في إطار مسلسل الديناميات الاجتماعية في عدد من القطاعات الوزارية بالمغرب خلال السنوات الأخيرة، اتضح بشكل جلي مدى تراجع دور المركزيات النقابية في تأطير نضال الأُجراء والشغِّيلة المغربية. هذا التراجع بدأ بالظهور بشكل لافت بعد أن برزت أشكال جديدة من التأطير تُدعى "التنسيقيات".
على الرغم من أن هذه التنسيقيات لا تستند إلى أساس قانوني ولا تنظيمي - لأنها ليست جمعيات ولا نقابات - باتت تقود الفعل الاحتجاجي خصوصاً في ما يتعلق بالقطاع العام بشكل مثير، الأمر الذي يدفع بشدة إلى التساؤل عن أسباب تراجع التأثير لدى المركزيات النقابية التي تبقى مُحتكِمة في عملها وتنظيمها للدستور ولصناديق الانتخاب، في مقابل صعود "التنسيقيات" التي تشتغل خارج أي إطار نظامي إلى الآن.
صراع الشرعية
منذ استقلال المغرب عام 1956، كانت المنظمات النقابية حاضرة في مختلف المحطات النضالية للشغِّيلة المغربية في مختلف القطاعات، إلى درجة أن هذه المنظمات كانت المتزعمة لأبرز الحِراكات الجماهيرية المرتبطة بتحسين ظروف العيش وضمان الحقوق. لكن البروز الأقوى للتنسيقيات بالمغرب كان بقطاع التعليم في مرحلة العمل بنظام التوظيف الجهوي عوض التوظيف المركزي، أي بعد سنة 2016.
وليس تراجع أدوار النقابات إشكالية مغربية صرفة بل هي نتاج لسياق عالمي شامل، فقد سبق أن نبهت ورقة عمل صادرة عن مكتب الأنشطة العمالية التابع لمنظمة العمل الدولية عام 2019 بعنوان " النقابات العمالية في الميزان" إلى أن النقابات بالعالم تواجه أربعة سيناريوهات محتملة، إمّا التهميش أو الازدواجية، أو الإحلال أو إعادة الإحياء، كاشفة عن "تراجع أعداد المنخرطين بالنقابات على المستوى العالمي".
منذ استقلال المغرب عام 1956، كانت التنظيمات النقابية حاضرة في مختلف المحطات النضالية للشغِّيلة المغربية في مختلف القطاعات، لدرجة أنها كانت المتزعمة لأبرز الحِراكات الجماهيرية المرتبطة بتحسين ظروف العيش وضمان الحقوق. لماذا تراجع دورها؟
بالعودة إلى الحالة المغربية، فقد برز تأثير التنسيقيات بشكل كبير خلال أزمة قطاع التعليم حالياً. فعلى الرغم من توصل وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة إلى اتفاقات مع النقابات إلا أن ذلك لم يؤثر على قرار الاستمرار في الإضراب الذي اتخذته التنسيقيات، مما أظهر أن النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية، وعددها 5، وإن كانت تتوفر على شرعية النضال والترافع، غير أنها تفتقد للتأثير في القرار لدى الشغِّيلة المعنية بالأمر.
وعلى العكس من ذلك، تتوفر التنسيقيات على قاعدة جماهيرية بينما تفتقد للشرعية القانونية والإطار المنظم. فكيف يفسر المختصون هذا الوضع؟ وهل يشهد المغرب انهيار المؤسسات النقابية من بوابة قطاع التعليم؟
ضعف التأثير وغياب التجديد
يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد شقير أن "ضعف المركزيات الأكثر تمثيلية في التأثير بدا واضحاً بشدة خلال الإضرابات التي يعرفها التعليم العمومي في الوقت الراهن، ذلك أن الاتفاق الذي تم توقيعه مع الحكومة لم ينتج عنه تعليق الإضرابات التي سنتها وتخوضها تنسيقيات التعليم".
من هذا المنطلق، يفسر شقير كيف أن هذا الضعف في الجانب التأطيري لدى المركزيات النقابية يرتبط بعدة عوامل أولها "تبعية جل النقابات للأحزاب السياسية التي تعمل على توظيفها في إستراتيجياتها السياسية وحساباتها الانتخابية". أما العامل الثاني، فيتمثل في "عدم تجديد البنيات القيادية لهذه النقابات، ذلك أن قيادات تجاوزت سن التقاعد لا تزال على رأس هذه الهيئات".
ويقول المحلل السياسي لرصيف22: "من غير المنطقي عدم إصدار قانون منظم للإضراب منذ أزيد من 60 سنة أو حتى قانون يتعلق بتأسيس النقابات، في وقتٍ صَدرَ فيه قانون الأحزاب السياسية، الأمر الذي ترك فراغاً قانونياً لا يُسَهل عملية إدماج التنسيقيات الموجودة حالياً في عمليات الحوار مع وزارة التربية الوطنية على سبيل المثال"، مؤكداً أن "بعض الممارسات النقابية المعمول بها أدت بدورها إلى فقدان الثقة في خطابات ونوايا القياديين النقابيين الحاليين".
أزمةُ فعلٍ نقابي
في خضم الاحتجاجات المستمرة بقطاع التعليم، ظهر بشكل جلي الاختلاف في منهجية اشتغال كل من النقابات والتنسيقيات. فالأولى تميل إلى الحوار التفاوضي مع وزارة التربية الوطنية، ويصير اهتمامها الأكبر هو جني أكبر عدد من المكاسب عبر المساومة. أما الثانية فإيماناً منها بـ"عدم كفاية ما تم تحقيقه"، فهي تلجأ إلى سلطة الشارع التي تمتلكها، محاولة بذلك فرض الأمر الواقع على الطرف المعني بإيجاد الحل.
وسعياً منها لتحقيق أهدافها، تكتلت الشغِّيلة التعليمية في تنسيق وطني شامل أُطلق عليه اسم "التنسيق الوطني لقطاع التعليم". يضم هذا التنسيق بين طياته 22 تنسيقية فئوية، لعل أبرزها "التنسيقية الوطنية للأساتذة وأطر الدعم الذين فرض عليهم التعاقد"، والتي تضم الأطر الموظفين وفقاً لنظام التوظيف الجهوي.
في هذا السياق، يقول لرصيف22 رشيد لزرق، أستاذ القانون الدستوري بجامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة، إن "ما يقع بقطاع التعليم حالياً بَين بالملموس أن هنالك أزمة حقيقية يواجهها العمل النقابي المغربي، إلى درجة أن السؤال بات هو ما مدى قدرة النقابات بشكلها الحالي على القيام بأدوارها مع البروز القوي للتنسيقيات؟".
عطفاً على ذلك، يشير لزرق إلى أن "الممارسة النقابية باتت محتكرة من قبل محترفي التنظيم، إلى جانب أن أُطر النقابات لا يزالون عاجزين عن التجديد في زمن الثورة الرقمية، وبالتالي فظهور التنسيقيات وتأثيرها في الحركة الاحتجاجية للأساتذة، بل وانتزاعها لمكاسب من الحكومة، طَرح بشكل حقيقي إشكالية منسوب ثقة الشغِّيلة التعليمية في هذه المركزيات النقابية".
في خضم الاحتجاجات المستمرة بقطاع التعليم، ظهر بشكل جلي الاختلاف في منهجية اشتغال كل من النقابات والتنسيقيات. فالأولى تميل إلى الحوار التفاوضي مع وزارة التربية الوطنية، ويصير اهتمامها الأكبر هو جني أكبر عدد من المكاسب عبر المساومة. أما الثانية فإيماناً منها بـ"عدم كفاية ما تم تحقيقه"، فهي تلجأ إلى سلطة الشارع التي تمتلكها، محاولة بذلك فرض الأمر الواقع على الطرف المعني بإيجاد الحل
ويتابع: "ارتهان الفعل النقابي إلى الأحزاب السياسية جعل الأساتذة يجدون في التنسيقيات إطارات لتحقيق مطالبهم، حيث أنها شكلت فضاء ديمقراطياً ومنفتحاً على الأفكار. هذا الأمر يتضح بعد أن بلغ عدد التنسيقيات 22 تنسيقية بقطاع التعليم مقابل 5 مركزيات نقابية من الأكثر تمثيلية".
"النقابات هي الأصل"
في المقابل لا ينفي النقابيون المغاربة وجود تراجع في مستوى التأطير النقابي، بما في ذلك الانتقادات الموجهة إلى التنظيمات النقابية بمختلف القطاعات غير أنهم يربطون ذلك بـ"الإكراهات التي يواجهها الفعل النقابي خصوصاً في علاقته بالسلطة".
يوضح يوسف مَكوري، نقابي بالاتحاد المغربي للشغل، أحد أكبر النقابات المغربية، أن "السياق الذي أتت فيه التنسيقيات اتسم بمجموعة من الإكراهات التي تواجه الفعل النقابي بالمغرب، فقد اتضح أن الإدارة عملت على تحجيم دور النقابات وإضعافها، مثلما جرى مع الأحزاب السياسية في مقابل تشجيع الأنماط الجديدة للفعل الاحتجاجي التي يقودها المكون التنسيقي".
ويقول مَكوري لرصيف22: "المغرب اليوم يعيش على وقع انتشار ثقافة معادية للعمل النقابي، بالإضافة إلى حملة شعبوية كبيرة تستهدف النقابات من خلال شيطنتها ورميها بالتواطؤ مع الإدارة وخيانة الأجراء والشغيلة بمختلف القطاعات الاجتماعية"، ملمحاً إلى "وجود أطراف تقليدية معادية للحركات النقابية الديمقراطية التي تظل المناخ الطبيعي لجميع الأجراء والتي يعد الضرب فيها ضرباً في رافعة مجتمعية أساسية".
لم يعد إحداث التنسيقيات من قبل الموظفين رهين قطاع التعليم وحده بل امتد ذلك إلى قطاعات أخرى، في القطاع العمومي والشبه العمومي.
وفي ما يتصل بما يجري بقطاع التعليم اليوم، يشرح النقابي المغربي أن "الأمر يعد مغامرة بمستقبل جيل من المغاربة، فأكثر من 7 ملايين من التلاميذ لا يزالون خارج أسوار المدارس، وهم بالدرجة الأساسية من الطبقات الكادحة والبسيطة". وبرأيه "التنسيقيات لا تزال فاقدة لثقافة النضال والترافع اللتان تُكتسبان بالتراكم. فالفعل النقابي في الأصل هو استمرارية تاريخية واستحضار للعقل والتبصر والحكمة".
العبرة بـ"الشارع والجماهيرية"
إذ كانت النقابات المغربية ترى أنها ذات الأولوية في الدفاع عن الشغيلة بمختلف القطاعات وحماية حقوقها، مستدلة في ذلك بمسألتي الأسبقية والمشروعية، فإن التنسيقيات تقول عكس ذلك. ففي قطاع التعليم على سبيل المثال، تؤمن التنسيقيات بجماهيريتها وبما حققته من تراكم نضالي منذ تأسيسها قبل سنوات.
إسماعيل كبيري، عضو المجلس الوطني لـ"تنسيقية أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي"، يعتبر أن "التنسيقيات الموجودة بقطاع التعليم تمكنت، بفضل ما تم ترصيده من تراكم نضالي خلال السنوات الأخيرة، من انتزاع مجموعة من المكتسبات خلال هذه الفترة، في وقت بدت فيه النقابات عاجزة وفاقدة للقدرة على ممارسة الضغط على الوزارة الوصية".
ومن منظوره، فالكلام حول من الأسبق ومن الأكثر قدرة على الدفاع عن الشغيلة التعليمية "لم يعد مجديا"، على اعتبار أن "الكل اليوم بات يعلم أن التنسيقيات لها شرعية الميدان والقواعد، وعدد من النقابيين يعترفون بذلك، فخروج التنسيقيات إلى حيز الوجود في الأصل جاء بفعل غياب تأطير نقابي جِدي من قبل النقابات".
ويوضح كبيري في حديثه إلى رصيف22 أن "المركزيات النقابية استوعبت، بعد الضغط الذي مارسته التنسيقيات على الوزارة، أنها لم تعد تملك ما تُحاجج به، فكل الاتفاقات التي شاركت في توقيعها لم يكن لها أي وقع على الشارع أولا، وعلى هيئة التدريس ثانيا؛ فمن هذا المنطلق، يصبح النضال داخل هذه النقابات غير مؤثر ومجدي بوجود هيئات أكثر تأثيرا كالتنسيقيات".
وبخصوص ما إذا كانت هذه الأخيرة برُمتها متوفرة على رؤية وضحة لنضالها المستمر، يجيب المتحدث ذاته بالقول: "لو تم تكن للتنسيقيات التعليمية أي رؤية لَما ضغطت ولأزيد من ثلاثة أشهر على الوزارة الوصية قصد معالجة المشكل المطروح؛ هذا الضغط أجبرْنا من خلاله الوزارة على إعادة صياغة النظام الأساسي الخاص بنا كموظفي الوزارة، في حين أن النقابات كانت تدفع باتجاه قبول النظام الأساسي الأول والذي لم يكن يحمل جديدا لهيئة التدريس".
الصحة والداخلية... تربة خصبة جديدة؟
لم يعد إحداث التنسيقيات من قبل الموظفين رهين قطاع التعليم وحده بل امتد ذلك إلى قطاعات أخرى، في القطاع العمومي والشبه العمومي. يتضح ذلك في قطاع الصحة إذ بدأ عدد من المنتسبين إليه بدورهم في تأسيس تنسيقيات فئوية خاصة. ويُقدر عدد التنسيقيات المؤَسسة بالقطاع بأكثر من 20 تنسيقية فئوية، منها تنسيقيات للممرضين وأخرى لأطباء الأسنان وأخرى لتقنيي الصحة...
كذلك بدا أن وزارة الداخلية هي الأخرى تشهد صعوداً للتنسيقيات، إذ تأسست بداية الشهر الجاري "التنسيقية الوطنية لموظفي الجماعات الترابية"، التي تشمل التقنيين والمحررين والمتصرفين والمساعدين الإداريين، وذلك بهدف "توحيد صفوف شغيلة الجماعات الترابية وتقوية الخط النضالي الجماعي". ويبقى السؤال: هل صار تأسيسُ التنسيقيات "موضة العصر" في المغرب؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.