شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"كيف أعتاد الحياة بعيداً عن والدتي؟"... نساء يصنعن حياتهن في الغربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمهاجرون العرب

السبت 13 يناير 202412:53 م

انتقلتُ وابني الرضيع إلى ألمانيا قبل فترة قصيرة. لم تكن المرة الأولى التي أنتقل فيها من بلدي لكي أقيم في بلد آخر، ولا حتى المرة الثانية، لكنها بالتأكيد كانت الأصعب. 
قررت أن أسأل بعضاً من صديقاتي اللواتي يقطن في أوروبا ونساء عربيات التقيتهن في المواصلات العامة في ألمانيا كيف أمضين الأشهر الثلاثة الأولى في الغربة، وكيف استطعن خلق بيت يشعرن فيه بالدفء، من باب "الفضفضة" الاعتيادية بالنسبة لنا كأشخاص اجتماعيين يطيب لهم مشاركة حلو الحياة ومصاعبها مع غيرهم ليشعروا بأنهم على ما يرام. ولعلي أستفيد من تجاربهن في تبديد الشعور بالغربة. ولعل قارئ هذه المادة الذي قد يكون انتقل من بلده ويشعر هو أيضاً بأنه ليس وحده.

قررت أن أسأل بعضاً من صديقاتي في أوروبا ونساء عربيات التقيتهن في المواصلات العامة في ألمانيا كيف أمضين الأشهر الثلاثة الأولى في الغربة، وكيف استطعن خلق بيت يشعرن فيه بالدفء

"كنت أقبع في الشهور الثلاثة الأولى تحت وطأة صدمة من انتقل من واقع لواقع مختلف كلياً. كنت أنظر حولي وأحاول اكتشاف كل شيء، أكثر ما لفت انتباهي هو المناظر الخضراء الطبيعية كالغابات. كنت أراقب حركة السير، وأتأمل الناس من حولي، كيف يتحدثون ويتصرفون. كنت أحاول اكتشاف طبيعة المعيشة هنا، التسوق، الرحلات، كل شيء. كنت أنظر للحياة من منظور آخر، لأنني في قرارة نفسي قررت العيش هنا، وتطوير نفسي واستغلال الفرص المتاحة". هكذا بدأت هدى، التي جاءت من سوريا إلى ألمانيا قبل ستة أشهر بعد أن تزوجت من رجل مقيم هناك. 
وتكمل: "في الشهور الثلاثة الأولى كنت أنظم حياتي، فرشت بيتي، سجلت في مدرسة اللغة، تعرفت على شخصية زوجي أكثر".
وتُضيف: "بعد أن انتهت الشهور الثلاثة الأولى شعرت بأنني كمن كانت في غفلة واستيقظت. بدأت أشعر بالاشتياق والحنين للأهل والوطن، وهذه المشاعر تزداد يوماً بعد يوم".

"بعد أن انتهت الشهور الثلاثة الأولى شعرت بأنني كمن كانت في غفلة واستيقظت. بدأت أشعر بالاشتياق والحنين للأهل والوطن، وهذه المشاعر تزداد يوماً بعد يوم".
أما شيرين، 42 عاماً، التي جاءت من ريف سوريا إلى مدينة الميناو في محافظة تورينغن في ألمانيا، منذ ما يقارب الأربع سنوات، فأمضت الأشهر الأولى في مكتب الأجانب، بحسب قولها، تنهي الإجراءات البيروقراطية الطويلة التي تشتهر ألمانيا بها. 
وتبيّن شيرين، التي فضلت استخدام اسم مستعار للحفاظ على خصوصيتها، أن الشعور الذي كان يسيطر عليها في تلك الفترة هو الشعور بالوحدة، كونها كانت تقضي الكثير من الوقت في البيت وحدها بعد ذهاب زوجها إلى العمل، فهي لم تكن تعرف أحداً. كانت تحاول الخروج من البيت وحدها لكن شعور الخوف، بحسب وصفها، لم يكن يفارقها بسبب ضعف لغتها الألمانية في تلك الفترة، لذا كانت تعتمد على استخدام المترجم حين تخرج للتسوق مثلاً.
"وجدت نفسي فجأة وحدي مع طفل يقترب من سن دخول المدرسة، ولا نعرف كيف نتأقلم أنا وهو مع حياتنا الجديدة في هذا البلد الغريب. أصعب جزء بالنسبة لي كان اعتياد الحياة بعيداً عن والدتي، التي كنت متعلقة بها". بهذه الكلمات بدأت مي، 34 عاماً، التي انتقلت من الإسكندرية إلى باريس قبل سنة وخمسة شهور، كلامها.
الصعاب والتحديات
تعتبر مي اللغة إحدى أهم الصعوبات التي واجهتها في الشهور الأولى لانتقالها إلى أوروبا وما زالت تواجهها حتى اليوم. تقول: "حين تعيش في بلد لا تتقن لغته تشعر بأنك في منفى. اللغة العربية في التعامل تعطيني شعوراً بالدفء والألفة. ما زال التواصل باللغة الفرنسية ثقيلاً على قلبي، لا أستطيع ردع نفسي من الشعور بأنني حين أتعلم وأتواصل باللغة الفرنسية أنسلخ عن كوني مصرية وعربية".

"أصعب جزء بالنسبة لي كان اعتياد الحياة بعيداً عن والدتي".
أما ريم، 28 عاماً، التي جاءت من لبنان إلى ألمانيا في العام 2021 فتوضح: "أول صدمة بالنسبة إلي بعد قدومي إلى ألمانيا هي طول المسافات والطرقات، فقد أحتاج ثلاث ساعات في السيارة لأذهب من مكان إلى آخر في ألمانيا، وهو ما لم نعتده في لبنان. هناك كنت أستعمل سيارتي في التنقل من مكان إلى آخر، لكن هنا، عليّ الاعتماد على المواصلات العامة التي وجدتها صعبة في بادئ الأمر".
وتضيف: "أحد أهم الصعاب التي واجهتني حين انتقلت إلى هنا هو بعدي عن عائلتي ومعارفي. أنا شخص اجتماعي أحب لقاء الناس، وفجأة وجدت نفسي وحدي، كنت مثل السمكة التي أخذت من حوض السمك لترمى في محيط. وجدت الناس حولي غرباء، لا يشبهونني في الشكل أو الثقافة وهو أمر غير معتاد في لبنان".
وأشارت ريم أيضاً للمناخ البارد جداً في ألمانيا، فبرأيها أن هذه البرودة غير المعتادة بالنسبة للقادمين من الشرق الأوسط، تسبب لهم أمراضاً ومشاكل صحية جمة.
ومن التحديات الطريفة التي واجهتها كبر مساحة مراكز التسوق "supermarkets"، تقول: "كنت أمضي ثلاث ساعات لأشتري حاجات البيت بسبب مساحة المتاجر الكبيرة وعدد المنتجات الهائل، لم أكن أستطيع كبح نفسي من تحويل جميع الأسعار في رأسي من اليورو إلى الليرة اللبنانية".
تشارك هدى تجربتها مع رصيف22: "إحدى الصعوبات هي أن يبدأ الإنسان حياته من الصفر، كأن يكون عليه تكوين حياته الاجتماعية من جديد، يكوّن صداقات ويبني ثقة مع بعض الأشخاص، ويراكم ذكريات وتجارب، وهذا ليس سهلاً في بلد لا بركة فيها للوقت، لا وقت لتكوين صداقات حين تجد نفسك تجري بشكل دائم". 
وتوضح: "أشعر بأنني أعيش هنا في سرعة هائلة، علي دوماً الركض للحاق بالقطار ودورة اللغة والدراسة والطبخ وكل جوانب الحياة".
وتعتبر هدى أن أكبر تحدٍ يواجه الإنسان الذي اعتاد النجاح في بلده هو الجهود التي يبذلها لينجح في الغربة، فمن المستحيل، بحسب هدى، النجاح في أوروبا إذا لم يكن نمط حياتك أوروبياً من حيث طريقة الدراسة والاهتمام بالبيت والعائلة والعلاقات الاجتماعية.
لم تعتد مي العيش في باريس، لكن إحساس الحزن والفقد الذي شعرت به حين غادرت الإسكندرية تضاءل مع الأيام، خاصة بعد اندماج ابنها في المدرسة وتكوينه لأصدقاء جدد.

"صوت فيروز هو أحد ركائز البيت خاصة في الصباح، فحين يشدو صوتها أشعر بدفء لا يوصف".
تقول: "أكثر ما يثير ذعري هو أن أشعر بالغربة حين أسافر إلى مصر بسبب البعد، لكنني أعتقد أن أوطاننا العربية تبقى محفورة في قلوبنا ما دمنا على قيد الحياة، وذكرياتنا في أوطاننا هي طوق نجاتنا في الغربة".

بيت دافئ

الشعور بالغربة أمر لا مفر منه حين تسافر للعيش في بلد أجنبي. وجدت هؤلاء النساء أنفسهن مجبرات على خلق بيت دافئ يشعرن به بالألفة والأمان المفقود بسبب بعدهن عن أوطانهن وعائلاتهن، وكل منهن كانت لديها طريقتها الخاصة لفعل ذلك. 
الأكل المصري هو السلاح الأهم لمي، توضح: "الأكل المصري يشعرني دوماً بأنني في الوطن، أحب رائحة الخبز المُعد في المنزل لأنه يذكرني برائحة أمي". 

وتضيف: "كما أحاول دوماً دعوة أصدقاء زوجي المصريين إلى بيتنا، الشعور بأن لدينا أصدقاء وبأننا لسنا وحدنا في هذا المكان يبدد شعور الغربة ولو لبعض الوقت".
أما شيرين فكانت لديها وسائل عدة لتجعل بيتها دافئاً، من بينها إحضار ماكينة خياطة تشبه ماكينة أمها، كما لا تتوقف عن نسج الصوف والرسم لأنهما يذكرانها بأمها وخالتها اللتين يحبان فعل ذلك. 
كما تستعمل شيرين المعطرات لتجعل بيتها دافئاً وحميمياً، فهي تتعمد جعل رائحة البيت تشبه رائحة بيتهم في سوريا مثل إشعال البخور واستعمال الأعشاب المنتشرة في سوريا مثل الصعتر والغار في الأكل، لكي تعبق رائحتها في زوايا البيت. 
وتعدّ الكشك والزبدة والجبنة وكعك العيد في المنزل لأن تلك الأشياء تشعرها بأن بيتها يشبه بيت والدتها وجدتها.
وجلبت شيرين من سوريا أيضاً صابون زيت الزيتون الذي لا يغسل زوجها شعره إلا به، رغم أنه يقيم في ألمانيا منذ عشرين عاماً.
وتضيف: "صوت فيروز هو أحد ركائز البيت خاصة في الصباح، فحين يشدو صوتها أشعر بدفء لا يوصف".
أما ريم فجلبت من لبنان العديد من الأغراض التي تجعلها تشعر بأن منزلها دافئ، مثل صورها مع عائلتها في بيتهم، وبعض أغراض الزينة ومكونات الطبخ مثل البهارات اللبنانية. 

"أحب رائحة الخبز المُعد في المنزل لأنه يذكرني برائحة أمي". 

أما هدى فقالت: "التحدث مع أمي أو والدة زوجي عبر مكالمة فيديو لساعات يشعرنا بأننا نجلس معهم ونشاركهم، لعل ذلك الوقت هو أكثر وقت أشعر به بأن بيتي في ألمانيا دافئ".
لم ينتقل المرء  ليعيش في بلد آخر إلا لأنه وجد في ذلك خيراً له، وحتى للأمور الخيرة في الحياة عواقب علينا اجتيازها، وقدرة النساء على التكيف في البيئة المحيطة تجعلهن يخلقن وسائل تشعرهن بالألفة في نهاية يوم طويل في الغربة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image