بعد أيامٍ متواصلةٍ من البكاء، أقرّر سرقة بعض الفرح فألبس فستاناً أحمر، وأذهب إلى متحف المستقبل في دبي، حيث الكثير من أضواء الزينة والأطفال السعداء بالذرة المشوية والفعاليات الترفيهية. حمل بابا نويل طفلةً تبكي لأنها خسرت باللعبة، فأتمنى لو كنت بابا نويل يحمل كل الأطفال الخائفين والحزانى من الحرب والجوع والفقد، والذين لم يحالفهم الحظ ليجربوا شعور التقلّب في فراشهم الدافئ بانتظار العيد وثياب العيد.
أشاهد الأطفال المدلّلين وهم يكتبون لائحة أمنياتهم للعام الجديد، وأمنيات أطفالنا الخالية من الهدايا وأضواء الزينة شجرة الميلاد، بل أن يناموا فقط شبعانين وآمنين ودافئين، متأكدين بأنهم سيستيقظون صباحاً ليجدوا عائلاتهم تبتسم لهم، أمهاتهم تحضر الشاي ولفائف الزعتر بخبزٍ خرج من الفرن للتو، وآباءهم يلبسون كوفياتهم ويستعدون للذهاب إلى العمل رغم أنه صباح العيد!
وحتى لا تبكي أمي، أريها ثيابي الجديدة والبيت الذي زينته بالكريما، بينما أفضّل أن أعيش عمراً كاملاً على ضوء الشمعة وآكل أطيب "رز بحليب" في العالم، فقط لأنها هي من أعدته
هل اعتدنا؟
هذه ليست السنة الأولى التي أشاهد فيها بابا نويل غير قادرٍ على إيجاد طريقه إلى الأطفال السعيدة بين البيوت المهدمة، وتبدو حقيقة أنها لن تكون السنة الأخيرة الأكثر قسوة مما توقعت، مع هذا فإني، بطريقةٍ ما، زيّنت شجرتي مثلما كنت أفعل في سوريا.
أعتقد بأن محاولاتنا لاقتناص الفرح مقاومة من نوعٍ مختلف، أفرد الشجرة ودموعي سوية كل سنة، ثم أرسم ابتسامةً على وجهي وأعلق أحزاني على الشجرة مع الزينة، وبعد ذلك أسكب نخباً وأرفعه عالياً: نخب الفرح الذي سننتزعه من أنف الحروب مثلما تنتزع قلوبنا منا، نخب حريتنا وكرامتنا وما تبقى لنا من أهلٍ وأصحاب!
في دبي، مدينة النور والكهرباء التي لا تنتهي، حققت حلماً استمر لثلاثة عشر عاماً في سوريا: اشتريت شجرة ميلادٍ لا تنطفئ أَضواؤها بسبب انقطاع الكهرباء ولا بسبب فاتورتها، شغّلت الشجرة ونشرت صورتها على كل وسائل التواصل الاجتماعي، أسعد من طفلةٍ تذوّقت البوظة لأول مرّة، لكنّي لا أضيئها غير بضع ساعاتٍ يومياً كنوعٍ من العادة ومن الشعور بالذنب، فأختي لم تر الشجرة مضاءة السنة بعد، تقطع الكهرباء قبل عودتها من المدرسة وتأتي بعد خلودها للنوم، كلّما فكرت في هذا أطفأتُ خاصتي ثم شغلتها بعد ساعاتٍ لتواسيني.
غير أن شرح هذا للعالم يكون أصعب يوماً بعد يوم، فكيف أخبر أصدقائي، الذين لم يكونوا يوماً في سوريا ولا فلسطين، أن الحرب جعلتني أحاول الفرح حتى في أحلك اللحظات، لأني أعرف أنها فرص لن تتكرّر، وبأن هذه اللحظات القصيرة من السعادة لا تفني عمراً من التعب والخوف والحزن، هل سأَضطر كل مرةٍ لفتح قلبي وأتركهم يرون الجحيم القابع داخل كل مرة، أم عليّ التظاهر بأني فعلاً لا أهتم مثلما يظنون؟ لا يهم، فهم أيضاً لا يهتمون لما عانيته حتى يصبح لدي شجرة مضيئة!
عم يتلاقوا الأحباب وهدية خلف الباب
بينما يفرز الحطب ماءه خلال احتراقه في المدفأة؛ وينفصل قلب الكستناء عن قشرته القاسية، مجهّزاً نفسه لنتشاركه أمام شاشة التلفاز التي تعرض فيروز وهي تغني "ليلة عيد.. ليلة عيد"، كبرتُ أنا وكبر رأسي معي بالضرورة، ولم يغيّر ذلك حقيقة أن قبلة أبي الدافئة تذكرني بأني لست متروكة مع رأسٍ بحجم البيت وحدي. كانت عائلتي هي الأحباب، وحتى بعدما صارت الكستناء حلم والهدايا أقل، بقينا كلّ عيد نجتمع خلف الباب لنغنّي ونضحك ونشرب عرقاً ونبيذاً بلدياً، ونتمنى لبعضنا أعواماً أفضل، بلا شجرة وبلا أَضواء ولا زينة!
اليوم أتصل بأمي فتخبرني بأنها سعيدة لأني أخيراً سأتمكن من مشاهدة لألعاب النارية في دبي وآكل البوظة في الشتاء، وحتى لا تبكي، أريها ثيابي الجديدة والبيت الذي زينته بالكريما، بينما أفضّل أن أعيش عمراً كاملاً على ضوء الشمعة وآكل أطيب "رز بحليب" في العالم فقط لأنها هي من أعدته، أقول هذا لأختي فتخبرني بأنه عليّ أن أقع في الحب.
أسكب نخباً وأرفعه عالياً: نخب الفرح الذي سننتزعه من أنف الحروب مثلما تنتزع قلوبنا منا، نخب حريتنا وكرامتنا وما تبقى لنا من أهلٍ وأصحاب
الأمر بهذه البساطة إذن، يمكن للحب إنقاذنا من الغربة بطريقة لم نتوقعها، لكنّي عندما أحببت صيّرني الحب كالبطاطا الحلوة، طرية وجاهزة لتهرسني الوحدة، وبهدوء وصبر الجمر على الزيت، تعلّمت أن أخفض توّقعاتي من الحب، لا أريد هدايا ولا قبلاً ساخنة، لا أريد عبارات غزل ولا أن يقول لي حبيبي بأنه معي، إذ أعرف أنه ليس كذلك، أريد حضناً دافئاً وقبلة على جبيني، لأشعر لو للحظة بأن شخصاً ما يشبه أبي، قد يكون قريباً مني بما يكفي لأن يدفعني للبكاء أخيراً.
صرنا البلاد التي تركناها
العام الماضي، كتبت تقريراً عن دمشق تستقبل عيدها بلا أضواء، كنت مستغربة من إمكانية بلد كامل على تجاهل كل خرابها وجروحها المفتوحة وطرقاتها المجبولة بالقهر والاستمرار في تعليق الزينة والمضي قدماً، وأتذكرها الآن بينما ترافق أفكاري ميادة بسيليس تغنّي "ما تخيّلت ترجعلي متل الـي ما سمع بالقهر ولا بالجوع".
أعطتني البلاد دافعاً لأن أحاول لآخري حتى أصبح جديرةً بالخروج منها، وهذا نجح لأهرب من بلادي، وكذا أضحك ملء فمي الآن، لا لشيء غير لأهرب مني، صرت البلاد التي أرعبتني باختلاف بسيط، كوني لا أملك حدوداً أطير عبرها، والاختلافات البسيطة إذا لم تعرفوا... قاتلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي