شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الطعام في أفلام محمد خان

بعضه قتل وكثيره حياة... عشاء مع محمد خان

الطعام في أفلام محمد خان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الجمعة 5 يناير 202402:28 م


في يوم من منتصف التسعينيات تقريباً، عدت من مدرستي وجلست بانتظار أن تناديني أمي لتناول الغداء. كان التلفزيون يعرض فيلماً لا أذكر من أحداثه شيئاً سوى مائدة كبيرة تتراص عليها أصناف طعام مختلفة ومجموعة من الأشخاص يتناولون طعامهم بنهم واستمتاع كأنهم لم يأكلوا من قبل. أخد  المشهد كل تركيزي حتى نادتني أمي لتناول الغداء.

وقتذاك كنت صغيرة، فلم أكن أعرف اسم الفيلم أو ممثليه. لكن المشهد انطبع في ذاكرتي، وكلما شاهدت بعدها مشهداً لتناول الطعام على الشاشة ربطته ذاكرتي على الفور بذلك المشهد القديم.

المشهد كان لعطية في ضيافة عائلة كمال بيه والفيلم هو "خرج ولم يعد" للمخرج محمد خان.

خرج ولم يعد

تقول الأوراق الرسمية إن محمد خان ولد لعائلة غير مصرية في القاهرة، والده باكستاني الأصل قضى عمره كله في مصر من دون أن يحمل جنسيتها. أما هو، محمد، فكان ابن مصر بكل ما تحمله الكلمة من معنى وإن قضى معظم سنين عمره غير حامل لجنسيتها، إلا أنه كان من أصدق من صور شوارعها وحواريها، وضجيج زحامها وسكون هدوئها، مدنها وقراها، صيفها وشتاءها. وأيضا موائدها العامرة.

لمُشاهد الجيد لأفلام خان يعرف أن في كل فيلم مشهداً يضم حدثاً محورياً يدور حول مائدة الطعام. تنوعت الموائد وتعددت الأصناف عليها، لكنها دائماً مائدة مصرية تماماً

المُشاهد الجيد لأفلام خان يعرف أن في كل فيلم مشهداً يضم حدثاً محورياً يدور حول مائدة الطعام. تنوعت الموائد وتعددت الأصناف عليها، لكنها دائماً مائدة مصرية تماماً. من لمة البنات حول أبلة حياة في الصباح لتناول طبق الفول في فيلم "في شقة مصر الجديدة"، حتى المسقعة المسمومة التي قدمتها نوال لعزت في فيلم "موعد على العشاء".

عودة مواطن

الماء يغلي في الوعاء فوق البوتاغاز. صفار البيض يتفتت مع إيقاع ملعقة خشبية في يدها. قطع اللحم البتلو تسترخي تحت طَرَقَاتها قبل أن تغوص في صفار البيض مثل راقص باليه لتستقر في لحظة على كل جانب فوق رمال من البقسماط حتى ترتمي في أحضان الزيت الساخن لتتحول إلى قطع من الذهب الطري

شاشة سوداء مع صوت استعداد عدة آلات موسيقية لعزف السيمفونية التى تتصاعد نغماتها مع لقطات المشهد حتى ختامه، بينما ترافق اللقطات عناوين الفيلم ونسمة تتحرك مثل الفراشة في المطبخ العتيق. ذراعاها تشقان البخار المتصاعد وكأنها تقود الأوركسترا.

الماء يغلي في الوعاء فوق البوتاغاز. صفار البيض يتفتت مع إيقاع ملعقة خشبية في يدها. قطع اللحم البتلو تسترخي تحت طَرَقَاتها قبل أن تغوص في صفار البيض مثل راقص باليه لتستقر في لحظة على كل جانب فوق رمال من البقسماط حتى ترتمي في أحضان الزيت الساخن لتتحول إلى قطع من الذهب الطري.  السكين في يد نسمة بمثابة آلة موسيقية تعزف بها، بينما تقطع البصل والثوم والطماطم والخس والبقدونس. نسمة تسيطر على الأشياء بمتعة واضحة ترافقها فقاقيع الصلصة على النار بغناء أوبرالي.‬‬

صوت نسمة يعلق: "أنا اسمي نسمة وعندي مشكلة. هي ماكنتش مشكلة ولا حاجة. إنما دلوقت في زمن المعضمين. بقيت مشكلة ونص كمان. أصل أنا عشت نص عمري أتخن، والنص التاني أحاول أخس"‬.

‏كل هذا ونسمة تتذوق أحياناً. تأكل أحياناً. وتلتهم أحياناً كثيرة حتى يقطع هذا الانسجام ظهور الأب العجوز على عتبة المطبخ في لحظة حرجة، فلا تستدير لتواجهه حتى تبلع ما في فمها لترد بصرامة وغضب المذنب : "بابا. إنت عارف أنا مابحبش حد في المطبخ وأنا بطبخ".‬‬

 ثم تفرج نسمة عن أعواد المكرونة الإسباغيتّي لتنساب من بين أصابعها، وتتلقى وعدها في الماء المغلي. 

‬‬المشهد الافتتاحي لسيناريو فيلم نسمة في مهب الريح 

كتبه محمد خان عام 1991، تقريباً ولم تتحمس جهة انتاجية لتمويله

من كتاب خان "مخرج على الطريق" الصادر عن الكتب خان 2015

المتأمل لهذا المشهد الذي يستدعيه خان في كتابه الذي يمثل سيرته الذاتية، يدرك أن كاتب المشهد لا يجيد الطبخ فقط؛ وإنما يستمتع به ويجد لذة في الاقتراب من تفاصيله، يهيم به حباً. 

تقول السيناريست وزوجة خان وسام سليمان إنه كان يجد متعة في الطبخ وإنه كان يجيد مزج العناصر وتكوينها فتخرج طعاماً شهياً. ومن يقرأ كتابه "مخرج على الطريق" يعرف أن الطعام وطهيه وتناوله والاستمتاع به كان مفتاحاً أساسياً من مفاتيح فهم شخصيته كإنسان وكمخرج.

خرج ولم يعد

"خرج ولم يعد" وهو واحد من أكثر أفلام خان جماهيرية، كان الطعام فيه بطلاً أساسياً ومحركاً للأحداث منذ اللحظة التي قبل فيها عطية أن يتحمل سخافات حماته من أجل طبق "ملوخية بالأرانب"، حتى استسلم لتقريعها أمام طبق العدس الماسخ الذي قدمته له. ومع تطور الأحداث يسافر عطية للقرية ويجد نفسه على مائدة كمال بيك الرجل "البحبوح" الذي يدير أمور حياته كلها من خلف طبق مملوء بما لذ وطاب.

مائدة كمال بيك تحدث انقلاباً في حياة عطية الذي اعتاد الطعام الماسخ حتى أنه انهار جسدياً حينما أكل طعاماً حقيقياً نابضاً بالحياة.

خرج ولم يعد

على هذه المائدة نراقب التحول الذي حدث لشخصية عطية وكيف تحول من رجل بلا ملامح مميزة، إلى رجل يحتفى بالحياة والحب والطعام، ويجد نفسه في البراح الأخضر.

مائدة أخرى لا تقل شهرة وهي مائدة نوال المقهورة التي حاولت الهرب من عزت الرجل الذي قضي على شبابها وحبها بشهوة تملكه التي لم تستطع أن تفر منها.

أغلق عزت في وجهها كل الأبواب. حاصرها. قتل حبيبها وتسبب في طردها من عملها فلم تجد أمامها إلا أن تدعوه في موعد على عشاء تنهي به الصراع بينهما.

موعد على العشاء

نراقب نوال وهي تشتري الخضار، تجهزها، تطبخ المسقعة، وبين طبقات الباذنجان تضع السم الذي تعول عليه. وحينما يصر عزت على أن تأكل معه فلا تتردد. فهي تعلم أن حصاراً بهذه القوة سيستمر بعد موته وأنها أضعف من أن تقاوم.

أما فارس الحريف وعبد الله صديقه فلا يجدان بعد منتصف ليل القاهرة سوى مائدة في مطعم كشري تجبر قدراً من كسرهما على يد الضابط الشرس الذي يحقق معهما في جريمة قتل.

"خرج ولم يعد" وهو واحد من أكثر أفلام خان جماهيرية، كان الطعام فيه بطلاً أساسياً ومحركاً للأحداث منذ اللحظة التي قبل فيها عطية أن يتحمل سخافات حماته من أجل طبق "ملوخية بالأرانب"، حتى استسلم لتقريعها أمام طبق العدس الماسخ الذي قدمته له

مائدة مطعم الكشري ـ أهم الأكلات الشعبية في مصر ـ كانت أيضاً المكان الذي يجمع هند وكاميليا لتحكي كل منهما عن حلمها بالسفر للإسكندرية ورؤية البحر.

أحلام هند وكاميليا

وبمرور السنوات يتمكن خان أكثر وأكثر من أدواته كمخرج يعلم أن كل تفصيلة في فيلمه لها قيمتها. لذلك فإنه حين قدم لنا بنات وسط البلد جعل من الطعام محورا لحدثين مهمين في حياة بطلته ياسمين.

الحدث الأول عندما ذبحت أمها بطتها وأعدتها لهم كوجبة غذاء" معتبرة". عندها انكسر رابط هام يجمع بين ياسمين وأسرتها، وجعلها بشكل ما تخرج من إطار هذه الأسرة فتمردت عليها وقضت ليلتها بالخارج وغيرت من قصة شعرها بما لا يتناسب مع صورة الأسرة عن الفتيات.

أما الحدث الثاني فكان في بيت سمير حين دعاها لتطبخ معه ولتتهجى حروف كلمة "كا.. ني.. لو.. ني" بشهوانية تنتهى بقبلة بين حبيبين.

بنات وسط البلد

في درة أفلامه "في شقة مصر الجديدة" لم يغفل محمد خان أيضاً دور الطعام في حياة أبطاله. فيحيى يجلس مع داليا على الأرض يتناول الطعام، ويتناقشان عن علاقتهما التي لا تتعدى حجرة النوم والتي أوضحتها طريقتهما الشهوانية في تناول الطعام.

وفي بنسيون أبلة حياة تجتمع البنات حول مائدة الإفطار يوماً بعد يوم فنعرف أن الحياة مستمرة.

أما المشهد الذي تكتشف فيه نجوى حقيقتها كأنثى قوية جميلة مرغوبة فيحدث أيضاً حول مائدة طعام.

ويأتي "قبل زحمة الصيف"، محطة خان الأخيرة، محتفياً أيضاً بالطعام. فهالة المترجمة التي تصنع عالماً سرياً تقابل فيه حبيبها بعيداً عن بيتها وأولادها ومسؤولياتها وعملها، تنتمى لشريحة اجتماعية غير باقي الشرائح الاجتماعية التي قدمها خان في أفلامه. نجد هالة سري تطبخ طعاماً يعبر عن خصوصية هذه الشريحة الإجتماعية. فهي تصنع لحبيبها "قطعة من اللحم المشوى بصلصلة الفطر  steak with mushroom and pepper sauce"  وتعد "كيكة الجبنة" cheese cake هدية لجيرانها. أما مشهدها هي وحبيبها حول مائدة الطعام فقد عبر عن التباعد العاطفي الذي انتهى بالفراق بينهما.

قبل زحمة الصيف

حصل خان على الجنسية المصرية عام 2014، بعدما بلغ الثانية والسبعين، قبل وفاته بعامين فقط. ورغم أنه عاش غريباً يحمل الجنسية الباكستانية في مصر، فإن القاهرة التي سار في شوارعها وسرت في شرايينه، واستطاع مزج التفاصيل الصغيرة التي تصنع خصوصية الحياة فيها، القاهرة التي أجاد تفكيكها وإعادة تركيبها وتكوينها؛ احتلت عقله وكيانه، ولم ينتم لمكان غيرها.

صنع لنا خان أفلاماً تشبهنا وتشبه طموحاتنا وآلامنا وأحلامنا الصغيرة. فهم خان القاهرة وأهلها وأحبهم، فصورها وصورهم كما هم.

فكانت القاهرة التي نراها في أفلامه هي قاهرتنا الحقيقية: جميلة، متعبة، مرهقة، وعلى موائدها صور الأيام التي تجري والحياة التي رغم أنف الجميع، ستستمر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image