تنبيه 1: يحتوي هذا المقال على الكثير من كلمة "بكاء". إذا كنتم تعانون من الحساسية، ندعوكم لتوخي الحذر.
تنبيه 2: يذكر المقال صبية متحولة جنسية، إذا كنتم تعانون من رهاب التحوّل، الرجاء محاولة التغاضي عن الموضوع ومتابعة القراءة.
أتمشى في طرقات باريس وأسمع بكاء طفل صادحاً وملعلعاً. يزعج أذني وأود إسكاته، أو الهروب منه. ثم أفكر: ربما أنا ببساطة أغار من ذاك الطفل، فهو بإمكانه أن يبكي ويصرخ كما يريد، وأنا هنا أريد أن أبكي من كل قلبي، وأتمنى لو كانت لدي جرأته بفرض دموعي على من حولي.
ينتهي بي الأمر في صالة السينما. أشاهد الأفلام في العتمة وأنتظر أن يأتي مشهد يجعلني أستفرغ كل دموعي، ثم أمسحها عند خروجي من الصالة وأعود إلى حياتي الاجتماعية، حيث علينا كلنا الابتسام والتصرف كأن شيئاً لم يكن.
"عم تبكي متل البنات" أو "البنات بيبكوا" أو "إنت بدك تصير رجال، ما تبكي" أو حتى "ما صدقنا إجانا صبي". ربيت وهذه الجمل ترن في كل مكان، وهي لا تزال تتداول حتى الآن. طبعاً هي أيضاً جزء من إسكات بكاء الأطفال: "ولا حس، ولا صوت"، وأحياناً يلحقها كف على الفم. سبب آخر للبكاء. ولكن الكف الثاني والثالث في الانتظار إذا لم نسكت، فنبتلع دمعتنا ونبكي بصمت.
"عم تبكي متل البنات" أو "البنات بيبكوا" أو "إنت بدك تصير رجال، ما تبكي" أو حتى "ما صدقنا إجانا صبي". ربيت وهذه الجمل ترن في كل مكان، وهي لا تزال تتداول حتى الآن
"لا دموع بعد اليوم"... هذا هو وعد الشامبو في إعلانات التسعينيات. يا له من عرض مغرٍ، فالبكاء يرتبط أيضاً بمفهوم العذاب. منذ صغري أسمع في الإنجيل كلام يسوع المسيح عندما يستحق أحدهم عذاب جهنم فيقول: وهناك البكاء وصرير الأسنان.
فلا أحد يصوّر البكاء كحل محرّر يخفّف من الآلام، بل هو القصاص الأكبر وصلب الآلام نفسه.
كلمني أخي من لبنان ذاك اليوم، كتب لي: كيفك؟ كيف كانت سفرتك؟ تجرّأت وقلت له: ما مشي الحال. وأخبرته عن حال قلبي المهزوم، متوقعاً منه كالعادة أن يهرب من الموضوع. فمواضيع القلب تبقى تابو في العائلة. لم نكسرها قط، وإذا تكلمنا عنها جردناها من كل إحساس وعاطفة، ووصفناها كمن ينقل وصفة شيخ المحشي الخاصة بالشيف أنطوان.
ولكن هذه المرة سألني: ليش شو صار؟ ورحت أحكي له ما حصل، وهو يستمع، يكتب، يساند، ينصح، ويعيد ويقول لي: ما تزعل.
وكلما ردّد أخي عبارة "ما تزعل"، كنت أبكي وراء شاشة هاتفي أكثر وأكثر. فهذه المرة الأولى التي يهتم فيها أخي لحال قلبي، وهذه المرة الأولى التي يصف حياتنا العاطفية ومشاكل تربيتنا التي أدت إلى نقص العاطفة على كبر. لطالما ظننت أنني وحدي في مغامرة البحث عن عاطفة الطفولة في عائلتي، وإذ بي أبحرت في السفينة نفسها مع أخي، رغم السنوات الخمس التي تفصلنا، فأغتنم الفرصة وأعود إلى صغري.
يبقى لي من صف الروضة عندما كنت في الرابعة من عمري صورة واحدة فقط عن أول يوم مدرسة: كل الطلاب من حولي يجهشون بالبكاء، يصرخون عند فراق أمهاتهم، وأنا ودعت أمي مبتسماً، وها أنا أتبادل النظرات والإبتسامات مع ساره، الفتاة الوحيدة التي مثلي، لم تبك.
أنظر إلى هذا الطفل وإلى صلابته عند تحمل ألم الفراق، وأتخيل مستقبله القوي والرصين، ثم أنظر لحالي الآن في المرآة وأنا أبكي وأبكي بعد فراق لم أره آتياً.
قالت لي صديقتي المتحوّلة جنسياً إنها منذ أن بدأت تأخذ جرعات الأستروجين وهي تبكي بسهولة أكبر، وأكدت أنها عندما كانت ذكراً، كانت تودّ البكاء، لكن دموعها لا تستجيب، أما الآن فهي تبكي بكل سهولة.
"أفضّل حالتي الآن، إنه أمر متعب جداً أن تودّ البكاء بلا نجاح"، فربما كان فعلاً البكاء متعلقاً بالجنس.
"ولكن البكاء صحي" يقول أخصائيو النفس.
عندما يبكي الطفل يكون البكاء طريقته الوحيدة للتواصل، ليعبر عن جوعه، ألمه، أو عن نقص العاطفة الدي يشعر بها.
حسب مجلة psychologue الفرنسية، للبكاء ست منافع:
- الاسترخاء، فالبكاء يساعد على الهدوء ولهذا السبب ننام بطريقة أفضل بعد أن نبكي.
- وسيلة لطلب المساعدة، وعلى الأرجح، إمكانية الحصول عليها، فالدموع تحرك مشاعر الآخرين وتوقظ العاطفة لديهم فيأتون للمساعدة.
- التخفيف من الألم وتحسين المزاج، فالبكاء يحرر هورمونات الأوسيتوسين والأندورفين المسؤولتين عن وضعنا النفسي المتوازن، لا بل الإيجابي.
- التخفيف من هورمون الكورتيزول، أي هورمون الضغط والسترس، والتي تؤدي إلى نقص في المناعة وبالتالي إلى تعرضنا لأمراض عديدة.
- البكاء هو نوع من التواصل غير الكلامي، في حال تعذر علينا التعبير بالكلام.
- يجعلنا البكاء نرى الأشياء من منظار آخر، فتقليص الضغط يجعلنا نرى الأمور بوضوح أكثر.
ربما نحن ببساطة بحاجة إلى من يعطينا محرمة دون أن يقول أي شيء آخر، ويجلس قربنا ويتركنا نبكي براحتنا، مستمعين إلى حمادة هلال وهو يغني ويعيد: دايماً دموع، دموع، دموع
رأيت أبي يذرف دموعاً مرة واحدة فقط: عندما توفيت جدتي، ويربط رأسي هذه الصورة بصورة أخرى: عندما دخلت على أبي ذات صباح في حمامه، وكان يحلق ذقنه، وإذ به يتخلى عن شاربه الذي حمله منذ مراهقته. صُعقت وأحسست بشعور غريب، كأن والدي خسر من رجولته.
وعندما يربط رأسي صورة أبي بلا شاربه الذكر، ومنظره وهو يبكي، أقول في نفسي إنه لا بد أن أحسّن صورة الرجولة في رأسي.
في الحقيقة، وجود التيستوستيرون يخفّض من نسبة البكاء، فالمتحولون الذين ينتقلون من جنس أنثى إلى جنس ذكر يبكون أقل جراء الهورمونات. البرولاكتين مثلاً، هو هورمون يفرز عند البكاء، موجود أكثر عند النساء. وحين يتواجد عند الرجال، يخضعون لضغط المجتمع وتنميط الرجل كمرء جبار وقوي لا يبكي ولا يضعف، فينتهي بهم الأمر بكبت دموعهم لضرورات إجتماعية.
أغلب الدراسات تؤكد أن النساء تبكي على الأقل خمس مرات أكثر من الرجال في ظرف سنة.
ثم أسمع في كل مكان نصيحة الأهل عند رؤية أطفالهم تعساء: ما بحب شوفك زعلان.
فيحرم علينا الحزن، كأنه شعور ممنوع، نتعلم أنه علينا كبت حزننا واستبداله بالفرح الإجباري، فننسى أن الحزن والغضب هما شعوران علينا أن نعيشهما ونحتضن وجودهما ونتقبل التعايش معهما لأنهما ببساطة جزء منا، جزء قد يتحول إلى آلام أو أمراض إذا لم يستطع الفرد التعبير عن نفسه بحرية.
منذ عشر سنوات تقريباً، كنت أبكي قصة حب على الشرفة بعيداً عن أفراد العائلة، كان الكل مشغولين، عدا ابن أختي. كان عمره سنتين، أتى من ورائي ورآني أبكي. اختفى داخل المنزل، وعاد مع منديل ورقي في يده، لوّح به أمامي وأخذت أمسح دموعي وهو واقف جنبي.
أنظر إلى هذا الطفل وإلى جوابه المثالي أمام دموعي، فربما نحن لسنا بحاجة إلى من يحكم علينا، أو من ينصحنا، أو من يقول لنا ألا نبكي، ربما نحن ببساطة بحاجة إلى من يعطينا محرمة دون أن يقول أي شيء آخر، ويجلس قربنا ويتركنا نبكي براحتنا، مستمعين إلى حمادة هلال وهو يغني ويعيد: دايماً دموع، دموع، دموع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...