شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
في الـ

في الـ"أوديسا" النوبيّة... جلست "شلويه" تغزل لحبيبها الأغاني حتى يعود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

الزمن: شتاء 1899، الآن بدأ العمل في بناء خزان أسوان كما أمر الخديوي عباس حلمي الثاني، بعد أعوام قليلة من فيضان بالغ القوة جرف قرى كثيرة في 1887.
المكان: قرية أبو سمبل في النوبة القديمة
الحدث: تركها زوجها ورحل بعيدًا بحثًا عن الرزق بعد تهجير قريتهم ضمن القرى التي ستغرق أراضيها تحت خزان أسوان، لتكتب التغريبة النوبية الأولى، وتبقى "شلويه" بطلة حكايتنا وحيدة في انتظار الزوج الذي رحل للعاصمة، تنتظره وتغزل الأغاني التي تحمل رسائل اشتياقها إليه.
حكاية شلويه قد تكون قصة عادية لزوجة افتقدت زوجها في غربته، فأرسلت إليه رسائل تبثه فيها شوقها، لكن ما يجعلها قصة ملهمة هو أن الزوجة فنانة فطرية غير محترفة، وزوجها فنان انطلق إلى العاصمة معتقدًا أن الحياة ستكون أفضل، وأن الزوجة كانت ترسل رسائلها في كلمات مغناة تنتقل عبر القرى والمدن حتى تصل إلى زوجها في العاصمة حيث يعمل، واعتبرت حكايتهما حكاية شعبية تتوارثها الأجيال عبر أغنيات استلهمها فنانون نوبيون مشاهير مثل خضر العطار وفكري الكاشف، اللذين يحكيان حكاية انتظار شلويه وشوقها في أغنية لا تحمل اسم مؤلف. 

تحكي الأوديسا الإغريقية حكاية البطل أوديسوس ومغامرته الملحمية ليعود إلى زوجته بينولوبي التي تغزل في الليل وتهد غزلها في النهار لتدفع خطابها بعيداً، أما في الحكاية النوبية، فالبطولة للزوجة المحبة "شلويه" والحكاية هي انتظارها، والسرد قوامه أغانيها التي غزلتها في انتظار زوجها المهاجر سعياً للرزق

بيكار

حكاية شلويه قد تكون قصة عادية لزوجة افتقدت زوجها في غربته، فأرسلت إليه رسائل تبثه فيها شوقها، لكن ما يجعلها قصة ملهمة هو أن الزوجة فنانة فطرية، وزوجها فنان هجر الفن للرزق وباتت قصة حبهما وفراقهما حكاية شعبية تتوارثها الأجيال عبر أغنيات استلهمها فنانون نوبيون مشاهير مثل خضر العطار وفكري الكاشف
الفقر والهجرة

مع بناء الخزان أضطر النوبيون للهجرة للمرة الأولى والصعود إلى الجبل على مسافة من النهر بعد أن غرقت بعض قراهم وتقلصت المساحة الزراعية، ما يعني أن الكثير منهم فقدوا القدرة على الاستمرار في المهنة الأساسية للنوبيين وهي الزراعة. فلجأوا إلى العاصمة للعمل والبحث عن الرزق وتركوا خلفهم زوجاتهم وأولادهم في أماكن التهجير الأولى. ومثل أغلب النوبيين هاجر "فقير الجاسكا" - ينطق اسمه بالجيم القاهرية- زوج شلويه، وشريكها في صنعتها: الغناء في الأفراح الشعبية.
في كتابه "الأسطورة والخرافة في بلاد النوبة" يذكر الكاتب الراحل إبراهيم شعراوي أن شلويه كانت فنانة غير محترفة، يدعوها الناس إلى أعراسهم لجمال صوتها، فالنوبيون لم يكونوا آنذاك قد عرفوا المغنين المحترفين، والنوبي ينشد ويغني بطبيعته في كل المناسبات، وحين ضاق زوج شلويه، فقير الجاسكا، بالحياة في القرية ووجد أنه لن يستطيع تحقيق ما يريده لزوجته من حلي وثياب وظن أنه سيغترف المال من الغناء في القاهرة، رحل إليها حالماً بالنجاح، لكنه اكتشف أن المدينة تحتاج لقدرات خاصة لا يملك منها إلا قليل، لم يكن يعرف سوى الزراعة والغناء بلغة لا يفهمها أهل العاصمة، فانتهى به المطاف حارساً في أحد البنوك.

ظلت شلويه تعمل في الأرض وتغني أغاني الحب والشوق التي تنتقل عبر القرى والمدن حتى تصل إلى زوجها، وتتمنى أن يعود بما وعدها به


أغنية شلويه

بقيت الزوجة على عهدها تذكره في حب وتحزن لفراقه فيسيل حزنها وشوقها نغماً شعرياً. تقول الأغنية التي يعتقد أن كلماتها من نظم شلوية نفسها: "هلليه هلليه هلليه" وهي استهلالة تراثية نوبية، "حسب الله ودعناك الله"، بمعنى ودعنا الحبيب الغالي وهو في كنف الله، وتبثه شوقها قائلة: "سوكا جو إيقترنا جو فقير الجاسكا"، أو انزلوا الي بر مصر وبلغوا فقير الجاسكا. "شلويه دوكوجا أوكسيندو آجناني"، أن شلويه ما زالت في انتظارك. ثم تشكو إليه تركها وحدها لتقوم بأعمال مخصصة للرجال في النوبة حتى لا تترك غريباً يقوم عنها بسقى الأرض، فتقول: "كوسا فلكا دوكوجا أوكسيندو آجناني" أي منذ اليوم الذي خصصوا لنا وقتاً محدداً وزهيداً لتدور الساقية لتروي أرضنا، "إيجاثنا جو فقير الجاسكا، شلويه دكسيه ناجناني" أي اذهبوا من أجلى وقولوا لزوجي إني ما زلت على الساقية حافظة لعهدي، وتستغيث بمن سيبلغه الخبر قائلة: "كيرا تاري منقتشان جو فقير الجاسكا" أي بلغوا فقير الجاسكا كي يعود إلى أرض النوبة، "سوكا جو إيقترنا جو فقير الجاسكا" أي أنزلوا مصر وبلغوه. وهنا تحاول شلويه أن تثير فيه الحنين لوطنه فتقول: "كوبري شبرا ل إبون أللا يموناني" أي بلغوه أن كوبري شبرا ليس الحبل الذي كان يفتله أبوك لتسير عليه، "مصر عتيقة ل إبون دار يموناني" وبلغوه أن حي مصر القديمة ليس دار أبيك. ثم تحاول إغراءه بما ستوفره له في القرية فتغني: "سوكا جو ايقترنا جو فقير الجاسكا" انزلوا وبلغوا فقير الجاسكا، "دور إركون انجرين كوسين دوانيلا" أن يصعد للنوبة في بلادنا حيث ما زال الصحن الخشبي في غرفة الديواني (غرفة النوم). "شيلية نوين تول تيبدتا آج آوناني" وما زالت الشعرية المليئة بالسمن البلدي يتماوج اللبن فوقها، "كيرا تاريمنقتشان جو فقير الجاسكا"، عليكم أن تبلغوا فقير الجاسكا بكل تلك الذكريات كي يعود.

كانت شلويه تغني في حفل عرس أغانيها الحزينة، عندما وصل خبر عودة زوجها مكبلاً بالأغلال، لا يحمل إلا صرة بها متاع قليل، وهنا غالبت شلويه دموعها واستمرت في الغناء وعرف فقير بمكانها فذهب إلى الحفل وسمعها وهي تغني: "لن تقيم معه تحت سقف واحد، زوجة الرجل الذي عاد حاملاً صرة حقيرة"

النوبة بيكار

أحداث مأسوية

ظلت شلويه تعمل في الأرض وتغني الأغاني التي تنتقل عبر القرى والمدن حتى تصل إلى زوجها، وتتمنى أن يعود بما وعدها به، لكنها ابتليت في أخيها أيضاً الذي هاجر إلى العاصمة وانضم إلى فتواتها حتى قبض عليه وحملت شلويه عاره، ثم كان زوجها الذي تمرد وأنضم أيضاً إلى أعمال الفتوات وقُيِّد بالسلاسل واُقتيد إلى القرية لتراه زوجته لأول مرة بعد غياب. 
يحكى إبراهيم شعراوي في كتابه قصة اللقاء، إذ اضطرت سفينة "البوسطة" أن ترسو بسبب انخفاض منسوب النيل في منطقة مهجورة اسمها "فقير نانجي" أي النخيل المهدى لمزار الشيخ التقي، ومن هناك قادوا الزوج الفنان إلى بيت العمدة حيث تمت إجراءات تسليمه القانونية، وكانت شلويه تغني في حفل عرس أغانيها الحزينة، عندما وصل خبر عودة زوجها مكبلاً بالأغلال، لا يحمل إلا صرة بها متاع قليل، وهنا غالبت شلويه دموعها واستمرت في الغناء وعرف فقير بمكانها فذهب إلى الحفل وسمعها وهي تغني: "لن تقيم معه تحت سقف واحد، زوجة الرجل الذي عاد حاملاً صرة حقيرة"، وفهم أنها تقصده فأنشد على الفور قائلاً: "وهناك من يأتي وليس معه شيء يسير مطوحاً يديه الخاليتين" قاصداً أخاها ففهمت أن زوجها عاد كما كان ، حاضر الذهن سريع البديهة وسليط اللسان.

نهاية سعيدة

تركت شلويه العرس وعادت مع زوجها وغفرت له، ويقال أنها اضطرت إلى بيع ذهبها حتى يبدأ حياة جديدة وحين سألها الناس قالت لهم: لقد سرقت ذهبي مخلوقات النهر الشريرة، وحين نجح زوجها وكسب المال وأعاد إليها ذهبها قالت للناس: مخلوقات النهر الطيبة أعادت ذهبي.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image