لم يكن "أبو منتظر"، البالغ 38 عاماً، يدرك أنه سينال كل هذا التعب والجهد والمال ليحصل على بيت يؤويه هو وطفليْه وزوجته، حيث اضطر لدفع 9000 آلاف يورو لأحد السماسرة بعد انتظار استغرق سنة كاملة في بحث شاق عن منزل مكون من غرفتين وصالون ومطبخ في أحد أحياء برلين.
فقد أدت أزمة السكن في ألمانيا إلى خلق نظام جديد للمضاربات الفاسدة، فانتشرت ظاهرة السمسرة بشكل كبير جداً، ازدادت بشكل ملفت بين أوساط المهاجرين الشباب، ما خلق أعباء إضافية باتت تؤرقهم بالتكاليف الجانبية إلى جانب أعباء الزواج. فمنزل صغير مكون من غرفة واحدة يكلف (سمسرة) في مدينة مثل برلين من 7000 إلى 11000 يورو، وهي كذلك في كبريات المدن.
من هو "السمسار"؟
في قانون الإيجار في ألمانيا، يلعب السمسار دوراً مهماً كوسيط بين الباحثين عن الشقق وأصحاب المنازل تحت حماية قانون السمسرة(Maklergesetz)، الذي يتولى الوسيط فيه مهمة مساعدة العميل في إيجاد عقار مناسب من خلال مساعدته في البحث عنه. وعند ذلك يتلقى الوسيط عمولة، تُمثل مقابل خدماته في التوسط.
فالسمسرة في أصلها عمل كباقي الأعمال المرتبطة بالشأن العقاري المتمثل بالقدرة على الوصول إلى الزبون وإكمال البيع بين الطرفين. وبذلك يكون السمسار هو الوسيط بين البائع والمشتري لتوقيع البيع وهو الدال على مكان السلعة وصاحبها مقابل عمولة معينة تُدفع للسمسار.
أدت أزمة السكن في ألمانيا إلى خلق نظام جديد للمضاربات الفاسدة، فانتشرت ظاهرة السمسرة بشكل كبير.
والسمسرة في ألمانيا مهنة قديمة وقد أجازها القانون الألماني كعمل مشروع ومصرّح بمزاولته. لكنها خلال السنوات الأخيرة باتت تتحول لنشاط استغلالي ويتم امتهانها خارج إطار القانون. فبات ينظر إليها كعمل غير مشروع ومشتبه به وأصبحت تتم بالسر رغم أنها تدخل في أعمال كبريات الدول والمشاريع والبنوك والبورصات والأعمال التجارية الضخمة.
على هذا تحارب السلطات الألمانية السماسرة غير المصرح بعملهم وهو أمر رغم ذلك يصعب متابعته لأنه يتم بسرية تامة ولأن السماسرة يتبعون أساليب وأشكال يصعب رصدها.
ذوو الدخل المحدود ضحايا السماسرة
في مدينة نورنبيرغ الألمانية، يعمل أبو عبد الله، كوسيط عقاري وسمسار لجمعية سكنية مصرحة من قبل السلطات العقارية، وهو بذلك يمارس عمله بشكل قانوني ومصرح به، إذ يتلقى عمولة يتم الاتفاق عليها مع الشركة.
يتم إنشاء العلاقة القانونية بين أبو عبد الله والعميل، كأي عمل مشروع من خلال عقد وساطة. ومع ذلك، في العادة لا يكون من واجب العميل أن يبرم الصفقة الإيجارية المقترحة. يمكنه تكليف وسطاء إضافيين أو البحث عن عقار مناسب بنفسه. ويوجد استثناء عندما يتم تحديد شرط تفويض حصري في عقد الوساطة، الذي يُلزم العميل بالتفاوض حصرياً مع الوسيط المعني. في هذه الحالة قد ينشأ التزام بتعويض إذا كان العميل قد عقد اتفاقاً مع وسيط آخر.
خارج هذه المنظومة، يعمل أبو عبد الله، كوسيط غير شرعي، فهو يمتلك اليوم شبكة من السماسرة الصغار المنتشرين في المدينة والبلدات المحيطة، كذلك مكنته علاقاته الاجتماعية من ترتيب عقود إيجار بين أصحاب المنازل والباحثين عن منزل بناء على تنسيق مسبق بين الطرفين خارج علم الشركة وبشكل غير قانوني. حيث يتوافد إلى مكتبه يومياً العشرات من العرب والألمان الباحثين عن منازل لقاء عمولة خاصة. وبذلك تزداد الكلفة على الباحثين عن منزل مع تزايد عدد السماسرة. هذا أسلوب يتبعه كثر من الوسطاء في المدن الألمانية.
تكاليف السمسرة الإضافية تؤرق الباحثين عن منزل من أصحاب الدخل المحدود، الذين أدى التضخم وارتفاع الأسعار إلى تآكل قسم كبير من قوتهم الشرائية. لهذا فإن مالكي العقارات أصبحوا يتجنبون تأجيرهم
باتت التكاليف الإضافية تؤرق الباحثين عن منزل، خصوصاً أصحاب الدخل المحدود الذين أدى التضخم وارتفاع الأسعار إلى تآكل قسم كبير من قوتهم الشرائية. على هذا فإن مالكي العقارات أصبحوا أكثر حذراً في تأجير هؤلاء بسبب خوفهم من عدم القدرة على تحمل تكاليف السكن التي تزيد على 30 بالمئة من الدخل. وذلك وفق دراسة لمؤسسة "هانس بوكلر" الألمانية المقربة من النقابات العمالية.
مقابل ذلك باتت تطفو على السطح ظاهرة لسمسرة غير وظيفية لمستأجرين سابقين جلهم من ذوي الدخل المحدود، مردها تعويض جزء من تلك الخسارة، تتمثل بقيام الأشخاص الذين استأجروا منزلاً وكانوا سابقاً قد دفعوا سمسرة للوسطاء، في حال أرادوا الانتقال لسكن جديد فإنهم يشترطون على المستأجر الجديد دفع مبالغ مالية بقيمة ما تم دفعه للوسيط في وقت سابق.
"المستأجر السابق اشترط أن يترك لنا المنزل لقاء شراء العفش بكلفة 3500 يورو، مع العلم أن تكلفته الأصلية لم تتجاوز 500 يورو، فاضطررنا لشرائه للحصول على المنزل"
تحولت مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً فيسبوك إلى منصات إعلانية كبيرة يعرض فيها مئات الأشخاص بيوتهم التي يودون تركها لفترات مؤقتة للإيجار، وهي أمور باتت شائعة ويتم الحديث عنها على الملأ.
كما البعض منهم يقوم باشتراط أن يشتري المستأجر الجديد أثاث المنزل لقاء منحه المنزل. على هذا تتحدث لجين، في تعليق لها عبر فيسبوك عن تجربتها مع السماسرة بالقول: "المستأجر السابق اشترط أن يترك لنا المنزل لقاء شراء العفش بكلفة 3500 يورو، مع العلم أن تكلفته الأصلية لم تتجاوز 500 يورو، فاضطررنا لشرائه للحصول على المنزل رغم أننا قمنا برميه في مكب النفايات، وعوضنا على الله".
وجهة نظر قانونية
ينقسم الباحثون عن منزل إلى قسمين، قسم يرى أن مهنة السمسرة توفر الوقت والجهد رغم أنها مكلفة وآخرون يعدونها مصلحة غير أخلاقية تخلق أزمة.
يجد المحامي وجيه عون الله، وهو سوري مقيم في مدينة بون الألمانية، أنه: "من السهل رفع دعوة قضائية على أي سمسار، لكن ينبغي أن يكون هناك دليل على ذلك مثل المكالمات البريدية مثلاً أو أن يتم إحضار الشهود".
ويضيف عون الله: "على القاضي إصدار الحكم، والحكم يختلف من قاضٍ لآخر، لكن من البديهي أن يحكم القاضي بإعادة المبلغ الذي قام الشخص بدفعه للسمسار بالإضافة إلى التكاليف الأخرى التي ترتبت على الشخص في المحكمة. ويتم أيضاً فرض غرامة مالية بحق السمسار وعقوبة بالسجن".
أزمة آخذة في الاتساع
قبل أيام أدى إعلان للحصول على شقة فارغة بمساحة لا تتجاوز 60 متراً في مدينة إرلانغن، لتزاحم أكثر من 80 شخصاً من أجل رؤيتها، بإيجار وصل إلى 925 يورو شهرياً.
يقول خليل، أحد الراغبين في الحصول على الشقة: "لو كنت أبحث عن كنز دفين لحصلت عليه أسرع من ذلك، لقد أصبح العثور على شقة بمساحة صغيرة حلماً، أبحث منذ بضعة أشهر وبلا فائدة وها أنا أرجع خائباً مرة أخرى".
نقلت مواقع ألمانية معلومات عن رغبة السلطات الألمانية تحويل مستشفى سابق في مدينة غيرا شرقي ألمانيا إلى مركز مؤقت لإيواء اللاجئين. ويعود سبب ذلك إلى الاكتظاظ في المراكز الأخرى في جميع أنحاء البلاد.
وقد أكد موقع مهاجر نيوز، أن المشفى سيتسع لـ 200 طالب لجوء وستفتح أبوابها لاستقبال اللاجئين في يناير/كانون الأول 2024. وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استضافة لاجئين في مبنى كان لعيادة سابقاً.
لا أماكن شاغرة لاستقبال اللاجئين. كما أن هناك رفضاً كبيراً من قبل مواطنين ألمان تأجير منازلهم، وليس للأمر دوافع عنصرية بل هو شأن شخصي، لهذا هناك اقتراحات للضغط أكثر على ملاك المنازل بضرورة تأجيرها للخروج من الأزمة التي أخذت تتسع"
وفي مكان آخر في بلدة صغيرة تتبع لناحية أنسباخ جنوب ألمانيا، اضطرت السلطات الألمانية لاستئجار فندق صغير وسط البلدة كمركز مؤقت لاستقبال اللاجئين، وهو أمر مكلف وفي نفس الوقت يفسر حالة التخبط، الفكرة لم تنجح كما قالت كلوديا، 60 عاماً، لموقع رصيف22، وهي ناشطة ألمانية في مجال اللاجئين، تقول: "وجود لاجئين أدى إلى عزوف كثير من السكان لارتياد الفندق، الأمر الذي أدى إلى رفض صاحبة الفندق تمديد العقود مع الحكومة خشية أن تخسر زبائنها".
والسبب وراء استئجار فندق من قبل المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF) برأي كلوديا، يرجع إلى: "في الغالب يسكن اللاجئون في مدارس قديمة أو قاعات رياضية أو في ثكنات عسكرية سابقة، لكنها على ما يبدو اليوم باتت مكتظة فتم استئجار فنادق، فلا أماكن شاغرة لاستقبال اللاجئين. كما أن هناك رفضاً كبيراً من قبل مواطنين ألمان تأجير منازلهم، وليس للأمر دوافع عنصرية بل هو شأن شخصي، لهذا هناك اقتراحات للضغط أكثر على ملاك المنازل بضرورة تأجيرها للخروج من الأزمة التي أخذت تتسع".
أزمة السكن بالأرقام
وفقاً لمؤسسة (Hans Böckler) هناك نقص بمقدار مليوني وحدة سكنية منخفضة الإيجار في المدن الكبرى في ألمانيا. وتعود هذه الإحصائيات لما قبل الحرب في أوكرانيا، والتي أدت إلى وصول ما يزيد عن مليون شخص إلى ألمانيا منذ بدء الحرب، وفقاً للأرقام الحكومية.
ففي عودة قليلاً للوراء في أعلى مستوى يصل إليه منذ بدء السجلات في عام 1991، تأثر نحو 21.4% من شركات البناء السكنية في ألمانيا بإلغاء مشاريع البناء، عن زيادة تعتبر من قبل متخصصين كبيرة حتى عن شهر أغسطس الفائت التي بلغت 20.7 بالمئة. وذلك وفقاً لاستطلاع أجراه معهد إيفو في سبتمبر من العام الفائت، الذي يقع مقره في ميونيخ.
تسبب ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم بخلق أزمة سكن هائلة في ألمانيا اليوم، كما هي الحال في العديد من البلدان في جميع أنحاء أوروبا. فمنذ العام 2008 تزامناً مع أزمة الرهن العقاري العالمية بدأت تطفو بوادر أزمة سكن واضحة.
ورغم وضع حكومة المستشار أولاف شولتس نصب أعينها بناء 400 ألف مسكن سنوياً بهدف الحد من أزمة السكن في ألمانيا. إلا أن الحكومة أخفقت في تحقيق هذا الهدف رغم تأكيدها المتكرر على أهميته فتم بناء أقل من 295 ألف وحدة سكنية فقط وهو في تراجع مقارنة مع ما سبق، بتراجع سنوي خلال العقود السبعة الماضية وصل إلى أقل من 27 في المائة منذ العام 1950.
ففي عام 1973 على سبيل المثال تم بناء أكثر من 700 ألف مسكن، وفي عام 1995 زاد العدد عن 600 ألف. مقابل ذلك تميزت سنوات حكم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، بتراجع بناء المساكن إلى أدنى مستوياته في تاريخ ألمانيا المعاصر، إذ بلغ في عام 2009 على سبيل المثال أقل من 160 ألفاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.