اتصل بي قبل أيام أحد الأصدقاء العرب، من المعجبين بالثورة التونسية، وقال لي للمرة الأولى منذ اندلاع الثورة: "كنت أغالب نفسي كي لا أعترف بهذا، لكن لا فائدة من ذلك، كم أنني محبط وحزين. لقد ذبل ياسمين ثورتكم التي أحب، لا أمل لدي في منطقتنا العربية". ورغم إدراكي فعلاً أن ثورتنا قد فشلت، إلا أن كلماته أوجعتني/ حتى أنني بكيت، ومرّت بذاكرتي لحظة 14 يناير 2011، بكل ألقها وأحلامها، واللحظة الراهنة بكل خيباتها، وتساءلت بمرارة: كيف حدث هذا؟ ولماذا كان السقوط سهلاً إلى هذا الحد؟ فبمجرد العودة إلى ما حدث، من خلال تجربتي على الأقل، أشعر أن السماء لم تنصفنا.
كنت قد عدت إلى مدينتي "سيدي بوزيد" في بداية ديسمبر/كانون الأول 2010، بعد أن أكملت رسالة تخرجي من الجامعة، وقرّرت أن أستريح لأيام مع والديّ، دون أن يخطر ببالي أننا مقبلون على تغيير كبير ستكون مدينتي هي شرارته الأولى. وبعد حادثة البائع المتجول محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في جسده احتجاجاً على صفعه من أحد أعوان البلدية وموته متأثراً بجراحه، كنت أسمع عن خروج متظاهرين رفضاً لما حدث، ولكنني لم أكترث، وكنت أقول في داخلي إنهم يفعلون ذلك عبثاً.
لم يعد ممكناً أن نعتذر للشهداء ونقول لهم بثقة، على لسان نزار قباني: "إن ما حصل خدش صغير على الوجه سوف يزول"، فوجه الثورة قد تشوّه تماماً ولا أحسب أنه سيتعافى
بعد أيام، رافقت والدتي لموعد مع طبيبها، فوجئت بالأعداد الكبيرة لأعوان الأمن الذين يتمركزون في كل شوارع وسط المدينة. كان المشهد مخيفاً. بينما كنا سنعبر إلى الجهة الأخرى من الشارع، مُنعنا من قبل البوليس، وكان هناك عدد كبير من النساء وبعض الرجال أيضاً يقفون والخوف باد على وجوههم، عرفت أنهم مُنعوا بدورهم.
ساءني ما يحدث، وأخبرت عناصر الأمن أنني سأعبر ووالدتي لموعدها حتى لو اعتقلوني، وانتقدت منعهم الناس من الذهاب لقضاء شؤونها دون سبب، وحدثت مشادة حادة بيني وبينهم. كانت أمي خائفة وتترجاني كي أصمت، لا أدري كيف تملكني غضب كبير كسر كل خوفي السابق من البوليس، وجعلني بتلك الشجاعة. نعم إنها شجاعة، فأنا أمام بوليس تعوّد القمع وفرض إرادته مهما كانت ظالمة.
لا أنكر أنني في داخلي كنت أخشى أن يقوم أحدهم بضربي، ولكن قام أحدهم بالاستنجاد برئيسهم الذي قال بهدوء، بعد أن استمع لي: يمكنك المرور. شجّع ذلك البقية لعبور الشارع دون أن يتعرض لهم الأعوان. بقيت أفكر في تلك الحادثة وأنا أتابع تطور الأحداث على لسان والدي الذي يذهب يومياً إلى وسط المدينة للعمل، ثم قرّرت العودة إلى العاصمة لبدء رحلة البحث عن عمل، وكلّي يقين أن ما يجري في مدينتي سيتم إخماده بالقوة، كما حدث سابقاً في محافظة قفصة خلال أحداث الحوض المنجمي.
لكن بعد أيام، بدأت عدوى المظاهرات تصيب كل المدن حتى بلغت العاصمة. حينها بدأت أشعر أن حدثاً كبيراً سيجري، وشعرت بالندم أنني لم أكن مع المتظاهرين منذ البداية في مدينتي. وحتى أكفر عن خطيئتي، قرّرت أن أكون مع المتظاهرين في العاصمة، رغم محاولات والدي إجباري على العودة، إذ إن أختي وكل صديقاتي قد عدن إلى ديارهن وبقيت بمفردي. ولكن رغم ذلك كنت أخرج يومياً للانضمام إلى جحافل المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة، وفي بعض الأحياء الشعبية التي كان الذهاب إليها أحياناً يعد مخاطرة، لأنها تشهد بعض أعمال العنف خاصة عندما تجري المواجهة مع الأمن، فضلاً عن إقدام الأهالي في بعضها على مداهمة عدة محلات وإدارات.
كنت كلما عدت إلى منزلي سالمة، بعد يوم طويل من المواجهة مع الأمن الذي يضرب ويرمي القنابل المسيلة للدموع وأحياناً الرصاص، أشعر أنني أشحن بطاقة كبيرة وشجاعة أكبر، لا سيما وأنني لن أدّعي أنني كنت يوماً معارضة شرسة للنظام، ولا بطولات تذكر لدي في هذا الشأن، باستثناء أنني لم أنخرط يوماً في أنشطة النظام، كذلك عائلتي.
عندما حل الـ14 من يناير، كان شارع الحبيب بورقيبة يغصّ بالمتظاهرين، يومها لم يكن البوليس شرساً كبقية الأيام، ولم يعترض طريقنا كما فعل سابقاً، حتى عندما وصل المتظاهرون أمام مقر وزارة الداخلية.
البعض كان يرجّح أنهم يدبرون مكيدة، ولكن سرعان ما حدثت المواجهة المعهودة لكن بحدة أقل، أذكر أنني عدت باكراً يومها على غير العادة، لأنني نسيت هاتفي ووالدي سيكون قلقاً جداً إذا ما اتصل ولم أرد وأخبره أنني بخير. في المساء، تسرّب خبر هروب بن علي، كانت لحظة فريدة أجزم أنها تحدث في العمر مرة واحدة. لقد نجح المتظاهرون، نجح الشباب في إجبار المستبد على الهروب. كان الخبر في حد ذاته كفيلاً بجعلنا نبني سيلاً من الأحلام، بلاد تنعم بالحرية وينتعش فيها الاقتصاد وتدور عجلة التنمية ولا مكان فيها لسيطرة العائلات النافذة والبورجوازيين على الثروة، بلاد تستجيب لشعار الثورة الأهم "شغل حرية كرامة وطنية".
كان الإحساس بالفخر كبيراً جداً، ولم يخطر ببال أحد، لا سيما شباب الثورة، أن يأتي اليوم الذي تفقد هذه اللحظة كل بريقها، وتصبح لحظة ثقيلة على الذاكرة.
في الحقيقة شعرت مبكراً بأن الأحلام ستجهض مع أول انتخابات تشريعية تنظم في البلاد. كنت قد التحقت بالعمل للمرة الأولى في إحدى الصحف المحلية، وكُلّفت بتغطية الانتخابات في العاصمة. ذهبت لعدة أحياء أغلبها من الأحياء الراقية. كنت أسأل الناخبين لمن ستصوتون ولماذا؟ وكنت أركز على فئة الشباب. كانت مجمل الإجابات تقول سنصوت لحركة النهضة، لأنهم "يخافوا ربي"، والغريب أنها كانت تصدر عن شباب جامعي. لم يكن بوسعي التعليق حينها لكن كنت أشعر بخيبة كبيرة، وأدركت أن الضحك على عقول الناس قد بدأ. حتى أنني لم أذهب للتصويت، ولم أفعلها في أي محطة انتخابية لاحقة. وفعلاً فازت الجماعة التي "تخاف الله" بسبب سذاجة عدد كبير من التونسيين ممن كانوا يعتقدون أن رداء الدين كفيل بأن ينتج أشخاصاً صادقين وأوفياء لهذا الوطن. ولكن مع مرور السنوات، تبين أنهم بالكاد يعرفون الله، وساقوا البلاد إلى أسوأ المصائر.
كانت مساحة الحرية المتوفرة مغرية وجميلة، لا سيما وأننا لم نتعود عليها سابقاً، ولهذا انغمسنا كتونسيين في السنوات الأولى، نحتفي بهذا المكسب ونحاول أن نحميه. ولكن في المقابل بدأت البطون تجوع. لم تعد الحرية بكل إغرائها تكفي، معدلات الفقر أصبحت مقلقة، والمقدرة الشرائية انهارت. البطالة في ازدياد مطرد والاقتصاد منهك جداً، وظواهر مخيفة تتسرب للمجتمع، كالإدمان على المخدرات الذي انتشر في صفوف التلاميذ والطلبة، وانتشار كبير للعنف والإرهاب، ومدارس دينية بمناهج تعليمية مغايرة لمناهج الدولة وغريبة على مجتمعنا وغيرها، في حين أن ساسة البلاد ظلوا يتصارعون من أجل الحكم حصراً، غير عابئين بغرق البلاد. ظل الشباب يتظاهر دائماً ليذكّر الساسة بأهداف الثورة، لكن دون جدوى، لتنتهي العشر سنوات بحصيلة صفرية.
كانت السنوات العشر كفيلة بجعل التونسيين يمقتون ساستهم إلى حد كبير، ويعتبرونهم المسؤولين عن قتل تطلعاتهم الكبيرة من الثورة. ربما كانوا يعتقدون أن سعيد سيعوضهم عن تلك الخيبة، لكن الأخير أغلق قوس الثورة
أذكر أنه عندما أقدم الرئيس قيس سعيد على غلق البرلمان وأسقط الحكومة في الـ25 من يوليو/تموز 2021، قد خرج الآلاف، معظمهم من الشباب، للاحتفال بما حدث في الشوارع والساحات الكبرى. لقد كانت السنوات العشر كفيلة بجعل التونسيين يمقتون ساستهم إلى حد كبير، ويعتبرونهم المسؤولين عن قتل تطلعاتهم الكبيرة من الثورة. ربما كانوا يعتقدون أن سعيد سيعوضهم عن تلك الخيبة، لكن الأخير أغلق قوس الثورة. والمحزن أن هذا الشباب الذي ظل ينتفض من أجل حماية الثورة وأهدافها الكبرى، لم يحرك ساكناً ضد سعيد، حتى عندما بدأ يضرب المكسب الوحيد من الثورة ألا وهي الحرية. وهم لم يفعلوا ذلك ليس حباً في الرئيس أو إيماناً بخياراته، بل لأن الخذلان كان كبيراً، والخيبة كانت موجعة ومدوية، والشعور بسقوط وتحطم كل الأحلام والأماني والتطلعات كان عميقاً إلى حد أنه لم يعد هناك أي رغبة في إعادة التجربة، خاصة في ظل الخوف من أن تأتي ذات الوجوه السابقة لتركب مجدداً على نضالاتهم ودمائهم، وتتصدر المشهد مرة أخرى وتعيد ذات السيناريوهات.
اليوم 13 سنة مرت على تلك اللحظة الساحرة، ولكن لا شيء ظل من عبق تلك الأيام، تبخرت الأحلام جميعها لم يعد ممكناً أن نغني بحماس "محلا القعدة ع المية ومحلا الربيع... محلا الثورة التونسية تضم الجميع..."، ولم يعد ممكناً أن نعتذر للشهداء ونقول لهم بثقة، على لسان نزار قباني: "إن ما حصل خدش صغير على الوجه سوف يزول"، فوجه الثورة قد تشوّه تماماً ولا أحسب أنه سيتعافى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.