسمك واللحوم الحمرا والفراخ، عشان نعرف سبب الحساسية، وبعدها اكتشفنا أن عندها حساسية الصويا، ومادة ليسيثين الصويا بتدخل في صناعة منتجات كتير زي الشوكولاتة والحلويات والزيوت الخليط واللحوم المُصنّعة والحلاوة الطحينية، ومعظم الحاجات المُغلفة".
تحكي أميرة التي اضطرت بعد فِطام ابنتها، إلى منعها من تناول من الأطعمة التي تسبب لها الحساسية، أنه إذا لم تختف لديها الحساسية في فترة الطفولة فإنها ستحتاج لأخذ أمصال حين تكبر.
وبحسب الدكتور أمجد الحداد، استشاري الحساسية والمناعة والعلاج المناعي بالأمصال، فإن أعراض "حساسية الطعام"، تتضمن الغثيان والقيء والمغص، وظهور حكة وعطاس وانسداد في الأنف واحمرار في الجلد وأرتكاريا، وانتفاخات بالفم والشفتين والحلق "الوذمة الوعائية"، نتيجة توسع الأوعية الدموية بسبب إفراز مادة الهستامين وزيادة خروج السوائل من الدم إلى الجلد.
وتؤكد أميرة أن أسرتها منذ 4 سنوات لم تشتر طعاماً جاهزاً أو مُصنّعاً، لا سيما أن البدائل الغذائية الآمنة غالية الثمن، وأن المطاعم لا تُخصص وجبات خالية من مُسببات الحساسية، مما يحرم طفلتها من عيش طفولتها بشكل طبيعي، فهي لا تستطيع أن تأكل قطعة حلوى كأي طفل.
لأن البرامج الطبية المخصصة للتعرف على الحساسيات الغذائية للأطفال عبر الرضاعة الطبيعية غير موجودة ضمن البرامج الطبية المعتمدة في مصر، لم تجد أميرة سبيلاً لمعرفة الأغذية التي تثير ردة الفعل العنيفة تلك في جسد الطفلة جراء ما تتناوله هي (الأم) في طعامها
صعوبات التشخيص
ويوضح الحداد أن حساسية الطعام تنتشر بصورة أكبر لدى الأطفال خلال السنة الأولى من العمر، بسبب استعمال لبن البقر كمكون في الحليب الصناعي، ثم تبدأ بالتناقص كلما ازداد عمر الطفل، باستثناء بعض الأطعمة التي تستمر الحساسية تجاهها طوال العمر كالفول السوداني والمكسرات والسمك والمحار، لافتاً إلى انتشار حساسية الطعام في البالغين بمعدل 1.4%، مقارنة بحساسية الطعام لدى الأطفال، ويجب توفير الطعام البديل لتحقيق التوازن الغذائي للمريض.
ويواجه مرضى حساسية الطعام صعوبات وأخطاء التشخيص، إذ تتشابه أعراضها مع أمراض أخرى، فقبل عدّة أشهر فوجئت “منار” بحالة القيء المتكرر لدى طفلها الرضيع وهو ما دفعها لزيارة الأطباء، ليتم تشخيص طفلها في البداية بحساسية اللاكتوز، لكنه لم يتقبّل تناول الحليب الاصطناعي المضاد للحساسية كما لم يقبل إدخال بعض أصناف الطعام بجانب الرضاعة الطبيعية.
في ذلك الوقت أجبر الطبيب "منار" على التوقف عن تناول الألبان ومشتقاتها والبيض والباذنجان واللحوم والبقوليات، بدعوى أنها تضر ابنها، لتكتشف في النهاية أنها هي وطفلها كانا ضحية للتشخيص الخاطئ. تقول: “منعت كل الأكل اللي بيضر ابني، ولاقيت الموضوع مطوّل، أخدته عند دكتور جهاز هضمي أطفال، وبعد الفحوصات والتحاليل، طلع إن عنده ارتجاع مريء صامت”.
يواجه مرضى حساسية الطعام صعوبات وأخطاء التشخيص، إذ تتشابه أعراضها مع أمراض أخرى، فقبل عدّة أشهر فوجئت “منار” بحالة القيء المتكرر لدى طفلها الرضيع وهو ما دفعها لزيارة الأطباء، ليتم تشخيص طفلها في البداية بحساسية اللاكتوز، لكنه لم يتقبّل تناول الحليب الاصطناعي المضاد للحساسية كما لم يقبل إدخال بعض أصناف الطعام بجانب الرضاعة الطبيعية
البدائل الغذائية غالية للغاية
رحلة بهاء مشعل مع حساسية الطعام بدأت منذ أن بلغ عمره سنة واحدة إذ بدأ في فقدان الوزن وأصيب بالإسهال الشديد وعانى من تساقط الشعر، لكن ماهية مرضه لم يتم التعرف عليها رغم زيارته للعديد من الأطباء، حتى وصل لعمر الخامسة عشرة، فتم تشخيص إصابته بمرض السيلياك (حساسية تجاه المنتجات المصنعة من الحبوب وخاصة القمح والشعير المستخدمان في تصنيع الخبز) عام 2005، بعد اجراء تحليل الدم الخاص بالحساسية ومنظار طبي للتأكد من حساسيته للغلوتين.
ويعد داء السيلياك أحد أشكال حساسية الطعام، وهو ناتج عن رد فعل جهاز المناعة في الجسم تجاه بروتين الغلوتين الموجود في الأطعمة المصنوعة من: القمح والشعير والشليم والشوفان.
في ذلك الوقت لجأ بهاء ووالدته لإعداد خبز من الذرة والحلبة، ثم بدأ يتعلم وصفات لصناعة الأطعمة البديلة بإمكانات بسيطة، وفي عام 2015 أطلق بهاء، المُلقّب بسفير السيلياك، مبادرة لإعداد البدائل الغذائية الخالية من الغلوتين منزلياً، بدءاً من الخبز والمعجنات ووصولاً للحلويات كالآيس كريم والمصاصات، ومساعدة غيره على الوصول لمنافذ بيع تلك المنتجات.
ويلفت بهاء إلى صعوبة الوصول للمنتجات البديلة ويبيّن أن غالبية المتاح بالأسواق منتجات مستوردة أسعارها مرتفعة للغاية ولا تعد في المقدرة الشرائية للمواطن العادي، وفي أسيوط حيث يعيش يوجد منفذ واحد لبيع الخبز الخالي من الغلوتين، تابع لوزارة الزراعة، ويفترض أنه مُدعّمً لكنه يبيع الرغيف الواحد بأربعة جنيهات إلاّ ربعاً، وجودته أصبحت سيئة.
ويراوح سعر نصف الكيلو من الدقيق الخالي من الغلوتين في مصر بين 65 و 95 جنيهاً، بينما يبلغ سعر المكرونة غلوتين فري، وزن 350 غراماً نحو 60 جنيهاً، في حين يراوح سعر الحليب الخالي من اللاكتوز بين 90 و 150 جنيهاً للتر الواحد.
يراوح سعر نصف الكيلو من الدقيق الخالي من الغلوتين في مصر بين 65 و 95 جنيهاً، بينما يبلغ سعر المكرونة الخالية من الغلوتين وزن 350 غراماً نحو 60 جنيهاً، في حين يراوح سعر الحليب الخالي من اللاكتوز بين 90 و 150 جنيهاً للتر الواحد
حاجة المرضى للدعم الحكومي
شيماء عبدالله، رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية لمرضى السيلياك، تبيّن أن حساسية الغلوتين لا ترتبط بعمر مُعين فقد يصاب بها الأطفال وكبار السن؛ فالأطفال الذين يعانون من فرط الحركة وتشتت الانتباه أو اضطراب طيف التوحد أو التأخر الدراسي أو توقف نمو الطول والوزن وكذلك مرضى السكري، ومن لديهم أسباب وراثية أو نفسية وعصبية، مُعرّضون للإصابة بها، موضحة أن حساسية الغلوتين ترتبط بالسيلياك، وعندما يأكل المريض طعاماً يحتوي على تلك مادة يبدأ الجهاز المناعي بمهاجمتها مما يؤدي لتهتك وضمور الأهداب التي تعمل على امتصاص العناصر الغذائية من الطعام بالأمعاء الدقيقة، فيحدث للمريض انتفاخ بالبطن وإسهال وقيء شديد ثم فقر الدم وتقرحات بالفم.
يؤكد الدكتور أحمد ممدوح، استشاري التغذية العلاجية وتغذية التوحد والاضطرابات النمائية والمُدرس بكلية العلاج الطبيعي، أن هناك علاقة بين الحساسية الغذائية والتوحد- وهو اضطراب نمائي يصيب الأطفال تحت سن الثلاث سنوات، ويرتبط بالجهاز العصبي والهضمي والمناعي
“شيماء” وهي مريضة سيلياك شُخّصت في عمر الـ34، وتعاني من حساسية الغلوتين، توضح أن تلك المادة تدخل في العديد من المنتجات الغذائية كالعصائر والحلويات والمُعجنات والمعكرونة والشيكولاتة والفانيليا والخميرة وفي صناعة معجون الأسنان وبعض الأدوية، وأن البدائل الخالية من الغلوتين لم تكن متوفرة بالأسواق المصرية خلال السنوات الماضية، وهي الآن موجودة لكن أسعارها مرتفعة للغاية. فعلى سبيل المثال يبلغ سعر كيلوغرام من الدقيق الخالي من الغلوتين نحو 100 جنيه مصري، مؤكدة أن بعض الأسر يكون لديها أكثر من فرد يعانون من الحساسية، ونظراً لارتفاع أسعار البدائل الغذائية فإنهم يضطرون لكسر الحمية وتناول الخبز العادي والأطعمة تحتوي على الغلوتين، رغم المخاطر الصحية والآثار الجانبية لذلك، بينما تشتري بعض الأمهات الدقيق وتقوم بإعداد الخبز والمعجنات منزلياً، مشيرة إلى أن كلية الزراعة لديها منفذ مُدعّم نسبياً لبيع الخبز والمخبوزات الخالية من الجلوتين، وكذلك بعض المستشفيات مثل: أبو الريش والزقازيق الجامعي، وهي رخيصة السعر لكن جودة الدقيق الذي تُصنع منه منخفضة.
معاناة شيماء للعثور على البدائل الغذائية الآمنة لمرضى الحساسية وارتفاع تكاليفها، جعلها تطلق مبادرة في الجمعية المصرية لمرضى السيلياك، خلال العام 2016، لإعداد رغيف الخبز وبعض المنتجات الغذائية والمُعجّنات الخالية من الجلوتين، مع مجموعة من المتطوعين/ المتطوعات في مطبخ الجمعية، ثم بيعها بسعر التكلفة لمرضى السيلياك وحساسية الطعام والأمراض المناعية، ويقوم متطوعين بنقلها إلى المحافظات المختلفة، وهي تُطالب الحكومة بإنشاء مصنع للدقيق الخالي من الجلوتين وتوفير منافذ مُدعّمة لبيع تلك المنتجات، وصرفها ضمن بطاقة السلع التموينية للمرضى.
التوحد وحساسية الطعام
بدوره يؤكد الدكتور أحمد ممدوح، استشاري التغذية العلاجية وتغذية التوحد والاضطرابات النمائية والمُدرس بكلية العلاج الطبيعي، أن هناك علاقة بين الحساسية الغذائية والتوحد- وهو اضطراب نمائي يصيب الأطفال تحت سن الثلاث سنوات، ويرتبط بالجهاز العصبي والهضمي والمناعي، ويعاني 90% من أطفال التوحد، نفاذية الأمعاء وهي عبارة عن خلل في الجدار الحامي للجهاز الهضمي الذي يحتفظ بالطعام لمدة طويلة، فلا يحدث امتصاص للطعام بشكل طبيعي وتتسرب أجزاء الطعام غير المهضوم للجهاز الدوري وتسبب حساسية غذائية.
ويوضح ممدوح أن بروتين اللبن “الكازيين” وبروتين القمح والشعير “الجلوتين”، والصويا، هي أكثر مسببات التحسس عند المصابين بالتوحد، وأحياناً البيض والأرز؛ لذا يجب إجراء اختبار الحساسية ويتمثل العلاج في إعادة ترميم الأمعاء ومنع مسببات التحسس مدة 6 أشهر.
عبء مالي تتحمله الأسر
ارتفاع أسعار البان الأطفال المُخصصة للرُضّع المصابين بحساسية اللاكتوز وكذلك البدائل الغذائية لمرضى حساسية الطعام، دفعا المفوضية المصرية للحقوق والحريات لتسليط الضوء على معاناة أسر وأهالي الأطفال في محاولتهم توفير الغذاء المناسب لأبنائهم، وعلاجهم بالطريقة الصحيحة التي تحد من تدهور صحة الطفل؛ وذلك في تقريرها الذي نشرته في سبتمبر/ أيلول الماضي، بعنوان "حساسية الطعام… الانتشار المتزايد وأهمية الوعي والتشخيص الدقيق".
التقرير يوضح العبء الاقتصادي الذي تتحمله الأسر، سواء في حالة الرضاعة الطبيعية أو الرضاعة الصناعية، فلا توجد بدائل غذائية متاحة بأسعار مناسبة للأطفال فوق سن الستة أشهر، ويعد اللبن الصناعي العلاجي غير المدعم عبئًا على الأسرة بسبب تكلفته المرتفعة، مستعرضاً المشكلات التي تواجه الأسر في الحصول على اللبن الصناعي العلاجي المدعم من الوزارة، سواء من خلال الإجراءات أو قلة نقاط البيع أو عدم صرف اللبن لجميع المراحل العمرية، إلى جانب مدى التزام الحكومة المصرية بتقديم الدعم اللازم للمصابين.
كما يناقش الإصابة بحساسية الطعام وتأثير ذلك على الأمهات والأطفال على وجه الخصوص، والأحوال الصعبة التي تعيشها الأسر في محاولات النجاة من المرض، إضافة إلى معاناة الأمهات أثناء عملية منع منتجات الألبان ومشتقاتها، سواء على صعيد الصحة الجسدية أو النفسية.
ودعت المفوضية في تقريرها الحكومات والجهات المعنية توفير الدعم اللازم للأسر والأطفال المصابين، سواء من خلال توفير اللبن الصناعي المدعم بأسعار معقولة وتسهيل إجراءات الحصول عليه، أو من خلال توفير الدعم النفسي والتوعية للأمهات، وتقليل العبء على الأسر والأطفال، وضمان حق الأطفال في الغذاء والصحة والحياة الكريمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...