"التاريخ هو العدو الذي لا تستطيع قتله، فحين تدب فيه الحياة تكون قد أصبحت تحت التراب، حيث لا رهبة لك، ولا رغبة فيك"، الجغتائي الأخير.
هذه الرسالة من رواية "فخ الأسماء" لخيري الذهبي، التي تقدمها دار النشر في إصدار الكتاب: "رسالة من السلطان المغولي إلى السلطان المملوكي تلهب خيال الكاتب، فيشرع في رحلة خيالية مجتازاً أعتاب الأمكنة، ومحلقاً وراء أزمنة غابرة، مستنطقاً التاريخ ومستدرجاً شخصياته إلى روايات ضجّ بها خياله، فأترعه بأحداث هي ربما من صنعه، كلها، أو ربما جزء منها، إلا أنه ومهما يكن من أمر؛ فإن خيري الذهبي أخذ بخيال القارئ ليرتحل في عوالم (فخ الأسماء)، وفي أطيافها التي تجره حيناً إلى عوالم ألف ليلة، وتارة إلى ما جاء في كتب التاريخ عند الغزو المغولي، وطوراً إلى عوالم دافئة من خلال استرسالات الكاتب الوصفية، وأطواراً إلى عوالم فلسفية يستطيع من خلالها قراءة الحاضر على وقع الماضي، وقراءة التاريخ بفكر الفيلسوف".
وبذلك تحضر في الرواية أشكال من التأليف الأدبي والعجائبي والتاريخي، تهدف في تضافرها إلى معالجة موضوعات طالما عالجها خيري الذهبي في أعماله: السلطة والعامة، السلطان والسطوة، الفكر والثقافة في العلاقة مع المجتمع.
السلطان والسلطة المطلقة والخلود
في روايته الحالية، كما في روايته "المكتبة السرية والجنرال" يحضر موضوع السلطة، حيث يكثفها الروائي عبر الإمكانيات الفانتازية، فالشجر الفانتازي الذي يحمل جنوداً ونساءً بقدرات خارقة، نقرأ في الرواية: "ماذا لو استطاع السلطان استنبات شجرة لا تثمر إلا جنوداً بلا قلوب ولا عمل لهم إلا القتل والذبح بإشارة من السلطان، ثم هاجمته فكرة ماذا لو استنبت أشجاراً لا تحمل إلا النساء، سيختارهن الأجمل. كان السلطان قد استطاع وبصبر طويل أن يرتب مملكته كما ينسق الجنائني حديقته".
كيف تعيش مدينة بلا سلطان؟ عن السلطان والسلطة في أعمال خيري الذهبي
إنها السلطة المطلقة التي يعالجها الروائي، التي تمتد عبر أشكال الأنظمة السياسية في التاريخ: "بأنه يحلم أن يضمن الجنة والغفران إنه يريد أن يضيف إلى أسمائه الكثيرة، سيد العالم، وخاقان البرور السبعة، وسلطان البحور السبعة، باعث الخوف في العناصر الأربعة، مركع الأنس والجن والطير... سليمان الزمان"، وكما كل قوة مطلقة، منذ جلجامش إلى أكثر الآداب معاصرة، فإن السلطان يواجه سؤال الخلود: "ظن السلطان نفسه بأنه لن يموت، وحتى لا يموت استدعى الفلاسفة والخيميائيين يسألهم ويستفتيهم عن سر الخلود".
ما معنى السلطان؟ وما حاجة المجتمع للقيادة؟
لكن موضوعة السلطة والسلطان لا تعالج فقط بإطاره المثالي، فالمدينة مهددة من سطوة سلطة أخرى قادمة، فيبتكر الروائي صراع السلطات في معالجة لمسألة حاجة العوام إلى السلطة، يهددهم سلطان الجغتائيين: "ذكرى الجغتائيين كانت دائماً ذكرى الجماجم المكومة والرعب المقيم، كانت ذكرى الموت المجاني، والاغتصاب المجاني، والحريق والخراب المجاني. لم تتوقف المبارزة حتى امتلأت الساحة بجثث العوام من حي السلطان وجثث الجغتائيين باذلي أرواحهم".
يعالج الذهبي موضوعة القائد/ السلطان/ الجنرال في إطار فانتازيا السلطة المطلقة، فيصبح صاحب السلطة هو صاحب الأعاجيب الفانتازية وتطرح أعماله أسئلة جوهرية حول حاجة الجماعة الإنسانية إلى القيادة
وتحتل المدينة موضوعة مركزية في أدب الذهبي، فكما تعالج السلطة بأبعادها الفانتازية، تصبح المدينة كياناً مستقلاً في حركتها داخل الزمان والمكان، فالتائهون يبحثون عن المدينة التي سقطوا منها، المدينة التي تستمر في حركة التاريخ، المدينة المثالية المنشودة، التي تقسم الرواية في رحلة الشخصيات في البحث عنها: "المدينة لا تقترب، احترقت العيون بالعرق المالح والمدينة لا تقترب، قال فيما يشبه الحدس: إن لم ندركها قبل العتمة فاتتنا إلى الأبد، هزوا برؤوسهم موافقين، كان كل همهم أن يدركوها، هذه المدينة المحلوم فيها أبداً، المدينة التي منها سيطعمون ويسكن الجوع، المدينة التي منها سيروون وتنتعش العيون".
مقاربات خيري الذهبي مستلهمة من أصول الفانتازيا العربية من أعمال مثل مسامرات الموتى، لوقيانوس السميساطي، ألف ليلة وليلة، وسيرة سيف بن ذي يزن
الكتاب الكون، المكتبات الحياة
"اكتشف الشيخ أن حلمه في الخروج من عالم التفاهة بوضع كتاب من خمسين حديثاً جيدة الرواية والأسانيد لن يخرجه من عالم التفاهة. فلكي تخرج منه عليك أن تضيف شيئاً إلى المكتبات التي رآها بعرض الأفق بأهمية البويطيقا، أو البيان والتبين، وصحيح البخاري، صحيح أن يبهر العوام وأنصاف العوام بهذه العناوين، ولكنه حين رأى نفسه في مدينة الكتاب عرف كم أضاع من عمره في الهواء".
أيضاً في تقاطع آخر مع روايته "المكتبة السرية والجنرال"، يتفنن الروائي الذهبي في توظيف الفانتازيا والما فوق واقعي في تمثيل أهمية الكتب والمكتبات روائياً، حيث يشكل اكتشاف الشيخ أحمد للمكتبة كما هو اكتشاف الإنسانية جمعاء لأهمية الكتاب: "سيؤرخ الشيخ أحمد لحياته قاسماً إياها إلى شطرين، شطر عاشه قبل الوصول إلى الكتاب، والكتاب هذا معرفة بالجنس، وشطر سيعيشه بعد الكتاب".
وتحمل هذه الحكائية الروائية خطاً يمثل صراعات الفكر والشمولية عبر التاريخ، حيث تحرق المكتبات من قبل السلطات الجديدة في الوقت الذي يكتشف فيه فكر الشيخ أحمد أهمية القراءة: "كتب يكتب كتابة، كاتب، مكتوب كتاب، الكتاب الكتاب، وتنهد في حرقة، الكتاب تلك اللعنة التي دخلت حياتي لأكتشف أني لست الغارق في وهدة التفاهة فقط، بل لن أحظى بفرصة للخروج منها. فأين يمكن لك في هذا الزمن الأصعب بعد أن حرق الجغتائي الأول الكتب، وكتب الكتب، وشروح الكتب وتفاسير الكتب، والكتب عن الكتب فلم يتبق لنا إلا القشور".
في روايته "المكتبة السرية والجنرال"، كما في روايته "فخ الأسماء" يحضر الكتاب في أدب خيري الذهبي على اعتباره الوعي الإنساني بأكمله، وتحضر المكتبة بما يرمز إلى كامل التاريخ وخزائن المعرفة الإنسانية المدهشة. المكتبة والكتاب في قصص الذهبي في صراع مستمر مع القمع والتزوير
ويتساءل الشيخ أحمد كما يتساءل أي روائي أو كاتب: ما الذي سيضيفه إلى تاريخ طويل من المكتبات؟ إنه سؤال الروائي يتسلل إلى شخصياته: "صغر الحلم في قلبه فجأة، صغر وهو يرى المكتبات، المكتبات تمتد أمامه حتى آخر ما يمكن لعينه أن ترى، كيف يمكن لك أن تضيف شيئاً مهما صغر". وتصبح القصيدة في الرواية تساوي الحياة والوجود: "انبثقت القصيدة أخيراً، القصيدة المنتظرة، القصيدة المختفية، القصيدة المتنكرة بقصائد حب تابع بالقطعة، القصيدة المسحوقة بخمريات لم يحبها".
السلطان-السلطة أم المدينة-التاريخ؟
"كان يعرف أن هناك سلطاناً، وأنه إن هزم السلطان استسلمت المدينة، ولكن ها هو السلطان يهرب، فلم لم تستسلم المدينة؟ ثم ماج السؤال: هل السلطان نعمة أم نقمة؟ غاب السلطان فتحولت الرعية إلى ذئاب، ولم تعد رعية ولا نعاجاً ".
لا تخفى الرمزية في معالجات خيري الذهبي للعلاقة بين السلطان والمدينة، فهو سؤال العلاقة بين القيادة والبلاد، بين النظام والمكان، فيفاضل المؤلف بين السلطان/السلطة من جهة، وبين المدينة/التاريخ من جهة أخرى: "السلطان يستطيع لو طلبت إليه أن يستدعي شجرة نسبه أن يجر شجرة ترجع إلى آباء أكثر احتراماً، ولكن المدينة خالية لا سكان فيها، وهو يعرف في ركن خاص بالحكايات في عقله أن المدينة تصاب بالرعب حين يموت السلطان، فكيف تعيش مدينة بلا سلطان". كما يركز الذهبي دوماً على مظاهر التعذيب في التاريخ العربي، فيصف عملية التعذيب "السلخ حياً"، حيث تتسابق الجماهير للوصول إلى الصفوف الأولى في باحة التعذيب، بما يذكر بطقوس التعذيب في الحضارة الرومانية.
أصول الفانتازيا العربية
"يتحاور الشيوخ ألا بد من نار تطهر هذا الدنس، ويقترح أحدهم: "حريق المدينة ولا شيء أقل. التفتوا إليه جميعاً كأنما يستفتونه: فلتحترق المدينة، وأكسب الخلود في كتاب. أحنى رأسه العجوز في ضعف فوق كتابه، وتساءل في سخرية حزينة: أكان احتراق المدينة ضرورياً لأكتب هذا الكتاب إذن؟
وأكمل يتساءل، وقد صارت السخرية المرة سلاح العجوز لديه: ترى أكان أنا من أحرق المدينة بأمنياتي".
يوضح د. جمال شحيد في كتابه "الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة"، عن حضور الذاكرة والتاريخ في أعمال الروائي خيري الذهبي، ويعتبر "ثلاثية التحولات" من روايات التذكر بامتياز، باعتبار التذكر علامة من علامات التاريخ الإنساني والشعور به وبالخيوط التي تحركه. في رواية "هشام أو الدوران في المكان" يعود هشام من ألمانيا إلى منزل العائلة القديم في دمشق، حيث يجده متهدماً ويكتشف فيه بلاطة في بيت المؤونة، وبعد رفعها بجهد جهيد، تخرج من تحتها أطياف أجداده وذويه بكل ما يحملون من أحداث واستيهامات وتداعيات: "فهاجت الذكرى واستعرت الذاكرة، وانصهرت أزمنة التاريخ وتشابكت. ويلعب الفصلان الأول والأخير من الرواية دوراً حاسماً في مسألة التذكر، يمثل الأول فيها هيجان الذاكرة بعد فتح باب الكهف، ويمثل الثاني محاولة طمس الذاكرة من خلال حرق الذكريات وطرد الأطياف المهيجة لها".
في ثلاثية "التحولات" تذكّر شخصية لأخرى يعني تقمصها، مما يسميه شحيد في كتابه التداخل بين التذكر والتحول
"صرخت لينا: هشام، أنت من أخرجهم من كتف عتمتهم. أعدهم. قال: كيف. قالت: بإحراق كل ما يذكرنا بهم".
يكتب د. جمال شحيد: "كأن الخلاص بالنسبة لهشام الذي بعد أن سجن لأفكاره اليسارية ويتعرض للاعتقال، فتقرر عندئذ الهجرة دون التفكير بالعودة ممزقاً جواز سفر، كأن هذا الخلاص يكمن في العودة إلى تاريخ عائلته وتاريخ وطنه الجمعي. ومع أن هشام يحاول التخلص من ذكرياته، إذ يقول: "أريد أن أولد من جديد، أريد أن أنسلخ من ماضي لأولد مخلوقاً جديداً بلا ماض ولا أحزان وذكريات". ولكن مأساة هشام أنه لا يستطيع النسيان. وما الذكريات التي تهيج في ذهنه إلا ذكريات أليمة ومأساوية: "إنها مخزن للجراح والإهانات والإحباطات التي تراكمت في قلبه، وتراكمت حتى كتب في وصيته فيما بعد هناك البعيد: لا تدفنوني في الوطن ذلك الذي لم يعطني إلا الجراح".
يتذكر هشام لقطات من أفلام السينما التي كان يهرب إليها صغيراً في طفولته، وتتداخل في ذاكرته تلك المشاهد مع ذكريات لجنة التأديب التي كان يخضعه إليها الشيخ بهجة ناظر المدرسة، وهو يهدد: "لابد أن الله سجعلك من الحطب الصغير في جهنم". ويتذكر هشام أمام اللجنة لقطات من الأفلام التي رآها التي تتداخل أصوات أعضائها مع صوت أولغا التي تحاول القبض على هشام التائه بين أروقة الذاكرة. هذه التعددية في الأصوات هي التي تدفع بأولغا إلى التصحيح: "أرجوك دعنا نتفق. لنقم حداً واضحاً بين الذاكرة والذكرى والذاكرة المؤلفة". ثم تنتقل ذاكرة هشام إلى الشيخ شكري الصوفي الذي يستميل الفتى هشام إلى تمارين الروح وحلقات الذكر.
بين التذكر والتحول
رواية هشام هي الجزء الثالث من كتاب "التحولات"، وبما أن التذكر مفتاح أساسي للرواية، وبما أنه قوة حتمية طاغية تسيطر على الشخصيات، يحصل انزياح نفسي فتنتقل الشخصية من إهابها لتحل في إهاب شخصية أخرى. وقد تسمى هذه الحالة تناسخاً أو تقمصاً، وسأسميها تحولاً. فبعد التذكر تعتقد الشخصية أنها تقمصت الشخصية التي تتذكرها أو تعيش حالة من حالاتها. وتتعجب أولغا المحللة النفسية من فكرة التناسخ التي تتنافى والمنطق الديكارتي والقانون العلمي، فتقول: "يا لكم ولتناسخكم أيها الشرقيون".
في شهادة قدمها في ندوة "الرواية السورية المعاصرة، المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، 2000"، أوضح الروائي خيري الذهبي المصادر الأدبية العربية التي استلهم منها عالمه الفانتازي، ويقدم مداخلة تحت عنوان "لوقيانوس السميساطي وأصول الفانتازيا العربية" والسميساطي، الكاتب السوري الذي ولد على نهر الفرات، والذي كان فناناً ونحاتاً وكتب "مسامرات الموتى" و"الربة السورية" وما يصل إلى الثمانين كتاباً، لكن الذهبي يذكر أكثرها تأثيراً فيه، كتاب "قصة حقيقية":
"حيث يحدثنا السميساطي عن رحلة قام بها مع عدد من أصدقائه حين انطلقوا من أعمدة هرقل أو مضيق جبل طارق إلى المحيط الهسبيري أو الأطلسي، ثم دفعت بهم العواصف، وتقاذفتهم الأنواء خلال تسعة وسبعين يوماً إلى جزيرة الكرمة البشرية، ثم صعدوا إلى القمر، وحاربوا أهل الشمس، وأقاموا في بطن الحوت، وتزودوا بالماء من جزيرة الأجبان، والتقوا بالرجال الفلينيين الذين يمشون فوق الماء بأقدام من فلين، ثم يزورون جزيرة السعداء وبلاد الأحلام".
إن فانتازيا خيري الذهبي في أعماله الأدبية هي استلهام لما يطلق عليه "أصول الفانتازيا العربية" في شكل الرواية الحديثة المعاصرة: "قارئ كتاب ألف ليلة وليلة وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، وسيرة حمزة البهلوان، وكتاب عجائب المخلوقات للقزويني والذي انحط فيما بعد في اعتقادي إلى كتاب خريدة العجائب لابن الوردي، لابد له أن يصل إلى منجزات الفانتازيا العربية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع