اعتاد عادل الخروج يومياً إلى شرفته ساعة انقطاع الكهرباء. ينفث دخان سيجارته المكتومة، سامعاً صوت بلغمه المتراكم فوق صدره معجلاً بموته. تضاء المساحة أمامه عن طريق النور الوافد إليه من لوحة الإعلانات الرقمية المعلقة في مدخل المدينة الكبرى. يسمع شكوى زوجته من الحرّ الذي أيقظها، فيلعنهما في سره.
يطفئ سيجارته في سور الشرفة. يدخل إلى الظلام القاتم للشقة. يبحث في ضوء هاتفه –الذي نسي شحنه - عن الكشاف. يراقب حركة ظل زوجته في الغرفة وهي ترتدي ملابسها. ينسى الكشاف ويدنو منها. يحيط خصرها بذراعه. يقبل عنقها. تتمنع، فيضمها إليه أكثر. لم يلمسها منذ قرابة شهر. يهمس في أذنها: "وحشتيني". تتخلص من يده الملفوفة حول خصرها: "هتأخر على ميعاد دكتور ماما".
تتركه هائجاً وتخرج باحثة بدورها عن الكشاف. تجده قرب باب الشقة. تلف طرحتها في ضوئه أمام مرآة الصالة. تخبره بمكانه وتغادر. يفصل هاتفه في الطريق إلى باب الشقة. يتعثر في طرف السجادة، فيلعن في سره زوجته والحكومة. تسقط نظارته عن عينيه وتنبعج خلال نهوضه. يخرج إلى الشرفة مرة أخرى مشوش الرؤية، غارقاً في عرقه. يشعل سيجارة جديدة متسائلاً عن سبب رغبته في الوصول إلى الكشاف من الأساس.
يحيط خصرها بذراعه. يقبل عنقها. تتمنع، فيضمها إليه أكثر. لم يلمسها منذ قرابة شهر. يهمس في أذنها: "وحشتيني". تتخلص من يده الملفوفة حول خصرها: "هتأخر على ميعاد دكتور ماما"... مجاز
سيقضي المتبقي من مدة الانقطاع متأملاً لوحة الإعلانات كعادته. يشاهد كومباوندات يقنع نفسه أنها وهمية، أو إعلانات لأغاني، فيتأمل "روبي" المتراقصة أمامه، حافظاً التواءاتها في ذهنه كي يستمني عليها فيما بعد. حين تنير الكهرباء المنطقة، يخرج إلى القهوة ليقابل صديقه الوحيد، عبد المغني، حتى منتصف الليل. يدخنان ويتشاكيان حول العمل في مصلحة الكهرباء والارتفاع اليومي للأسعار، وإن كان لدى عبد المغني قطعة حشيش يتقاسمانها. يعود بعدها إلى بيته، فيجد زوجته نائمة. يغير إلى الفانلة الحمالات ثم يتسلل إلى الصالة، ليستمني ثم يغسل يديه وينزلق إلى جوارها بحرص حتى لا يوقظها فيتشاجران.
منذ تزوج العام الماضي وتلك هي حياته. لم ينجبا. لا تكف حماته عن الإلحاح من أجل رؤية الحفيد المنتظر. يحمد الله على يتمه ويتمنى دوام عقمه. يغطي بالكاد مصاريف البيت. لا يدخّر قرشاً للمستقبل. تغادر زوجته قبله إلى عملها في وسط البلد، بينما يبدأ صباحه بسيجارة وتأمّل لوحة الإعلانات، على خلفية إذاعة القرآن الكريم في الراديو، كما عودته أمه.
*****
"ده انا افتكرتك مش جي الليلة"، يفزع عادل إثر يد عبد المغني المداهمة لكتفه. يطفئ سيجارته ويطلب كوباً ثانياً من الشاي. نسي شحن هاتفه عند عودة التيار. لا ينتظر عبد المغني رداً. أخرج قطعة الحشيش من جيب بنطاله الجينز الباهت. يبتسم عادل عند رؤيتها معقباً: "ما احنا لسه قابضين". ينتهي عبد المغني من اللف مع وصول الشاي. يشعل السيجارة ويسحب أول نفس قائلاً: "صنف معتبر". يناول عادل السيجارة. يـأخذ نفساً قوياً فيسعل. يعقب صديقه: "وشديد كمان".
يرن هاتف صديقه. يقدمه له بعد ثانية مخبراً إياه بأنها زوجته. حاولت الاتصال به كثيرا، لكن هاتفه مغلق. تخبره بأنها ستتأخر عند الدكتور مع أمها لازدحام العيادة. لم يرد. كرّرت اسمه، فسألها بنفاد صبر عما تريد. استغفر ربه ووافق على مبيتها مع أمها. ليس لديه خيار آخر في كل الأحوال، كحياته التي يعيشها.
لم يتخيل أنه سيصير محروماً بعد الزواج أكثر من قبله. أخذ نفساً آخر. كتمه في تلك المرة سامعاً لنصيحة عبد المغني. لمح قطين يختبئان تحت السيارة المقابلة له. نهض فجأة من مكانه. اتجه نحو السيارة وخبط يده بقوة عليها. هرب القطّان وضحك صديقه: "انت مجنون؟ متسيبهم في حالهم". يحبهم في العادة، لكنه يكرههم اليوم. تمنى تربية قطة في بيتهم، لكن زوجته رفضت لخوفها ونفورها منهم.
طلب كوباً ثالثاً من الشاي مع سيجارة عبد المغني الثانية. سأله: "مش هنشيل عيالك، بدل ما انت ماشي ترازي القطط؟". لم يعد يتقابل مع زوجته. فكر في إجبارها على الاستقالة، لكنه يحتاج إلى مساهمتها في مصاريف البيت. يعود يومياً منهكاً من اللف على البيوت، وفي رأسه تتراكم شتائم ولعنات السكان حول ارتفاع سعر الكهرباء على الرغم من انقطاعها، فيجدها نائمة. يردد للمشتكين: "أنا عبد المأمور"، لكنهم لا يصدقونه. يتناول غداءه وحده ثم ينام هو أيضاً. تغادر زوجته مع ساعة انقطاع الكهرباء وتصطنع النوم ليلاً إن أتى مبكراً إلى الفراش. كانا يفعلانها مرتين في الأسبوع، تباعدت إلى مرة واحدة ثم امتدت إلى مرة شهرياً، تمارسها معه على عجلة منتظرة قذفه بفارغ الصبر. ماذا لو كانت تخونه مع عبد المغني؟
كل شيء ساكن. لا يسمع سوى صفير الهواء في أذنه مختلطا بسرينة مطافي تقترب. ظهرت صورة مرشح الرئاسة على الشاشة. نزع أسلاكاً أخرى صارخاً: "عشان يبطلوا يقطعوها"... مجاز
يسأله صديقه عن فحوى المكالمة، فيجيبه باقتضاب. يعقِّب: "مش أحسن ما يجرالها حاجة وتروح مستشفى، أنت عارف دخول أوضة وصل لكام؟". فكر في الأيام الأخيرة لوالدته التي توفيت العام الماضي بالفشل الكلوي. سمع من أحد السكان بتفشي المرض في البلد إثر مياه النيل الملوثة والأطعمة المسرطنة.
تنقطع الكهرباء فجأة. تترامى اللعنات من كل مكان حول مسببها. يزعق القهوجي ويلوم عادل قائلاً: "متشوفلنا حل في قطع الأرزاق ده". لا يتحكم في أي جزء من حياته، زوجته تفعل ما تريد وتبيت وقتما شاءت عند عائلتها، رئيسه في العمل يخصم من راتبه الهزيل إن تأخر دقيقة عن البصمة الصباحية.
انتفض من مكانه. لم يقم عبد المغني في تلك المرة وراءه، منشغلاً في لف سيجارة جديدة. اتجه إلى عمود لوحة الإعلانات الرقمية. تمزقت أجزاء من بنطاله خلال صعوده السلم الحديدي. سمع أصواتاً تمنع تقدمه. لا يبالي. واصل صعوده ملقياً ببنطاله. بلغ القمة. وقف في المنتصف وراء شاشة العرض. بحث عن الأسلاك، ليسرق الكهرباء. تخيل أن عمله في المصلحة سيساعده، لكنه وجد نفسه أمام مجموعة أسلاك ملونة، لا يفهم ما تفعله. بدأ ينزعها واحداً تلو الأخرى.
كل شيء ساكن. لا يسمع سوى صفير الهواء في أذنه مختلطا بسرينة مطافي تقترب. ظهرت صورة مرشح الرئاسة على الشاشة. نزع أسلاكاً أخرى صارخاً: "عشان يبطلوا يقطعوها". أظلمت الشاشة وكل ما حوله. أمسك بالمجموعة وسحبها وراءه. لفحه تيار هواء قوي، فاختل توازنه فوق الحديدة السائر عليها، وسقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه