أن يبحث أحدنا عن اكتئاب جديد ليتخلص من اكتئاب قديم، مسألة ليست بالسيئة على أي حال. وإن فعلت، ولطالما أفعل، منعزلاً، أكون مثل ذاك الرجل الذي يحاول أن يسترد سمعته في فيلم Birdman، أو في أحسن الأحوال، مثل متسولي التروبادور في هذه المدينة الغريبة، أدور في شوارعها لأدندن ألحان "حمو بيكا" في قداس للأناشيد الغريغورية.
حتى جاراي في الشقة لا يجيدان الغناء ولا الرقص، ولا حتى إطلاق النكات، حتى الضحك لديهما ما هو إلا اختراع غريب غير مأنوس، كإحدى اختراعات سيمون غيرتز. وكلما اجتمعنا سويّاً نكون أشبه بثلاثة نمامين يقدمون برنامجاً تلفزيونياً اسمه "هل تعلم؟"، نتحدث فيه عن كل التفاصيل السيئة والأسرار المطمورة للأصدقاء. إننا ثلاثتنا نجلب الملل والكدر، ولا أملّ من قول ذلك.
خطة بديلة
لكنني حين أشعر بالسأم أعاود ترتيب سراويلي، إنها خطتي البديلة المكررة، وهي عادة ابتكرتها مؤخراً. ففي غرفتي الكثير من السراويل الميتة التي اشتريتها من سوق المستعمل، وفي سوق المستعمل يبيعونك مرساة سفينة ثم يقنعونك بأنها دبوس. وسراويلي هي من هذا النوع، إما وسيعة جداً وكأنها صمّمت لردفي امرأة منقرضة من الهادزا أو ضيقة لا تصلح حتى لساقين مرتجفتين لرجل من كهوف الطاسيلي. كما وأن يمتلك المرء مثلي كرشاً وهو نحيل أمر لم تتناوله الحكايا الشعبية، ولا حتى أفكار في كتاب "موجز تاريخ الأرداف" مثلاً، على هذا أعيد ترتيبهن كل يوم، ثم أشيعهن على موسيقى جنائزية في دولاب صغير يأخذ شكل تابوت.
كلما فعلت ذلك، أقف أمام مرآتي فأقلّب مراغم وجهي، ثم أتذكر ما أنا عليه، مجرد رجل غريب بات يقترب كل يوم من الأربعين، ثم أواسي نفسي بالقول بأن الرجل الأربعيني، كما قالت لي سيدة أعرابية قديمة ذات مرة: "مثل سروال من الجينز، كلما دعكته بالماء يبلى على زَين".
حين أشعر بالسأم أعاود ترتيب سراويلي، إنها خطتي البديلة المكرّرة، وهي عادة ابتكرتها مؤخراً. ففي غرفتي الكثير من السراويل الميتة التي اشتريتها من سوق المستعمل، وفي سوق المستعمل يبيعونك مرساة سفينة ثم يقنعونك بأنها دبوس... مجاز
لهذا أجدني أعافر كل يوم في شوارع في هذا البيت الصغير، في هذه المدينة الصغيرة، حولي سبعة مليار محبط آخر يدورون فوق كويكب صغير جداً، يدور هو الآخر حول نجمة ملتهبة صغيرة جداً، ومن بين مليار نجم عادي يقاسون في مجرتنا، تعافر مجرتنا مع مئتي مليار مجرة شريكة في هذا الكون، ومن يدري لربما هذا الكون ذاته يعافر بكآبة هو الآخر مع مليار كون آخر شبيه.
وجه "كيل" البائس
بعيد انتهائي من ترتيب خزانتي، ركبت قدماي واتجهت إلى أطراف المدينة، تتقاذفني الوحدة مثل مخمور تتقاذفه جدران الحي. فكل هذا الضيق يدفعني دوماً إلى هناك وكأنني أهرب من هذا الغبار الكوني الملتصق برأسي ووجهي، دبقاً كما لو كان زفتاً.
هناك حيث غابة صغيرة يقسمها نهر كبير، جلست حيث تنام شجرة صفصاف كبيرة على أصلها القديم، فعلى فروعها نُقشت الكثير من ذكريات المنهزمين، تنحدر أغصانها إلى الأسفل ثم تميل رؤوسها معقوفة كذيول العقارب، حيث الضوء اللبني الذي يتسلل إليها من بين الأشجار بمشقّة. أتراجع القهقرى إلى الوراء لتكتمل في ناظري صورتها، إنها فاتنة بحق تأخذ شكل تسريحة عملاقة لـغريس كيل في صباها. وأمام تسريحتها تلك أدرك كم نحن لصوص، جميع سرقاتنا التي نحميها كملكة فكرية هي نهب من فنان أكبر خالق لهذا الكون الخرافي.
أحدهم
عند الظهيرة ودعت وجه "كيل" المليء بالذكريات، واتجهت الى عيادة طبيب الأسنان. ليست زيارة طبيب الأسنان من القرارات العادية في حياتنا، مع ذلك قررت أن أعيد صيانة سمعتي الجمالية بناء على نصيحة من أحدهم كحركة لمواجهة الاحباط، مع أن ذاك (الأحدهم) يمتلك في ثغره بضعة أسنان ونيف فقط، إن وجب أن نسميه ثغراً، فهو رجل كأي آخر من السهل عليه نصح الآخرين لكن من الصعوبة نصح نفسه.
وللأمانة، ذاك الطبيب كان مرحاً جداً، ضخماً جداً، كهلاً جداً. فعادي، يمكن العثور على بقايا الديناصورات المتحجرة في جميع أنحاء العالم، في المغرب مثلاً، في الأرجنتين، في منغوليا، وحتى هنا في عيادة جنوب ألمانيا.
كان يمتلك ابتسامة معهودة، يبدو أنه ورثها من أجداده البايوفاريين المبتسمين على الدوام، كما كان حين يتنقل في المكان يجرّ ذيل وزرته، كما يفعل أسلافه من العصر الترياسي قبل مئتي مليون سنة. على هذا دائماً ما أجد أن هؤلاء الأطباء يكسبون رزقهم من صحتنا. وعليه قبل أي شيء، رفعت يدي أمام وجهه المبتسم، وأخبرته أن لغتي الألمانية على قدّها، وقدّي ليس بميّاس، وأني لا أريد خلع أي قطعة عظم يجدها في هذا الثغر الجميل الملتوي على زعل، ثم انزلقت على كرسيه مرتاح البال. فتحت فمي لكنه سرعان ما غمغم منهوباً بدهشته: "يوي_يوي". هناك لغة عالمية لا تحتاج منا إلى دراسة أو جهد، كأن يولول أحدهم فوق رأسك، فليتهم يتبعونها في كورسات الاندماج بدل عذابات اللغة الألمانية.
حين حاولت استيضاح الأمر قال ضاحكاً على جريمتي: "لا أعتقد أن غير الرب قادر على إصلاح هذه الفوضى". وعلى هذا الاحباط رفضت خلع أي ضرس خَرِبْ، ثم جررت نفسي إلى وحدتي مجدداً، وعلى الطريق قلت لنفسي ليس هناك ما يدعو للقلق، يكفي أني جعلت هذا اللاديني الضحّاك يؤمن بوجود خالق هذا اليوم، قادر على إصلاح أسناني.
قرب مقهى المدينة القديمة، تحت مظلات من القش ومن حولي الأصص المرمرية وأنواع أخرى من الزهور، شربت القهوة المبرّدة، كشخص بات يهتم بنمط حياته، وجعلت أراقب الرائح والغادي في انتظار (أحدهم).
أتذكرون ذاك (الأحدهم) الذي نصحني بترتيب سمعتي الجمالية؟ كان من المفترض أن نلتقي هنا قبل نصف ساعة. إنه شاب بسيط، أقنعته زوجته قبل عام بالدخول في أحد المشاريع التجارية، ثم سرقته وخلعته وأجبرته على دفع نفقة. عادي، هناك دائماً في حياتنا وفي أي فردوس، امرأة تقضم التفاحة لنهبط إلى الحضيض.
ناشطو المناخ
وخلال فترة انتظاري له، ولج ناشطو المناخ من بوابات المدينة الثلاث، وقد تجمعوا مثل قطعان الإوز، ثم تحلقوا على شكل إيموشن مبتسم وسط الساحة.
كل بضعة أيام يضجرني هؤلاء، يتجمعون في الساحة القديمة، في المكان الذي يحبذ أن يقضي فيه معظم الرجال والنساء بطالتهم نهاية النهار، يرتدون بدلات مطاطية، ويضعون أقنعة شريرة، ثم يشغلون مكبرات الصوت ويرفعون يافطات مكتوب عليها شعارات من قبيل "أعيدوا لنا كوكبنا"، "سئمنا"، وعبارات أخرى الغاية منها أن تتوقف الشركات عن الاستثمار في مشروعات الوقود الأحفوري والانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة، ثم يطلقون مزامير عرباتهم المزعجة، ويحملون أقنعتهم وهم يطوفون بها أزقة المدينة، وكأنهم يتقصدون إزعاج الآخرين حتى يقولوا "هناك ما هو مزعج أكثر".
دائما ارتداء المرء لقناع يكسبه التعاطف، مثل "زورو" و"روبن هود" و"الرجل الوطواط" وكذلك "رومان رينز" مصارع WWE الشهير، فجميع الأبطال المتخيلين والخارقين إما حيوانات وحشرات وإما لصوص وقتلة مقنّعون. فمثلاً بطل فيلم الديستوبيا الشهير V for Vendetta مجرم مقنع يلقى التعاطف من الجميع، أيضاً مرتزقة إسبانية في La Casa De Papel نالهم التعاطف حتى من الكومبارس، وكذلك المقاومة الوطنية في الشرق الأوسط تلقى ذاك التعاطف من شعوبها وشعوب أخرى لأنها مقنّعة وغامضة، لأننا نحب من نجهلهم. إلا هؤلاء المساكين من رواد المناخ، لم ينلهم خلال المئة عام الماضية من جهد سوى البصق والمذلة والرمي بالبيض جراء صراخهم اليومي لحماية الكوكب، ولصق أيديهم في الزفت وتكبيل أرجلهم بسلاسل تحت جنازير المجنزرات.
كل بضعة أيام يضجرني ناشطو الكوكب، يتجمعون في الساحة القديمة، في المكان الذي يحبذ أن يقضي فيه معظم الرجال والنساء بطالتهم نهاية النهار، يرتدون بدلات مطاطية، ويضعون أقنعة شريرة، ثم يشغلون مكبرات الصوت ويرفعون يافطات مكتوب عليها شعارات.. مجاز
من بين الكل، يحزنني ذاك العجوز الذي يرتدي زي الكرة الأرضية ويسير في مؤخرة الكرنفال، فزيّه يثقله في المشي، يتعثر ثم تساعده سيدة ترتدي زي الشيطان بقرنين وتمسك في يدها الأخرى شاعوباً. كان كلما تعثر تنطلق ضحكة كبيرة مدوية ومستفزة من المقهى من رجل في الخمسين أو يزيد. كان منظر هذا الخمسيني حلواً مثل فارس متقاعد من عهد الوصاية، ممتلئ، وله لحية منسابة، ويمتلك ابتسامة جريئة ولمحة من الفكاهة، وترافقه على طاولته امرأة مفعمة بالحيوية ومزينة بالإكسسوارات، ترتدي فستاناً من الساتان باللون الأخضر الزمردي، وكلما ضحك شريكها كانت تُجعّد فمها عن ابتسامة متردّدة. ثم تحاول أن تجعله يهدأ حتى يقلل من سخريته، لكنه بدل ذلك صاح على الفتاة صاحبة زي الشيطان: "حتى تخيطي ثقب الأوزون قللي من أكل البقوليات"، ثم أقفل ضاحكاً وقد امتعض كل من في المقهى لكلماته تلك.
أما أنا فتغريني التفاصيل أكثر من فستان صديقته الساتان، ففي حسبة بسيطة، يقوم الشخص العادي بإطلاق الغازات يومياً من 13 إلى 20 مرة، أي بمعدل من 700 مليلتر من غاز الأمعاء إلى 1,5 ليتر، أي يعني أن الغلاف الجوي يستقبل يومياً أكثر من سبعة مليار لتر من عوادم المؤخرات البشرية، وأكثر من مئتي مليار لتر شهرياً. وهذه الغازات تحتوي على غاز الهيدروجين وغاز الميثان والكبريت، على هذا، فإن العدو الأول للمناخ ليست المصانع الكبرى ولا عوادم السيارات بل مؤخراتنا البشرية التي تحرض ثقب الأوزون.
هذا هو الدرس
موت أحدهم يكون مؤلماً بالنسبة لنا، لكن التفكير في طريقة موته يجعله مؤلماً أكثر، كما لو أنك تسقط من سابع سماء. عيناك للأعلى وظهرك للأسفل، فما أن يبدأ تفكيرك بالقاع حتى تدرك حجم خسارتك.
التفاصيل هي صانعة الاكتئاب، فالعيب ليس في عدم قدرتي على الغناء، ولا في حبكة سراويلي، ولا في وجه كيل، كما يبدو أنه ليس للأمر علاقة بخطة الاندماج التي تعدها لي الحكومة، فأنا كل يوم أشاهد الكثير من الشبان العرب الذين يتعاركون بساحاتها بمتعة. كل العيب هو في التفاصيل، هي وحدها ما يتعبنا، كلما فكرنا بالتفاصيل أكثر كلما تألمنا أكثر، كلما أحبطنا أكثر، كأن يشغلك اسم من وضع القواعد أكثر من رغبتك في فهم القاعدة نفسها. إنها أمور تدعو حتى قردة بونوبو العابسة للضحك عليّ هذا اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...