في العام الثامن للهجرة، دخل النبي محمد، مكة فاتحاً، قائلاً لأصحابه: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"؛ وهذا الحديث كما ذكر عبدالله الدارمي (تـ255هـ)، في كتابه "المُسند"، كان إعلاناً منه ودليلاً على امتلاكه القوة الكافية للدفاع عن نفسه وعن المسلمين.
هذه الهجرة كانت دليلاً على الضعف والخوف، وقد سعى إليها المسلمون بحثاً عن السلام والأمان، وضمان إقامة شعائرهم الدينية دون اضطهاد، وطالما تمكّن المسلم من أداء شعائره دون خوف فلا حاجة له إلى الهجرة. وبحسب المحدث ابن حجر العسقلاني (تـ852هـ)، في كتابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، فإن مَنْ قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق، لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت".
أما قوله تعالى في الحضّ على الهجرة: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُرَاغماً كثيراً وسعةً ومن يخرج من بيته مُهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً" (النساء: 100)، فلا يمكن فصله عن سبب نزول الآية، الذي ذكره جارالله الزمخشري (تـ538هـ)، في تفسيره "الكشاف"، قائلاً: "روي في قصة جندب بن ضمرة، أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللَّهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميداً، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو توفي في المدينة لكان أتم أجراً. وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب. فنزلت"؛ فجاءت معبرةً عن آمال المسلمين واضعةً الحد لسخرية المشركين، وبالرغم من ذلك جرى التعامل مع الآية من قبل منظّري تيار الإسلام السياسي بوصفها تحريضاً على الهجرة في المطلق.
تصورات الإسلاميين حول مفهوم الهجرة مرَّت بتحولات فكرية شديدة الخطورة، خلقت واقعاً جديداً استغلته بعض التنظيمات المسلحة التي كان لها نصيب من السيطرة على الأرض، ومؤخراً تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، من توظيف التصورات تلك لصالحه، إذ نادت قيادات التنظيم بوجوب الهجرة إلى حدود دولته، دولة الخلافة وعاصمتها الرقة السورية، التي أعلن عن قيامها في حزيران/ يونيو 2014.
الانخلاع من البيئة الجاهلية
مروّجاً لعزلة قلبية وشعورية، دعا سيد قطب إلى الاقتداء بالمسلمين الأوائل من أجل "تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه"، أي تغييره جذرياً، عن طريق الاستعلاء: "أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته"، وعن طريق الاعتزال القلبي إذ: "كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، وتنشأ عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله، وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائياً من بيئته الجاهلية واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية"، وأيضاً التجرد من كل روابطها، فهو "انخلاع من البيئة الجاهلية وعرفها وتصورها وعاداتها وروابطها، ينشأ من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود"؛ بحسب ما ذكر قطب في كتابه "معالم في الطريق".
الهجرة كانت دليلاً على الضعف والخوف، وقد سعى إليها المسلمون بحثاً عن السلام وضمان إقامة شعائرهم دون اضطهاد، وطالما تمكّن المسلم من أداء شعائره دون خوف فلا حاجة له إلى الهجرة.
إلى جانب العزلة التي ينشدها لخلق مجتمع إسلامي، تأتي الهجرة بمعنى الانضمام إلى هذا المجتمع، وترك دار الكفر. في تفسيره "في ظلال القرآن"، استنتج قطب من آية سورة النساء المشار إليها سابقاً "مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله"، أي أن حديث القرآن في الآية عن جزاء المهاجر الذي لم تسعفه الحياة للوصول، وعن الفرار من الأذى، تحوّل ليكون تحريضاً على الجهاد وكراهيةً عن التخلف، وترغيباً في الانضمام إلى المجتمع الإسلامي، لأن الآية تظهر أيضاً كراهية "القعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد"، مستثنياً "أولي الضرر" و"العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً".
هكذا، بات تفسير آية سورة النساء مرتبطاً بالحض على الجهاد، وكراهية التخلف عن الانضمام إلى الصف المسلم، وطلب الوصول إلى دار الإسلام، متسائلاً في نوع من الترغيب: "ماذا بعد ضمان الله من ضمان؟"، خاصةً أن هذه الأجر هو "أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام"؛ وفقاً لتفسيره "الظلال".
من المدهش، أنه بالعودة إلى القرن السادس الهجري، نلاحظ أن الزمخشري طرح رؤيةً عقلانيةً للغاية سبقت إسلاميي العصر الحديث في تفسيره للآية المشار إليها، فذكر أن "كل هجرة لغرض ديني -من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعةً أو قناعةً وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب- فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على الله"؛ وفقاً لتفسيره "الكشاف".
الهجرة... من التخلي إلى الحشد
إضافات فارقة ومؤثرة، أكد عليها ثلاثة من أبرز المنظّرين الإسلاميين، هم الهندي أبو الحسن الندوي، والسوري سعيد حوى، والأردني محمد عبدالقادر أبوفارس. ليست الهجرة عندهم حدثاً تاريخياً، بل هي نوع من التخلي والترك، فالبقاء في دار الحرب معصية في ذاتها، وإنها مرحلة استعداد تسبق الفتح والتحرير وإقامة المجتمع المسلم.
طارحاً فكرة التخلي، شرح الندوي في كتابه "السيرة النبوية"، أن الهجرة أثبتت "أن الدعوة والعقيدة يُتنازل لهما عن كل حبيب وعزيز وأليف وأنيس، وعن كل ما جُبلت الطبائع السليمة على حبّه وإيثاره والتمسك به والتزامه ولا يتنازل عنهما لشيء. وقد اقترن تاريخ الدعوات العظيمة والديانات القديمة بالحركة"؛ ذكر ذلك دون أن يعبأ بكونها فكرةً تعارض الطبائع السليمة، لكنها مرحب بها لأن الدعوات العظيمة مقترنة بالحركة أي التنقلات والهجرات، وعنده تفيد دروس الهجرة بتخلي الفرد عن كل ما نشأ عليه في سبيل العقيدة فقط، فلا التزام تجاه عائلة أو وطن أو أرض، الالتزام الوحيد المطلوب هو نشر الدعوة وإعلاء لواء العقيدة.
تصورات الإسلاميين حول مفهوم الهجرة مرَّت بتحولات فكرية شديدة الخطورة، خلقت واقعاً جديداً استغلته بعض التنظيمات المسلحة التي كان لها نصيب من السيطرة على الأرض
أما حوى، بحسب كتابه "الأساس في السنّة وفقهها، ج1"،فقد استفاد من هجرة المسلمين إلى الحبشة فائدةً يوظفها لصالح تياره: "لقد هاجر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُطر كافر فيه عدالة وحرية، يستطيعون من خلالها أن يأمنوا وأن يقيموا شعائر الإسلام، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعةً في العمل والحركة، فهناك بلدان في العالم تسمح للمسلم بأن يقيم شعائره الدينية وتعامله كما تعامل أبناءها في الحقوق والواجبات، مثل هذه البلدان تصلح للتفكير فيها إذا ما اضطهد المسلم في بلده بل تصلح للإقامة فيها". هنا يسمح للتواجد في دول غير إسلامية، كون ذلك أفقاً أوسع لـ"العمل والحركة".
وهكذا تكون الهجرة عند حوى واجبةً إذا كان الفرد في دار حرب فقط، طالما دار الكفر العادية توفر له متسعاً من العمل والحركة، إذ يؤكد مستنداً إلى آراء فقهاء أن الفرد "إن بقي في دار الحرب عصى"، كما ذكر في كتابه "الأساس في السنّة".
ولم يترك حوى فوائد الهجرة، قبل أن يسجل لوناً من ألوان العنصرية والانحياز الديني الذي يتعارض مع فكرة الدولة المدنية الحديثة، وهي إسناد الوظائف العامة إلى المسلمين أولاً، إذ رأى في حادثة استئجار النبي لدليل مشرك هو عبدالله بن أريقط، "ما يدل على أنه إذا لم يوجد مسلم لمهمة لا بد منها فبالإمكان الاستفادة من الكافر الثقة"؛ وفيها وضوح لفكرة أن الناس فريقان، إما مسلم مؤمن أو كافر، والفريق المسلم هو المعني بالتصدي للمهام، دون النظر إلى الكفاءة والمساواة، كما أن تعبير "الكافر الثقة" هو تفكير في منطق الحرب.
تأخذ الفكرة بعداً أكثر وضوحاً مع محمد أبو فارس في كتابه "المدرسة النبوية العسكرية"، إذ جعل من الهجرة خطوةً للحشد تسبق الفتح والتحرير، وبحسب ما يذكر فهي "هجرة الحشد للقوى العسكرية الإسلامية لتعود فاتحةً البلاد ومحررةً العباد والمقدسات".
هجرة الكهوف والمغارات
عملياً وواقعياً، نفذت "جماعة المسلمين" المشهورة باسم "جماعة التكفير والهجرة"، وأميرها شكري مصطفى (أدين بالإعدام في قضية اختطاف وقتل وزير الأوقاف حسين الذهبي عام 1977)، فكرتها عن الهجرة، بمعنى اعتزال المجتمع، والانفصال كلياً عنه، ترقباً لاكتمال القوة اللازمة للقضاء على الجاهلية.
وبحسب كتاب "موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام"، لمجموعة من المؤلفين، فإن جماعة شكري مصطفى رأت "أن تعتزل المجتمع، ويسكن أفرادها في قرى منعزلة في الصحراء بعيداً عن المجتمع الجاهلي، كي يعبدوا الله وحده، حتى تتيسر لهم الهجرة إلى أرض الله الواسعة فراراً من سلطان الجاهلية، فلجأوا إلى الكهوف والجبال والمغارات".
نفذت "جماعة المسلمين" المشهورة باسم "جماعة التكفير والهجرة"، وأميرها شكري مصطفى فكرتها عن الهجرة، بمعنى اعتزال المجتمع، والانفصال كلياً عنه، ترقباً لاكتمال القوة اللازمة للقضاء على الجاهلية.
رافضاً هذا التوجه، شرح محمد عبدالسلام فرج (مفتي تنظيم الجهاد، أدين بالإعدام في قضية اغتيال السادات1982)، في كتابه "الفريضة الغائبة"، أن التوجه الصحيح ليس الهجرة بل قتال الدولة وجهاً لوجه، لأنه "مَنْ يقول إن الطريق لإقامة الدولة الإسلامية هو الهجرة إلى بلد آخر وإقامة الدولة هناك ثم العودة مرةً أخرى فاتحين، ولتوفير جهد هؤلاء فعليهم أن يقيموا دولة الإسلام ببلدهم ثم يخرجون منه فاتحين". وذكر مستكملاً أن "مَنْ يقول إنه سوف يهاجر إلى الجبل ثم يعود فيلتقي بفرعون كما فعل موسى، وبعد ذلك يخسف الله بفرعون وجنوده الأرض، وكل هذه الشطحات، ما نتجت إلا من جراء ترك الأسلوب الصحيح والشرعي الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية".
وقطع فرج الطريق على قارئه، إذ طرح السؤال وأجاب عنه، هكذا: "ما هو الأسلوب الصحيح؟ يقول الله تعالى: 'كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم'"؛ مكتفياً بالرد على سؤاله بنص الآية (البقرة:216).
داعش... الوصول إلى نهاية المدى
الخدمات الفكرية والنظرية التي قدّمها رموز التيار الإسلامي المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة المسلمين (التكفير والهجرة)، وتنظيم الجهاد، أو تجاربها المنقوصة، جاءها التفعيل العملي الأكثر اكتمالاً مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
بعد صعود زعيم داعش منبر جامع النوري التاريخي في الموصل لإعلان قيام دولة الإسلام عام 2014، أصدر أبو بكر البغدادي (قُتل في تفجير بعد حصاره من الجيش الأمريكي في إدلب السورية 2019)، تسجيله الصوتي الأول، ويدعو فيه إلى الهجرة إلى دولته، قائلاً: "يا أيها المسلمون في كل مكان، من استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر، فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة"، وفقاً لتقرير موقع "فرانس24" في 2تموز/يوليو 2014.
في الوقت نفسه، طلب محمد العدناني المتحدث الرسمي باسم التنظيم، سرعة الهجرة إلى الدولة لنصرتها، قائلاً في تسجيل صوتي: "نُنبّه المسلمين إلى أنه بإعلان الخلافة صارت واجبةً على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم (البغدادي) حفظه الله، وتبطل شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات التي يتمدد إليها سلطانه ويصل إليها جنده"؛ بحسب تقرير موقع "فرانس24" المشار إليه.
وهكذا تحولت الهجرة النبوية من حدث تاريخي، بحث فيه المسلمون الأوائل عن السلام، إلى تحريض مباشر على الهجرة، ثم التخلي والاستعداد والحشد من أجل إقامة الدولة الإسلامية، وتلك هي المعاني التي استندت إليها قيادات داعش في مطالبتها بوجوب الهجرة لنصرة دولتهم، دار الإيمان الوحيدة في الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين