يُعدّ المطبخ السرياني جزءاً من المطبخ العراقي، ما يعكس حضارة بلاد ما بين النهرين، حيث وضعت الشعوب القديمة التي عاشت على ضفاف نهري دجلة والفرات أسس هذا المطبخ، وأظهرت الآثار التي تركها السومريون والبابليون والكلدانيون والآشوريون، وصفات لأطباق الطعام التي يتفنن السريان والآشوريون العراقيون في تحضيرها إلى الآن.
وما يميز المطبخ السرياني، تنوّع فنون الطهي والأطعمة التي يعدّها السريان والآشوريون في تركيا وسوريا والعراق وإيران، وهو كباقي المطابخ في العالم تأثر بمطابخ دول الجوار وأخذ منها، لذلك نلاحظ تشابهاً في أسماء الأطعمة والأطباق، لكن يبقى التفرّد موجوداً في طريقة الإعداد، أي أن الوصفة السريانية ما زالت صافيةً دون أي إضافات.
يقدّم المطبخ السرياني العديد من الأطباق الغنية بالحبوب واللحوم، وما يميزه عن غيره من المطابخ، هو اعتماده على اللحوم بشكل أساسي ومن ضمنها لحم الخنزير، بالإضافة إلى الأطعمة النباتية الخاصة بالصوم الكبير، ومنها الفتة والفلافل والفول والحمّص والبوريك.
في مطبخ موصلي
كنت أحدّق في وجه السيدة غادة بينما كانت تحضّر الأطباق اللازمة لإعداد الكبة الموصلية. أعجبتُ بحركتها الخفيفة، ومعرفتها بمكان أصغر أداة في مطبخها الدافئ، فكل شيء مرتّب ومصفوف بطريقة لن يعرف أحد سرّها إلا هي وحدها.
"إنه طبق شتوي يذكّرني بأيام الشتاء البارد مع أمي وجدّتي في منزلنا القديم في الموصل"
كان موعدي معها عند الساعة الواحدة ظهراً. أخبرتني بأن لديها الكثير لتحكيه عن المطبخ السرياني، وقد أدركت مغزى كلامها، إذ لديّ صداقات وثيقة مع نساء سريانيات في العراق، وفي كل مرة ألتقي بهنّ أزداد إعجاباً بالأطباق الشهية التي يحضّرنها.
"شوربة الشوباتي"
تحكي غادة السالم، السيدة العراقية المتحدرة من قضاء الحمدانية، جنوب شرق مدينة الموصل، لرصيف22، قصة أقدم أطباق المطبخ السرياني، المعروفة بـ"الشوباتي" أو "شوربة" العدس الأسود. تقول: "تتكون هذه الأكلة من العدس الأسود واللحم الأحمر مع القليل من القمح المقشور (بسوستة باللغة السريانية، الحنطة باللغة العربية)"، مضيفةً: "إنه طبق شتوي يذكّرني بأيام الشتاء البارد مع أمي وجدّتي في منزلنا القديم في الموصل".
اعتادت معظم النساء في الموصل على إعداد الطعام على الحطب وإشعال النار قرب المنزل، ومع تطور المجتمع انتقلن إلى إعداد الطعام على التنور، وعن ذلك تقول السالم: "أذكر في أيام شبابي أننا كنا نطهو الشوباتي على النار، وكان الصغار في المنزل ينتظرون أن تصبح جاهزةً، ويحاول كل منهم أن يأخذ دوره بتحريكها، أما اليوم فأصبحنا نحضّرها على الغاز داخل المنزل".
وعن تاريخ "شوربة الشوباتي"، تقول السالم: "إن العائلات اعتادت على طهي شوربة العدس الأسود منذ القدم، وذلك لتوفر العدس وانخفاض ثمنه، بالإضافة إلى أنها من أهم الأطعمة في فصل الشتاء، إذ تمنح الأطفال الدفء كما أن الحنطة بداخلها تساعد على الشعور بالشبع".
وتؤكد الدراسة الخاصة بمجال التغذية أن طبق الحساء الذي يحتوي على الحبوب واللحم والخضار، هو طبق مغذّ يدعم صحة العظام، ويُسهّل عملية الهضم، ويعزز مستويات الطاقة في الجسم، ما يجعل الشوربة مثاليةً في الشتاء البارد.
أنواع الخبز السرياني
يحتوي المطبخ السرياني على نوعين من الخبز: الخبز الرقيق الذي لا تضاف إليه الخميرة، ويُسمّى باللغة السريانية "لخمة رقيقة"، أما النوع الثاني فهو الخبز الثخين الذي تضاف إليه الخميرة ويُسمّى باللغة السريانية "جلئه الصوباثة".
وعن طريق التحضير تقول غادة السالم: "يتم تحضير النوعين على التنور الموصول بالغاز داخل المنزل، ثم نضيف حبة البركة والملح إلى العجين، لكن النوع الأول يكون رقيقاً، أما الثاني سميك، وأحياناً نخبز فطائر الجبن ونسمّيها باللغة السريانية 'جلئه كوبته'، وتتكون من طبقة عجين سميكة وهي خاصة بالمطبخ السرياني".
تفضّل معظم العائلات السريانية في العراق، إعداد الخبز داخل المنزل، برغم أن الفروق بين الخبز السرياني والخبر العراقي ليست كثيرةً، نتيجةً لاندماج الثقافات مع بعضها، إلا أن عادة خَبز العجين ما زالت حاضرةً داخل المطابخ السريانية. تقول غادة: "عادة الخَبز تعلمناها منذ الصغر. يمكن إعداد كميات كبيرة، وحفظها داخل الثلاجة، لذلك أواظب على إعداد الخبز في المنزل. وقبل بزوغ الشمس تكون رائحة الخبز الشهي الطازج قد ملأت غرف المنزل".
"أذكر في أيام شبابي أننا كنا نطهو الشوباتي على النار، وكان الصغار في المنزل ينتظرون أن تصبح جاهزةً، ويحاول كل منهم أن يأخذ دوره بتحريكها، أما اليوم فأصبحنا نحضّرها على الغاز داخل المنزل"
وتحكي غادة لرصيف22، قصة خبز التنور: "قبل خمسين عاماً، لم يكن الغاز متوافراً في القرى البعيدة، وكنا نعتمد على الحطب للتدفئة والطهي، ثم بدأنا باستخدام التنور لإعداد الخبز. كانت جدّتي تخبرنا بأن تواجد التنور في البيت يزيد من الرزق، وأن كل بيت لديه تنور لا يمكن أن يدخل الجوع من بابه".
وترى السالم أن خبز التنور ليس خاصاً فقط بالمطبخ العراقي أو السرياني: "التنور المصنوع من الطين، من أقدم وسائل صناعة الخبز، ومعظم الدول تستخدمه إلى الآن مثل لبنان وسوريا وتركيا وإيران، لكن لكل مطبخ وصفته الخاصة، إما بإضافة مكونات جديدة كالسمسم وحبة البركة وغيرهما، أو بالتفنن بأشكال أقراص الخبز، لكن برغم تطور الزمن وظهور أنواع عديدة من الأفران التي تعمل على الغاز أو الكهرباء، لا تزال الأسر العراقية تفضّل الخبز المطهو على النار".
هريسة الحنطة
ربما يعرف الجميع هريسة الحنطة، التي تتكون من القمح المقشور والمجروش، الذي يضاف إليه اللحم المسلوق، وفق ما تكشف السالم: "يتم إعداد الهريسة على النار في قرى الموصل، وعلى الغاز داخل المنازل. وتُعدّ هريسة الحنطة من الأطباق السريانية المعروفة التي نالت إعجاب المطابخ الأخرى، فأصبحت العائلات في سوريا ولبنان تطهوها في مناسباتها وتُسمى شوربة الحنطة".
وعن طريقة تحضيرها، تقول السالم: "نضع اللحم والعظام على النار، ونتركها حتى تغلي الماء، وعند نضوج اللحم، نستبدل مياه اللحم بأخرى نظيفة وتضاف إليها المنكهات، ثم نضيف القمح المقشور، ونبدأ التحريك ونسمّيها باللغة العامية "الخبط" بالملعقة الخشبية الكبيرة، ونستمر في التحريك لساعات عدة حتى يتحول اللحم مع الحنطة إلى هريسة، ثم نضيف السمن العربي، ولا نأكلها إلا ساخنة".
وتشرح السالم أهمية طبق الهريسة في المطبخ السرياني: "الهريسة دائماً حاضرة في المناسبات والأعياد الدينية والمهرجانات، لأن طريقة تحضيرها تعتمد على التعاون، فتجتمع العائلة والأقارب للمشاركة في التحريك والتأكد من قوة النار، وإعداد الخبز، الذي يقدَّم بجانب طبق الهريسة. بعض العائلات تضيف البطاطا والثوم أيضاً".
الدولمة السريانية
الدولمة هي أكلة شعبية عراقية يتميز بها المطبخ العراقي والكردي، واللافت أن الدولمة السريانية تختلف عن بقية أنواع الدولمة في العراق وتركيا، وعن ذلك تشرح سعاد المالح المقيمة في مدينة عينكاوا في أربيل: "اعتادت العائلات الآشورية على إعداد الدولمة المسلوقة بالسمّاق فقط، لكن الآن تنوعت طرائق طهي الدولمة، وبات البعض يضيف الكثير من البهارات ودبس الرمان والليمون إليها، ما أفقدها مذاقها الأصلي".
وعند سؤالها عن أصل الدولمة، تضحك سعاد وتقول: "كل مطبخ ينسب الدولمة إلى أطباقه، فالأتراك يقولون الدولمة أصلها تركية، والإيرانيون والعراقيون يرددون الكلام نفسه، لكن باعتقادي أن الدولمة هي طبق مشترك بين جميع هذه المطابخ، لكن كل مطبخ يعدّها على طريقته، فالدولمة مثلاً في سوريا ولبنان تُسمّى 'محاشي'، ويتم إعدادها بمعجون الطماطم، أما في العراق فلا نضيف معجون الطماطم، وفي المطبخ السرياني نسلقها بالسمّاق، لذلك لا يمكننا أن ننسبها إلى مطبخ محدد، لكن يمكننا القول إنها من الأطباق الشهية والمعروفة في بلاد ما بين النهرين".
"الخشيشة" و"الجريش"
تعود سعاد بذاكرتها إلى سطح منزل عائلتها: "كنا نسلق الحنطة على الحطب، ثم نشمسها على السطح، ونواظب على تحريكها مرتين أو ثلاث مرات في اليوم حتى تجفّ، وأخيراً نجمعها ونُخرج منها الحجر الصغير أو الشعير أو الزيوان، ثم نحفظها في مطبخنا للشتاء، ونطهو منها الخشيشة والبرغل والجريش والكبة الموصلية".
من أشهر أطباق المطبخ السرياني والآشوري الكبة الموصلية، أو الكمخة باللغة السريانية، التي يتم إعدادها بطرائق مختلفة؛ كبة الأرز، كبة المرق أي مع شوربة معجون الطماطم، كبة القرع، الكبة المسلوقة أو المقلية. تقول المالح: "اللحم المفروم والبصل والزيت تعطي نكهةً خاصةً للكبّة، وتتوافر الكبة الموصلية مثلجةً في المحال والمولات، لكن لا يمكن لأي عائلة سريانية كلدانية أن تحتفل بمائدة تخلو من الكبّة".
وبرغم أن طبق الكبة يتم حضيره في معظم الدول العربية، كطبق رئيسي أو جانبي مع الأطباق الأخرى، إلا أن الكبة الموصلية تتفرد بطعمها الخاص الذي يوفره المطبخ السرياني في الموصل، بحسب المالح: "نطهو الكبة بلحم الغنم، ويمكن تناولها مسلوقةً أو مقليةً، وأكثر ما يميزها عن غيرها دبس الرمان والصنوبر المقلي والقرفة المطحونة".
وتصف المالح المطبخ السرياني الكلداني الآشوري بأنه "أبو المطابخ"، فمنه خرجت جميعها، لأن معظم الحضارات بدأت من بلاد ما بين النهرين، وتناقلت الشعوب العادات والتقاليد في اللباس والطعام، واندمجت مع بعضها.
"الهريسة دائماً حاضرة في المناسبات والأعياد الدينية والمهرجانات، لأن طريقة تحضيرها تعتمد على التعاون، فتجتمع العائلة والأقارب للمشاركة في التحريك والتأكد من قوة النار، وإعداد الخبز، الذي يقدَّم بجانب طبق الهريسة"
في هذا السياق، يؤكد مدير متحف التراث السرياني، برنارد يوسف، في حديثه إلى رصيف22، أن مديرية التراث والمتحف السرياني، التابعة لوزارة الثقافة والشباب في حكومة إقليم كردستان العراق، تحرص على الحفاظ على المطبخ السرياني، وتعريف بقية المجتمعات بتنوعّ الوصفات السريانية والكلدانية والآشورية، عن طريق مشاركة الأطباق السريانية في البازارات والمهرجات الشعبية، وجميع المناسبات التي تسهم في تشجيع الزوار على التعرّف على المطبخ السرياني، وفي الوقت ذاته، تعود بمردود مادي على النساء المشاركات.
ويختم يوسف حديثه بالقول: "المطبخ السرياني حافل وغنيّ بالأطباق الشهية التي تعبّر عن روح التراث السرياني العميق المتجذر في تاريخ العراق، وما زالت العائلات السريانية تواظب على تحضير الأطباق التي ورثتها عن الأمهات والجدّات وتعلّمها للأبناء والبنات".
في الختام، يُعدّ العراق من الدول الغنية بشعوبها وأعراقها المختلفة والمختلطة التي أضفت تنوّعاً إلى المائدة العراقية، وعرّفت الزائر/ ة بالكثير من الوصفات القديمة التي تواظب العائلات على تحضيرها وتعريف العالم بها من خلال المناسبات الاجتماعية والدينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت