على بعد عشرة أمتار، وبهندام مرتب لم تمسه أي بقعة وسخ، يقف أ. ي. يتفحص بعينيه النساء والأطفال المشغولين بالنبش في مطمر جويبدة غرب مدينة البصرة العراقية، وهو يتكئ على باب سيارته ويدخن سيجارته، ينفث الدخان ولا تبدو عليه أي ملامح تعب، وأمام ناظره نساء على ملامحهن البؤس والتعب، وتغير لون ثيابهن بفعل حرارة الشمس الحارقة وغبار الأتربة التي تنبعث مع الجرارات الساحبة للنفايات، في حين طُمست معالم وجوه الأطفال جراء الأوساخ والأدخنة المنبعثة من حرق النفايات، وتشققت أيديهم من جمع العلب الفارغة.
الرجل هو زوج إحدى النساء العاملات، وأبو أطفال عاملين في المطمر، تكمن مهمته في بيع النفايات، ونقل النساء والأطفال من "العمل" وإليه، ويقضي ساعات يومه شاخصاً بصره للمراقبة والتوجيه للجمع من دون تهاون.
"ما عندي لا راتب ولا أطفال يساعدوني!"
وسط كومة النفايات وحولها نساء وأطفال، تجر أم عباس جسدها النحيل باحثة عن علب البلاستيك الفارغة والمعدنية، متشحة بالسواد لا يُرى منها سوى عينيها المحمرتين، ولا تسمع سوى حشرجة صوتها الممزوجة بالغضب. تستنشق الهواء المعبأ برائحة الدخان المنبعث من حرق النفايات، وتتعثر بخطوات بطيئة ومترقبة، لتجمع في شوالها الذي تضعه أمامها ما يقارب 300 علبة للبيع.
أما الرجال فيقفون أمام سيارات الحمل ينتظرون تحميل الشوالات لبيعها لأصحاب "العتيگ"، ويجني كل منهم نحو 40 ألف دينار عراقي يومياً (30 دولاراً).
اقتربت من السيدة الثلاثينية لسؤالها لماذا هي مضطرة للعمل في المطمر، فصرخت مثل لبوة مجروحة: "كلشي! ما عندي لا راتب ولا أطفال يساعدوني". وحين تأكدت أن لا وجود للكاميرات حولها هدأت قائلة: "أنا مطلقة وما عندي راتب ولا شهادة، وين أشتغل؟ وكيف أهرب من الاستغلال لحالتي الاجتماعية؟".
تعودت أم عباس (وهو اسم مستعار) الخروج فجراً لموقع المطمر الصحي في منطقة جويبدة أقصى قضاء الزبير، للبحث عن العلب المعدنية لتجد ما يسد رمقها، وبدل البحث عن أحلامها لم تجد غير هذا العمل الذي يهدر صحتها بعد طلاقها الخالي من أي ضمان أو راتب رعاية اجتماعية.
وسط كومة النفايات وحولها نساء وأطفال، تجر أم عباس جسدها النحيل باحثة عن علب البلاستيك الفارغة والمعدنية، متشحة بالسواد لا يُرى منها سوى عينيها المحمرتين، ولا تسمع سوى حشرجة صوتها الممزوجة بالغضب. تستنشق الهواء المعبأ برائحة الدخان المنبعث من حرق النفايات
ويبدو أن قدر سكان المناطق النائية في العراق أن يمتهنوا البحث في أكوام النفايات، أو ما يطلق عليه مصطلح "النباشين"، وعليهم تحمل انبعاثات حرق النفايات للحصول على ما يمكن أن يسد قوتهم اليومي. وتبلغ نسبة الفقر في العراق نحو 25% أي أن قرابة 10 ملايين عراقي يعيشون في ظروف اقتصادية صعبة، أما معدل البطالة فيصل حتى 15%.
خطورة صحية وتلويث للهواء
في حديث لرصيف22، تلفت الدكتورة منار ماجد حميد، متخصصة بمجال الجغرافيا ومدرّسة في رئاسة جامعة ذي قار، إلى أن النفايات مصدر مهم لتلوث الهواء، إذ تؤثر النفايات الصلبة في جودة ونقاء الهواء، سواء كانت في مرحلة التحلل أو التخمر أو التفسخ الذي تنتج عنه روائح وغازات كريهة، يشعر الإنسان على إثرها بضيق التنفس والغثيان.
وغالباً ما يرتبط هذا النوع بالنفايات العضوية التي تنجم عن بقايا المواد الغذائية، وتنتج عنها مجموعة من الغازات الملوثة منها الميثان وأول أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد الكربون وأوكسيد النتروجين، فضلاً عن أوكسيد الكبريت ذي الرائحة النافذة، وتشكل هذه الغازات بيئة خطرة وفي مدة زمنية قصيرة في حال توفر الظروف المناسبة لها.
والمرحلة الأخرى الخطرة هي الحرق، وكثيراً ما تشاهد هذه الظاهرة في المدن العراقية، إذ تتعرض فيها النفايات للحرق الذي يستمر ساعات طويلة، ولا سيما في مناطق الطمر الصحي أو الأماكن الكبيرة لجمع النفايات. وينتج عن عمليات الحرق كمية كبيرة من الغازات الضارة والسامة، وتؤدي الرياح دوراً في نقل الملوثات الغازية من مصادرها إلى مناطق قريبة أو بعيدة.
وتختلف قدرة النفايات على تلويث الهواء حسب تركيبتها الفيزيائية والكيميائية، وتكون النفايات الصناعية من أخطر الأنواع. أما أخطر الغازات فهو أول أوكسيد الكربون وينتج عن تحلل النفايات العضوية والصناعية، وبصورة أساسية عن عمليات الاحتراق غير الكامل للوقود والنفايات، ويبقى في الهواء لمدة تستمر من شهرين إلى أربعة، وتظهر خطرته باتحاده مع الدم مما يضعف الكريات ويعطل أجهزة الجسم ويسبب الأمراض.
أما كبريتيد الهيدروجين فهو أيضاً من الغازات السامة ولا سيما بامتزاجه مع غازات أخرى، ويتميز بكونه عديم اللون وله رائحة تشبه البيض الفاسد، وهو أكثر سمية من أول أوكسيد الكربون لقدرته على اختراق الجسم من خلال الجلد والتنفس ويؤدي إلى اضطرابات تنفسية.
وتبلغ كمية النفايات التي يطرحها العراق سنوياً نحو 11 مليون طن، وفي محافظة البصرة يبلغ معدل كمية النفايات المطروحة يومياً نحو 2800 طن مع وجود ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة من السكان فيها.
ويشير حيدر رشاد الربيعي، رئيس "مؤسسة حقب للإغاثة والاستدامة"، إلى أن إنتاجية الفرد العراقي أو ما يفرزه من نفايات تتغير وفق المستوى المادي والقدرة الشرائية، فالمعدل العام في جميع أنحاء العراق ما عدا إقليم كردستان يقدر بنحو 800 غرام للفرد الواحد يومياً، وأعلى مستوى هو في محافظة كربلاء (كيلو ونصف للفرد يومياً) والأقل هو لمحافظة المثنى حيث يفرز الفرد الواحد 650 غراماً بسبب ضعف مستوى الدخل، ومعدل ما تطرحه البصرة تقريباً 800 غرام للفرد الواحد.
عدم الاهتمام بإعادة تدوير هذه النفايات يُضيع فرصة الحصول على كميات ضخمة من الورق والبلاستيك والحديد والأقمشة والأسمدة.
أما المواد التي تتكون منها النفايات على مستوى العراق عموماً فهي مواد عضوية من بقايا الطعام بحدود 50% والبقية من الورق والكرتون والبلاستيك والمعادن، وتتغير نسبها بحسب المستوى المادي والقدرة الشرائية.
ويقول الربيعي إن أغلب النفايات ثروة مهدورة يمكن استغلالها ومعالجتها، فلا توجد معامل تدوير وفرز للنفايات، إلا بعض التجارب الخجولة بطاقة استيعابية 100طن للمعمل الواحد، وهي تغطي أطراف محافظة بغداد ومحافظة كربلاء، ويضيف بأن عملية الفرز يمكن أن تكون رافداً للناتج القومي العراقي.
ضرر بيئي وهدر للمال العام
يتحدث مصدر في قسم النفايات طلب عدم الإشارة إلى اسمه، لرصيف22، حول الكارثة البيئية في معالجة النفايات بالطمر البدائي غير الصحي، فهو يعدم المياه الجوفية، وتنتج المواد العضوية عصارة عندما تلقى في الحفر وتفرز مواد سائلة تسبب تسمماً للتربة وللمياه الجوفية.
أما حرق النفايات والمواد البلاستيكية والنفايات الطبية فيؤدي الى إنتاج مواد مسببة للسرطان، وهي خطر مباشر لمن يعتاش على جمع النفايات، ويشير بشكل خاص لموضوع حرق إطارات السيارات، مع عدم وجود معامل فرز وتدوير هذه الاطارات التالفة التي يصل عددها لملايين الإطارات على مستوى العراق، وحرقها يؤدي لكارثة بيئية وتلوث، أما إذا تمت معالجتها يمكن مثلاً تقطيعها وطحنها مع الإسمنت كمواد تبليط للشوارع والملاعب.
ويقول المصدر: "عدم الاهتمام بإعادة تدوير هذه النفايات يُضيع فرصة الحصول على كميات ضخمة من الورق والبلاستيك والحديد والأقمشة والأسمدة العضوية، التي يمكن أن توفر للبلد مليارات الدولارات المهدورة سنوياً في استيراد هذه المنتجات".
وبحسب دراسة بعنوان "ما يمكن للعراق أن يحققه من تدوير النفايات المنزلية الصلبة" صادرة عن مركز البيانات للدراسات والتخطيط، بإمكان العراق سنوياً إنتاج 1.8 مليون طن من الورق و154 ألف طن من الزجاج و630 ألف طن من المعادن و1.8 مليون طن بلاستيك. ومن المتوقع أن تزيد هذه الكميات بشكل ملحوظ حتى عام 2020.
وتضيف الدراسة أن كميات المواد المفرزة من القمامة لعام 2012 كانت تكفي لإنشاء 72 مصنعاً للمعادن والورق والزجاج والبلاستيك والأسمدة العضوية والقماش، بينما من المتوقع أن تشجع المواد التي يمكن أن تفرز في عام 2050 لإنشاء مصنع لنفس المواد، ما يعني خلق مصادر جديدة للدخل، وأيضاً توفير نفقات وزارة الصحة من أجل الوقاية من الأمراض الناجمة عن تراكم النفايات، خاصة لمن يعملون بفرزها دون أي شروط صحية.
الطمر البدائي يعدم المياه الجوفية، وتنتج المواد العضوية عصارة عندما تلقى في الحفر وتفرز مواد سائلة تسبب تسمماً للتربة وللمياه الجوفية، أما حرق النفايات والمواد البلاستيكية والنفايات الطبية فيؤدي الى إنتاج مواد مسببة للسرطان، وهي خطر مباشر لمن يعتاش على جمع النفايات
ويرى المصدر ضرورة إنشاء معامل تدوير وفرز للنفايات، وتوفير عدد كبير من الكابسات الناقلة للنفايات، وأن يتم الطمر فوق الأرض لا تحتها لمنع تسرب المواد العضوية للتربة، ومنع الحرق المؤدي للتلوث البيئي للعاملين في المطمر والنباشين وللسكان القريبين من المطمر، وضرورة تطوير التقنيات واستخدام التكنولوجيا الحديثة لإدارة النفايات.
حول أم عباس يعمل أطفال لم تتجاوز أعمارهم سن البلوغ، فطُبعت خطوات حياتهم الأولى على المطمر وبين أطنان النفايات، فهم لم يعرفوا طريق المدرسة وكتابة أسمائهم بل تعودت أناملهم أن تلامس علب الكرتون الفارغة، واستنشقت رئاتهم رائحة تفسخ النفايات. يغطون وجوههم بخرقة تحميهم من أحوال الطقس ودخان حريق النفايات، ويهربون خجلاً من أي أسئلة عن عملهم.
أحدهم رفض بادئ الأمر اقتراب أي كاميرا منه وهو يعتلي سيارة الحمل، وبعد أن اطمئن أن لا وجود للكاميرات بل فقط جهاز تسجيل، تغيرت نبرة صوته وقال ضاحكاً: "صوريني"، ورفع علامة النصر، كأنه خرج من ساحة معركة منتصراً، لعله يدرك أن لا نصر له سوى العمل في مكان لا يضطر فيه لتغطية وجهه بخجل، هرباً من نظرات الازدراء.
تصوير نغم مكي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.