الوعي العالمي بقضية فلسطين وبأن إسرائيل دولة فصل عنصري، لم يبدأ في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لكن الاحتجاجات الحاشدة التي تلت ذلك اليوم ضد حرب الإبادة الجماعية على غزة في أنحاء متفرقة من العالم، كشفت ترسخ التضامن العالمي بين الشعوب، وأن شعوب العالم الغربي مثلنا، مختلفة عن حكوماتها، وأن حركات التحرر والعدالة الاجتماعية في العالم، ترى قضية فلسطين قضية مركزية.
على الرغم من الدعاية الإسرائيلية الشرسة، والتي سعت إلى الخلط بين النضال الفلسطيني والإرهاب، وكذلك بين حماس وداعش، و"7 أكتوبر" مع "11 سبتمبر" و"المحرقة" - وهي الرواية التي تتبناها معظم القوى الغربية ومعها إسرائيل وقنواتها الإعلامية الرئيسية بسهولة- فإن الاحتجاجات التي لم تتعلق مطالبها بوقف إطلاق النار قد كشفت عن وعي عميق بين المتظاهرين بأن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، أو السابع من أكتوبر، وأن حرب الإبادة الجماعية الحالية هي الحصاد القاتل لعقود من التطهير العرقي والفصل العنصري والنكبة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948.
لكن من بين أكثر الحركات تأثيراً في بلورة هذا الوعي عبر العقدين الماضيين، كانت حركة "BDS"، حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل بهدف إنهاء الفصل العنصري، وضمان حق العودة إلى اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم المنهوبة.
الإلهام الذي بدأ مع بداية الألفية
يُرجع العديد من الباحثين أصول حركة المقاطعة إلى المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية في جنوب أفريقيا عام 2001، إذ التقى الناشطون الفلسطينيون مع قدامى المحاربين المناهضين للفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذين حددوا أوجه التشابه بين إسرائيل والفصل العنصري، وأوصوا بحملات مثل تلك التي استخدموها في جنوب أفريقيا لمناهضة الفصل العنصري.
اعتمد المؤتمر وثيقة تضمنت العديد من الأفكار التي عادت إلى الظهور لاحقاً في دعوة المقاطعة 2005؛ التي أطلقتها مجموعة من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني إلى المجتمع الدولي، و أعلنت عن إسرائيل كدولة فصل عنصري شاركت في انتهاكات حقوق الإنسان، من خلال إنكار حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، واحتلال الأراضي الفلسطينية، والتمييز ضد المواطنين العرب في إسرائيل. وأوصى الإعلان بفرض عقوبات وحظر شامل على إسرائيل كعلاج، وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها، حتى تمتثل للقانون الدولي لإنهاء استعمار واحتلال فلسطين، ومنح المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل حقوق متساوية، وتنفيذ حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم.
خلال المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية في جنوب أفريقيا عام 2001، التقى الناشطون الفلسطينيون مع قدامى المحاربين المناهضين للفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذين حددوا أوجه التشابه بين النظامين وأوصوا بحملات مثل تلك التي استخدموها
وكما استلهمت الحركة تكتيكات المناضلين ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فقد استلهمت أيضاً تكتيكات المقاومة الشعبية لحركات العدالة الاجتماعية المختلفة، ومن المقاطعة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني والهجرة الصهيونية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن، ومقاطعة الحافلات في الولايات المتحدة الأمريكية في أثناء نضال السود من أجل الحرية في الخمسينيات.
أحدثت حركة المقاطعة "BDS" تأثيراً هائلاً. فقد أعطت نشطاء التضامن مع فلسطين مخططًا ملموسًا لممارسة التضامن مع النضال الفلسطيني من أجل العدالة وتقرير المصير في ظل دعوة واضحة للعمل ومجموعة من المطالب.
انتصارات ونجاحات
اعتباراً من حزيران/ يونيو 2019، أحصت الحملة الأمريكية من أجل حقوق الفلسطينيين (2019) ما لا يقل عن 250 فوزاً لحملة المقاطعة في الولايات المتحدة في حرم الجامعات، والعديد من منظمات المجتمع المدني الأخرى. فقطعت حركة التضامن مع فلسطين خطوات كبيرة في تحويل الخطاب العام والرأي لصالح النضال الفلسطيني من خلال حملاتها واسعة النطاق. وفي السنوات الأخيرة، نجحت جهود التضامن في دمج النضال الفلسطيني ضمن أجندة تقدمية أوسع، مرتبطة بنضالات أخرى من أجل العدالة العرقية والاقتصادية وقضايا الجندر.
كانت المقاطعة عاملاً أساسياً وراء انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 46% سنة 2014، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة. وتوقعت مؤسسة راند الأمريكية بأن تلحق حركة المقاطعة خسارة بإجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي تتراوح بين 1% إلى 2% - أي ما بين 28 إلى 56 مليار دولار خلال العقد التالي للدراسة. كما كشف تقرير للبنك الدولي بأن الصادرات الإسرائيلية إلى السوق الفلسطيني انخفضت بنسبة 24% في الربع الأول من سنة 2015.
أحصت الحملة الأمريكية من أجل حقوق الفلسطينيين (2019) ما لا يقل عن 250 فوزاً لحملة المقاطعة في الولايات المتحدة في حرم الجامعات، والعديد من منظمات المجتمع المدني الأخرى.
انسحبت شركة "فيوليا" الفرنسية بشكل تام من الاقتصاد الإسرائيلي في 2015 بعد أن تكبدت خسائر فادحة تقدر بمليارات الدولارات نتيجة حملة المقاطعة ضدها؛ بسبب تورطها في الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وبعدها انسحبت كل من شركة أورانج "Orange" و"CRH" بالكامل.
أعربت إحدى أكبر شركات تصنيع السلاح الإسرائيلية عن شكواها من أزمة التصدير التي تواجهها السوق الإسرائيلية بشكل عام؛ حيث عدَّت أحد أسباب هذه الأزمة انخفاض الرغبة العالمية في استيراد "بضائع ومنتجات مصنوعة في إسرائيل".
كذلك أعلنت شركة جي فور إس (G4S) ويونيليفر (Unilever) عن اتخاذ خطوات لوقف تورطها في جرائم إسرائيل. وأعلنت عشرات السلطات المحلية (البلديات) في إسبانيا عن نفسها "مناطق خالية من الأبارتهايد الإسرائيلي"، وتبنت بلديات في فرنسا وبريطانيا والنرويج وغيرها قرارات مختلفة لمقاطعة الشركات المتورطة في الاحتلال الإسرائيلي. ورفض الآلاف من الفنانين والفنانات إقامة حفلات فنية في مدن إسرائيلية، كتل أبيب. وتبنت مؤسسات أكاديمية واتحادات طلابية حول العالم في أمريكا الشمالية واللاتينية وجنوب أفريقيا وبريطانيا وقطر وغيرها لحركة مقاطعة إسرائيل، وكذلك سحبت بعض الكنائس حول العالم، بالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، استثماراتها من الشركات المتورطة في جرائم الاحتلال.
وفقاً للتصريحات الرسمية للحكومة الإسرائيلية، فإن حركة مقاطعة إسرائيل BDS تعد "خطراً استراتيجياً" على منظومتها الاستعمارية.
الآثار الثقافية للمقاطعة الاقتصادية
تقول الباحثة الفلسطينية رماح عوض في دراسة نشرتها في جامعة ستانفورد إن الأهم من التأثير الاقتصادي لحركة المقاطعة هو آثارها الثقافية والاجتماعية في تحويل الخطاب العام ورفع الوعي السياسي حول النضال الفلسطيني، وإن حملات المقاطعة مثل تلك التي تضغط على الفنانين لمقاطعة المهرجانات الموسيقية الإسرائيلية، أو تلك التي تطالب الطوائف المسيحية الأمريكية بسحب استثماراتها من الشركات المستفيدة من الاحتلال، لديها القدرة على حشد نسب أكبر من الجمهور الأمريكي، كما أن تعميم المطالب المتعلقة بالحقوق الفلسطينية وزيادة الوعي حول دور الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لإسرائيل هو جزء لا يتجزأ من تعبئة الضغط الشعبي.
بالإضافة إلى ذلك، تكمن قوة حركة المقاطعة في تنوعها وقدرتها على التكيف كتكتيك للتنظيم في أي سياق. فهي تقدم مجموعة من الاستراتيجيات في إطار مجموعة متماسكة من المطالب التي يمكن للمجتمع الشعبي العالمي تنفيذها في ظروف مختلفة، وهي كذلك وسيلة لتوجيه أية قوة فردية أو جماعية نمتلكها نحو الضغط الشعبي الذي يواجه بشكل مباشر الفظائع التي ترتكبها إسرائيل. وهذا التوجه يضع المسؤولية على عاتق أي شخص يعيش في "الغرب" أو "الشمال العالمي"، حيث تمول أموال دافعي الضرائب بشكل مباشر الاستعمار الإسرائيلي المستمر واحتلال فلسطين.
في لحظات الأزمات السياسية، كانت حملات المقاطعة بمثابة وسيلة لتسخير الغضب الشعبي وتحويله إلى عمل ملموس. على سبيل المثال، في أعقاب حملة الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة في صيف عام 2014، زاد عدد فروع منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" ومقرها الولايات المتحدة من 41 إلى 72 فرعاً في غضون بضعة أشهر.
دراسة للباحثة رماح عوض: "إن الأهم من التأثير الاقتصادي لحركة المقاطعة هو آثارها الثقافية والاجتماعية في تحويل الخطاب العام ورفع الوعي السياسي حول النضال الفلسطيني"
وكانت حملات المقاطعة أيضاً بمثابة تكتيك فعال لبناء التحالفات، خاصة مع المنظمات اليسارية والتقدمية الأخرى، من خلال إطار النضال المشترك.
يقول الصحافي الفلسطيني ربيع عيد في مقاله: "حركات العدالة الاجتماعية في قلب الاحتجاجات العالمية المتزايدة من أجل فلسطين"، إذا نظرنا بعناية إلى فسيفساء المشاركين في موجة التضامن والاحتجاج الحالية، نجد عدداً كبيراً من حركات العدالة الاجتماعية المحلية والدولية المشاركة والمنظمة.
حلفاء في أنحاء العالم
ترى هذه المجموعات أن التحرر الفلسطيني يتقاطع مع نضالاتها لتحقيق العدالة في القضايا التي تعمل عليها باعتبارها محور تركيزها الأساسي - وعلى مبدأ العدالة يجتمعون جميعاً حول فلسطين، مثل حركة "بلاك لايف ماترز"، و"الحركة النسوية ضد النسوية البيضاء"، وحركات "LGBT" والحركات العمالية والحركات المناهضة للعنصرية، واليهود المناهضين للحرب، بل وحركات المناخ، التي ترى ربطاً بين تدهور المناخ وتاريخ من استغلال الاستعمار والقوى الإمبريالية.
حركة "بلاك لايف ماترز" على سبيل المثال، ترى تشابهاً واضحاً بين عمليات القمع التي ترتكبها الشرطة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وما ترتكبه الشرطة الأمريكية ضد السود، مما طور مطالبات من العديد الائتلافات المحلية والحملات الوطنية بإنهاء تدريبات الشرطة الأمريكية مع الجيش الإسرائيلي، ومع الفهم المتزايد لكيفية التقاء التفوق الأبيض والعنصرية والصهيونية، يعمل منظمو التضامن على شحذ استراتيجياتهم لتحدي هذه الروابط بين أمريكا وإسرائيل.
وقف العديد من النقابات العمالية حول العالم مع الفلسطينيين وضد الإبادة الجماعية. وكان من بينها عمال الموانئ البلجيكيون الذين رفضوا تحميل شحنات الأسلحة المتجهة إلى إسرائيل. وحدث الشيء نفسه في مدينة برشلونة الإسبانية.
كما تستمر الحركات الطلابية الجامعية حول العالم في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، رغم التهديدات التي تتعرض لها في بعض الدول الغربية، سواء من قبل إدارات الجامعات، أو حتى كبار رجال الأعمال، الذين يهددون بعدم تشغيل المتضامنين مع فلسطين. كما صدرت العديد من التصريحات من الكتاب والصحافيين والفنانين الذين أدانوا بشكل لا لبس فيه العدوان الإسرائيلي على غزة، وأعربوا عن دعمهم للفلسطينيين.
موجة التضامن الحالية يمكن أن يكون لها الفضل في إرساء وعي عالمي جديد- وخاصة بين جيل الشباب - ليس فقط للقضية الفلسطينية، بل أيضاً بعدالتها ومركزيتها بالنسبة لحركات العدالة الاجتماعية في جميع أنحاء العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...